تُبدي بعض دول منطقة الشرق الأوسط اهتمامًا متزايدًا بتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول قارة أمريكا اللاتينية لاعتبارات عدة، أهمها تنويع أسواق صادراتها، واقتناص مزيد من الفرص الاستثمارية الممكنة بأسواق القارة. ولهذين السببين، كثفت دول الإقليم من جهودها الدبلوماسية والسياسية بالقارة في السنوات الماضية من أجل إبرام اتفاقات تجارية واستثمارية على أساس ثنائي أو مع التكتلات الإقليمية مثل اتحاد "ميركسور" (الذي يضم البرازيل، والأرجنتين، وبارجواي، وأورجواي)، وهى اتفاقات من شأن تفعيلها أن تفتح آفاقًا تجارية واستثمارية واعدة بين الطرفين مستقبلا.
لكن على ما يبدو، فإن تطلعات الإقليم لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية مع القارة ستواجه صعوبات مستقبلية ناجمة عن ظروف سياسية واقتصادية ضاغطة تمر بها دول القارة الآن، وتتمثل بالأساس في تراجع أسعار النفط، علاوةً على ارتفاع وتيرة الاضطرابات السياسية والاجتماعية بعدد من دول القارة، وخاصة البرازيل وفنزويلا، وهى ظروف من شأنها أن تقود إلى تباطؤ التبادل التجاري والاستثمارات في الأمد القصير. ومع ذلك، فإن فرص التعاون الاقتصادي قد تزيد مع بعض دول أمريكا اللاتينية مثل كولومبيا التي وقعت، في سبتمبر 2016، اتفاقًا للسلام مع منظمة "فارك" الإرهابية، والذي من شأنه أن يدفع النمو الاقتصادي بالبلاد.
آفاق جديدة:
يتزايد اهتمام بعض دول الشرق الأوسط بتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول القارة اللاتينية في ضوء اعتبارات عديدة تتمثل في:
1- تنويع الأسواق: سعت دول الإقليم إلى إدارة تحول تدريجي في سياستها التجارية يقوم على بناء ثقة مع شركاء تجاريين جدد ومن بينهم دول قارة أمريكا اللاتينية. ولإجراء هذا التحول، أبرمت بعض دول الشرق الأوسط اتفاقات لتحرير التجارة مع اتحاد "ميركسور" مثل لبنان في عام 2014، وتلتها مصر في عام 2016. كما تتقدم العلاقات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول أمريكا اللاتينية بوتيرة منتظمة، حيث تتيح المعطيات الجغرافية والاقتصادية لكل منهما أسسًا لعلاقات قوية بين الطرفين تقوم على تعزيز التعاون في مجالات بعينها مثل النفط والغذاء والسياحة وغيرها.
وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى ذروته في الأعوام الخمس الماضية. ففي عام 2013 سجل 23.6 مليار دولار، ثم تراجع بشكل حاد في أعقاب تراجع أسعار النفط ليصل إلى قرابة 15 مليار دولار في عام 2015. وربما يمكن القول إن تعزيز المساعي لإنهاء مفاوضات تحرير التجارة بين منطقة "ميركسور" ودول المجلس، والتي لازالت متعثرة حتى الآن، يمثل أحد المتغيرات التي قد تفتح آفاقًا واسعة لتعزيز التبادل التجاري بين الطرفين.
التبادل التجاري بين الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي (بالمليار دولار)
كما وقعت تركيا اتفاقية تجارة حرة مع تشيلي عام 2009، ودخلت حيز التنفيذ عام 2011. وفي إطار سياسي تجاري يبدو أكثر انفتاحًا على أسواق العالم المختلفة، كشف وزير الاقتصاد التركي السابق مصطفى إلياطش، على خلفية زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لثلاث دول لاتينية هي الإكوادور، وبيرو، وتشيلي، في فبراير 2016، عن تطلع تركيا لمضاعفة التبادل التجاري مع دول القارة إلى نحو 20 مليار دولار بحلول عام 2023 مقابل قرابة 8 مليارات دولار بنهاية عام 2014.
وبالنسبة لدولة أخرى في المنطقة كإيران، قد تبدو الآن أكثر استعدادًا للانفتاح على مزيد من الشركاء التجاريين في العالم بعدما رُفعت العقوبات الاقتصادية عليها في بداية عام 2016، والتي ستُتيح لها استعادة نشاطها التجاري مع أسواق القارة بحرية، كما ستتمكن بعض دول القارة من اقتناص صفقات تجارية كبرى مع إيران واللازمة لإعادة تأهيل بنيتها التحتية، مثلما تبين المفاوضات التي تُجريها إيران منذ شهور، وتحديدًا في فبراير 2016، مع البرازيل لشراء 50 طائرة "إمبراير".
