جات زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى الصين، يومي 16 و17 من الشهر الجاري، وهي الزيارة الثانية للرئيس بوتين إلى الصين في غضون 6 أشهر فقط؛ لتؤكد على ثنائية تكرسَّت بالفعل في العلاقات الدولية، وربما تستمر بأشكال مختلفة لاحقاً، وهي ثنائية (شي – بوتين)، فقد التقى الزعيمان أكثر من 40 مرة منذ عام 2010.
الزيارة الأخيرة جاءت في ظل تطورات دولية وإقليمية تتباين فيها مواقف موسكو وبكين كثيراً عن مواقف الولايات المتحدة وحلفائها. كما تمت الزيارة بعد أيام قليلة من تولي بوتين ولايته الرئاسية الجديدة، وأيام أقل من عودة الرئيس الصيني من جولة أوروبية طُولِبَ فيها بدور أكبر في كبح الحرب الروسية في أوكرانيا.
ولقد انعكست هذه الأجواء وغيرها على محادثات الرئيسين، والتي لم تقف عند الرئيس الصيني، ولا عند العاصمة بكين، وفي هذا دلالات كثيرة أيضاً؛ ومن ثم جاءت المحصلة معبرة ليس فقط عن المستوى الذي وصلت إليه العلاقات، وإنما مؤكدة مواقف الدولتين تجاه القضايا المتعلقة بالنظام الدولي والنظم الإقليمية في شتى أرجاء العالم تقريباً.
أجواء القمة:
زيارة بوتين إلى الصين هي الأولى له بعد بدء الولاية الرئاسية الجديدة. وقد حرص هو ومضيفه على الإشارة إلى دلالات هذا الأمر، وإن كان بوتين قد ذكر أيضاً أن الرئيس شي كان قد اختار روسيا في العام الماضي 2023 لتكون أولى محطات زياراته الخارجية بعد تجديد انتخابه أيضاً. وبعيداً عن المجاملات في هذا الجانب، وكذلك كون زيارات بوتين الخارجية محدودة النطاق منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا؛ إلا أن الأمر لا يخلو من إيضاح لمدى أولوية العلاقات بين الدولتين على جدول أعمال صانع القرار في كل منهما، خاصة وأن تلك العلاقات قد خطت خطوات كبيرة وترسَّخت في السنوات الأخيرة رغم كل الانتقادات الغربية؛ إذ تصر الصين دائماً على أنه لا يملك أي طرف أن يضع قيوداً على علاقاتها مع موسكو أو مع غيرها، ودائماً ما تؤكد أن تعاونها مع روسيا مفتوح الأفق.
هذه القمة جاءت أيضاً بعد أيام من جولة الرئيس الصيني الأوروبية، والتي زار فيها كلاً من فرنسا وصربيا والمجر، في الفترة من 5 إلى 10 مايو الجاري. وقد كانت علاقات بلاده مع روسيا، خاصة فيما يمكنها القيام به، وما لا ينبغي عليها القيام به، من وجهة النظر الأوروبية، حاضرة بكثافة في المحطة الفرنسية، خاصة في الاجتماع الثلاثي الذي حضرته رئيسة المفوضية الأوروبية، أرسولا فون دير لاين. ولقد كانت الصين واضحة في أنها ليست طرفاً في الأزمة الأوكرانية، وأنها تبذل قصارى جهدها من أجل التوصل إلى تسوية سلمية لتلك الأزمة، بل ومذكرة في نفس الوقت بالأسباب الهيكلية للأزمة، والتي تلقي باللائمة على الولايات المتحدة وحلف "الناتو"، نظراً لعدم مراعاة مقتضيات الأمن القومي الروسي.
بطبيعة الحال لا تقبل الصين ما يُوجَّه إليها من تُهم على صعيد تزويد روسيا بالسلاح والعتاد العسكري، وحتى المواد التي يمكن أن تُستخدَم في تصنيع السلاح، وتشير في نفس الوقت إلى أن العالم كله يعرف من الذي يُغرِق ساحة المعركة بالسلاح، وكيف أن هذا الفعل ينم عن عدم الرغبة في التسوية السياسية للأزمة.
في هذا السياق، جاءت القمة الصينية الروسية كذلك في ظل تطورات على أرض المعركة تصب في صالح روسيا في أوكرانيا، فبعد أن عولت الولايات المتحدة وحلفاؤها كثيراً على نجاح ما أُسمِيَ بالهجوم الأوكراني المضاد في ظل كثافة تدفق الأسلحة الغربية على كييف، ها هي موسكو تتقدم أكثر وتفتح جبهات جديدة، فيما تقر أوكرانيا بتراجعات، وتطلب المزيد من المدد في وقت بات هناك تململ بخصوص المساعدات، ناهيك عن ربطها بقضايا أخرى. كل هذا وما زال الحديث في الغرب يدور عن هزيمة استراتيجية لروسيا وطرح أفكار خاصة بمفاوضات لا تقبل روسيا بالأسس التي تقوم عليها.
لقد سبق القمة أيضاً ما يمكن تسميته ببوادر جولة جديدة من الحرب التجارية بين واشنطن وبكين؛ فقد أقدمت الولايات المتحدة على فرض رسوم عالية على بعض المنتجات الصينية في ظل تزايد الانتقادات الأمريكية لما تُطلِق عليه القدرة الإنتاجية الصينية المفرطة، وما يرتبط بذلك من مساعدات تُقدَّم للشركات الحكومية الصينية، وقواعد الملكية الفكرية التي لا تصان، وغيرها من القضايا التي لا تعدم الصين الرد عليها، وهي التي كانت قد أعلنت منذ الإجراءات الواسعة التي اتخذتها إدارة الرئيس ترامب حيالها على هذا الصعيد، بأنها لا تريد الحرب التجارية ولكنها مستعدة لها؛ ومن ثم فإنها لن تسكت على ما قامت به واشنطن. وكما هو معلوم فإن الشركات الصينية تتعرض لعقوبات أمريكية ليس فقط على الخلفية المذكورة، وإنما أيضاً على خلفية علاقاتها مع روسيا، وهو ما ترفضه روسيا والصين تماماً باعتباره فرض عقوبات أحادية.
ولا يمكن كذلك إغلاق باب الحديث عن أجواء القمة الصينية الروسية من دون الإشارة إلى جبهات ساخنة في الشرقين الأوسط والأقصى، ففي الشرق الأوسط طال أمد الحرب في غزة، مع تزايد كبير في أعداد الضحايا دون ظهور مؤشرات على قرب توقف الحرب. وتدرك روسيا والصين أن الأمر لا يقتصر على غزة، بل إنهما على عكس توجهات أخرى تربطان ربطاً مباشراً بين التوترات الأخرى في المنطقة وبين ما يحدث في غزة. وفي الشرق الأقصى حيث تخوم الدولتين تتعقد الأمور أكثر وأكثر في شبه الجزيرة الكورية، في ظل إصرار كوري شمالي على اكتساب كل عناصر القوة بما فيها الأسلحة غير التقليدية أمام تصاعد المناورات الأمريكية مع الحلفاء في المنطقة، مع توجُه أمريكي لما يمكن تسميته دمج التحالفات في منطقة شرق آسيا، وتوصيف واشنطن لكلٍ من بكين وموسكو كعناصر تهديد، ومعهما كوريا الشمالية، علاوة على القضايا الخلافية الكبرى بالمنطقة، وأبرزها قضية تايوان، وقضايا أخرى من قبيل تطورات الشراكة الأمنية بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وقيام اليابان بإلقاء مياه محطة فوكوشيما المُعالَجَة في مياه البحر.
رسائل القمة:
في ظل هذه الأجواء جاءت مُخرَجات القمة لتُوجِّه رسائل واضحة بخصوص ما هو مثار من قضايا. ويمكن تلخيص أهم الرسائل التي وجهتها القمة في ثلاثة مستويات، أولها على صعيد النظام الدولي، وثانيها على صعيد النظم الإقليمية، وثالثها على جوهر علاقات الدولتين وآفاقها المستقبلية على ضوء ما تحقق وفي ظل التحديات القائمة.
1 - النظام العالمي: في السنوات الأخيرة دائماً ما تُتهَم بكين وموسكو بأنهما على رأس من يهددون النظام الدولي القائم على القواعد. وتذهب واشنطن إلى أنه رغم ما تقوم به روسيا في أوكرانيا، فإن الصين هي التي تمتلك من الأدوات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية ما يُمكنُها من خلق تهديد أكبر وبعيد المدى لهذا النظام القائم على القواعد. وعلى الفور يأتي الرد الصيني ليس فقط بالنفي، وإنما بالتأكيد أنها، ومعها دول أخرى على رأسها روسيا، يعملون على المحافظة على النظام الدولي المستند على القانون الدولي والقائم على مبادئ العدالة والديمقراطية. وهذا ما تم تأكيده في القمة الأخيرة، مع تأكيد كذلك معارضة الهيمنة الأمريكية والتصرف بعقلية الحرب الباردة.
وقد اعتبر الرئيس شي تعاوُن الدولتين على هذا الصعيد من ضمن المبادئ الحاكمة لعلاقاتهما، بحيث يكون بينهما تعاون استراتيجي بما يضمن أن تكون الأمم المتحدة في مركز النظام الدولي القائم على القانون الدولي، وأن ينسقا في المحافل الدولية من أجل عالم متعدد الأقطاب، وعولمة قائمة على التعددية الحقيقية. ليس هذا فحسب، وإنما السعي كذلك من أجل توحيد الجنوب العالمي ليصبح أقوى. وفي نفس السياق تعارض الدولتان ما تسميانه "تسييس" قضايا حقوق الإنسان، و"تسييس" عمل بعض المنظمات المعنية بقضايا فنية مثل منظمة الصحة العالمية. ناهيك عن معارضة الإجراءات التي تُعد مخالفة لقواعد منظمة التجارة العالمية.
ويُلاحَظ هنا أن الدولتين مستهدفتان فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، كما أن الصين ترفض المحاولات الأمريكية للسماح لتايوان بالمشاركة في اجتماعات منظمة الصحة العالمية، وتَعتبِر الدولتان الإجراءات التجارية، بما فيها العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وغيرها من الدول ضدهما، مخالفة لقواعد منظمة التجارة العالمية، وتعارضان فرض قيود تجارية بحجة معالجة التغيرات المناخية، أو ربط هذه التغيرات بتهديدات السلم والأمن الدوليين، وترفضان استخدام احتكار المعلومات والإجراءات القسرية الأحادية في المجال التكنولوجي.
2 - النظم الإقليمية: لا يخفى أن الاهتمام الصيني الروسي يشمل شتى أرجاء المعمورة، وإن كان التركيز ينصب أكثر على المناطق القريبة والمناطق الأكثر اشتعالاً. وهنا شقان أولهما بيان أوجه الخطأ أو التجاوز ونتائجها السلبية التي تقوم بها قوى أخرى. وثانيهما تقديم خطوط عريضة لما يمكن تسميته البدائل لما تقوم به تلك القوى أو طرق التعامل مع ما تقوم به للتخفيف من آثارها. وسيتم الاكتفاء هنا بالإشارة إلى ما يحدث في منطقة أوراسيا، وآسيا والمحيط الهادئ، والشرق الأوسط.
دون الدخول في تفاصيل، ترى بكين وموسكو أن الولايات المتحدة في سعيها للمحافظة على هيمنتها العسكرية تقوم بتهديد الاستقرار الاستراتيجي عبْر نشر نظام الدفاع الصاروخي، والقيام بتدريبات عسكرية مشتركة، والعمل على نشر صواريخ متوسطة المدى في آسيا والمحيط الهادئ. وفي كل ذلك تهديد لأمن بكين وموسكو، ومن ثم فإن التنسيق بينهما سوف يتزايد من أجل التصدي لما تقوم به واشنطن من احتواء مزدوج لهما، وسوف تتواصل مساعيهما لدعم الربط بين مبادرة الحزام والطريق والاتحاد الاقتصادي الأوراسي. كما اتفقت الدولتان على زيادة التعاون بينهما وبين كلٍ من منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي للمحافظة على الأمن في المنطقة الأوراسية.
وفي المقابل ترفض الدولتان ما تقوم به الولايات المتحدة من إجراءات من شأنها تغيير توازن القوى في شمال شرقي آسيا، ضمن منظورها الأوسع لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وما يتضمنه من تحالفات وشراكات أمنية ومنها تحالف "أوكوس" الذي تعارضه الدولتان من أكثر من زاوية، بما في ذلك اعتباره تهديداً للنظام الدولي لمنع الانتشار النووي، كما حذرت الدولتان من أن يؤدي ما تقوم به واشنطن وحلفاؤها إلى نزاعات مسلحة في شبه الجزيرة الكورية.
وفيما يتعلق بقضيتي أوكرانيا والشرق الأوسط، فقد حضرت المسائل المبدئية، ومن بينها ضرورة معالجة الأسباب الجذرية، بما يُمكِّن من الوصول إلى تسويات وحلول مستدامة. وقد لوحظ أن بوتين قد رحب بالدور الصيني الذي وصفه بالموضوعي والعادل والمتوازن... لكن تبقى الإشكالية في القواعد التي تقوم عليها هذه التسوية وشروطها في ضوء ما آلت إليه التطورات على الأرض، والتي باتت روسيا تطالب بأخذها في الاعتبار عند الحديث عن أية تسوية.
وبالنسبة للشرق الأوسط، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بات في حاجة إلى تسوية سريعة، وحل القضية الفلسطينية استناداً إلى حل الدولتين والقرارات الدولية ذات الصلة. وكما هو معلوم فإن هناك شبه تطابق بين الموقفين الصيني والروسي بخصوص الصراع المحتدم منذ أكثر من سبعة أشهر، وهناك تنسيق تام بينهما في الأمم المتحدة على هذا الصعيد.
3 - العلاقات الثنائية: سيتم الاكتفاء هنا بثلاث رسائل أساسية، أولى هذه الرسائل أن العلاقات بين الدولتين آخذة في التنامي رغم تحذيرات وقيود أطراف خارجية، ولهذا الأمر أسبابه وتجلياته؛ إذ القفزات المتوالية في التبادل التجاري الذي وصل في عام 2023 طبقاً للأرقام الصينية إلى حوالي 240 مليار دولار، علماً بأن قيمة التجارة بينهما كانت حوالي 85 مليار فقط في عام 2017؛ أي أن أكثر من المُستهدَف قد تحقق على هذا الصعيد. وأما عن الأسباب، فعلى رأسها إرادة الدولتين في الدفع بالعلاقات قُدماً رغم كل العوائق. ويتفرع عن ذلك التوجه إلى إتمام التبادلات التجارية بالعملات المحلية. وفي هذا السياق ذكر الرئيس الروسي أن 90% منها تتم بالعملات المحلية. وفي الوقت الذي أوصدت فيه أبواب التصدير أو أوشكت أمام صادرات الطاقة الروسية في أسواق مهمة وأساسية، فإن الأبواب قد فتحت كاملة أمام تلك الصادرات إلى الصين إلى الدرجة التي جعلت بوتين يتحدث عن تحالف استراتيجي مع الصين في هذا القطاع. وكل هذا يستدعي مشروعات بنية أساسية كبيرة بين الدولتين، مروراً بدول أخرى. كما أن الشركات الصينية مُرَّحَبٌ بها للدخول في مشروعات في روسيا، بما في ذلك منطقة الشرق الأقصى الروسي.
الرسالة الثانية أكدها الرئيس الصيني عندما اعتبر أن العلاقات مع روسيا تُعد بمثابة نموذج للعلاقات بين القوى الكبرى؛ إذ صرح أن لها مبادئ خمسة تتمثل في: الاحترام والدعم المُتبادَل لتحقيق المصالح المشتركة، والتصرف بما يحقق الربح للجانبين، والمحافظة على الصداقة الممتدة لقرون، والتصرف من منطلق روح التعاون الاستراتيجي، ودعم التسوية السياسية للقضايا الساخنة بناءً على الثقة والعدالة.
ثالثة الرسائل تتمثل في أن العلاقات ليست فقط لقاءات بين كبار المسؤولين، وتدريبات عسكرية مشتركة، وتبادلات تجارية واستثمارات، وإنما يبقى الجانب الثقافي والعلمي ذا أهمية كبيرة. وقد تم التخطيط لكي تكون هناك أنشطة ثقافية صينية في 38 مدينة روسية في مقابل أنشطة ثقافية روسية في 51 مدينة صينية على مدار عامي 2020 و2025. وفي هذا السياق تأتي التبادلات السياحية، ودراسة طلاب كل طرف في المؤسسات العلمية لدى الطرف الآخر، ناهيك عما ينشأ بين تلك المؤسسات من مشروعات بحثية مهمة، خاصة تلك التي تكون في مجالات الفضاء والطاقة النووية.
أخيراً؛ من الواضح أن القمة الصينية الروسية الأخيرة جاءت امتداداً لسلسلة كثيفة من التواصل بين الدولتين بما في ذلك لقاءات القمة. كما أن مخرجاتها تؤشر على استمرار الزخم في تلك العلاقات، ليس فقط على الصعيد الثنائي، وإنما على الصعيد العالمي كذلك. ولم تحمل القمة جديداً بالنسبة للحرب في أوكرانيا؛ ومن ثم فلا غرو ألا يروق الأمر للولايات المتحدة وحلفائها، كما أعربت اليابان عن احتجاجها على ما ورد في بيان القمة من وصف للمياه التي تصرفها من محطة فوكوشيما بأنها ملوثة نووياً. ويمكن القول إن روسيا والصين تصران على أن المنطق القديم في العلاقات الدولية لم تعد له أهلية للبقاء، بينما تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها منع تغيير المنطق السائد وعدم الإضرار بالقيم والمصالح التي يدافعون عنها.