وفي ظل اجتياز الطرفين المرحلة الأساسية لبناء التفاهمات الضرورية حول تحديد المكاسب التجارية لكلٍّ منهما، بجانب بناء الثقة والخطوات التنفيذية اللازمة لتيسير التجارة البينية، يمكن ترجيح تصاعد معدلات التبادل التجاري بين دول الإقليم وأمريكا اللاتينية، حيث يملك كل منهما أسسًا قوية لتبادل الواردات الغذائية والنفط وغيرها من المنتجات الصناعية الأخرى. وفي النهاية سيتضاعف مستوى التبادل التجاري البالغ بينهما حاليًّا نحو 34.4 مليار دولار في عام 2015، وهو مستوى أقل كثيرًا من قيم تجارتهما مع الشركاء التجاريين الأساسيين.
2- اقتناص الفرص الاستثمارية: منذ بداية عام 2016، أجرت العديد من دول الشرق الأوسط -وأبرزها تركيا وإيران- جهودًا دبلوماسية واسعة لتعميق علاقتها الاستثمارية مع دول أمريكا اللاتينية. فبالنسبة لإيران، فقد وضعت جولة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في بعض دول قارة أمريكا اللاتينية، في أغسطس 2016، في أجندة أولوياتها تعميق العلاقات الاستثمارية مع تلك الدول في مجالات البنية التحتية والنفط والقطاع اللوجستي وغيرها. وضمت الزيارة 6 دول هى كوبا، ونيكاراجوا، والإكوادور، وتشيلي، وبوليفيا، وفنزويلا.
وتكشف اتجاهات الاستثمار الإيراني السابقة بالقارة حضورًا محدودًا في بعض الدول مثل فنزويلا وبوليفيا. وتمتلك "مجموعة إيران الصناعية لإنتاج الجرارات" 51% من شركة "فينران" الفنزويلية للجرارات، علاوةً على بعض الأسهم لشركة "إيران خودرو" في مجموعة "فينر أوتو". إلى جانب بعض المشروعات المشتركة لاستغلال النفط في فنزويلا بقيمة 4 مليارات دولار والمتوقع تنفيذها مستقبلا.
وفي إطار جولة دبلوماسية تركية، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة رسمية إلى كل من تشيلي، وبيرو، والإكوادور، في فبراير 2016، في سبيل دفع العلاقات الاقتصادية مع الدول الثلاث. لكن ترجمة هذه الزيارة إلى مزيد من المكاسب التجارية ونمو أعمال الشركات التركية بالقارة تحتاج إلى مزيد من تكثيف الجهود الدبلوماسية والسياسية لتحقيق الحد الأدنى المطلوب من المكاسب.
ومع خبرتها الواسعة في أعمال إنشاءات المشاريع الدولية، تبدو حظوظ شركات المقاولات التركية كبيرة لاقتناص مشروعات البنية التحتية والإسكان وغيرها بالقارة مقارنة بغيرها من الشركات الأوروبية أو الأمريكية أو الصينية. وبالفعل، لدى شركات المقاولات التركية أعمال إنشاءات في عدة دول بالقارة، من أهمها فنزويلا لبناء 1488 مسكنًا.
ولتعويض نقص تمويل الاحتياجات الاستثمارية لقطاع الإسكان بفنزويلا، دخلت تركيا مع الأولى في مفاوضات لعقد اتفاقية مبادلة للاستثمار في قطاع النفط والإسكان الفنزويلي بقيمة 2.7 مليار دولار مقابل الحصول على النفط. وقد كان بالإمكان لهذه المقايضة، التي تعثر تنفيذها منذ الدخول في مفاوضات بشأنها عام 2011، أن تُحقق خبرات إضافية ونفوذًا بسوق أمريكا اللاتينية لكلٍّ من شركات الإنشاء التركية الخاصة، وكذلك شركة البترول التركية العالمية التي تقوم بالاستكشاف والتنقيب عن البترول في كلٍّ من كولومبيا والإكوادور أيضًا.
3- مكافحة تمويل الإرهاب: اتخذ حزب الله اللبناني بعض دول أمريكا اللاتينية قاعدة لممارسة عمليات غسيل الأموال وتهريب المخدرات، لا سيما فيما يُعرف بمنطقة الحدود الثلاثية بين الأرجنتين والبرازيل وباراجواي، كما تشير الترجيحات الغربية إلى تورط مجموعات منتمية لحزب الله بالاشتراك مع منظمة "فارك" الإرهابية في أنشطة تجارة المخدرات وتهريبها من كولومبيا إلى أوروبا. وعلى خلفية ذلك، شددت الأجهزة الأمنية الأمريكية بالتعاون مع السلطات المحلية من رصدها لعناصر الحزب داخل القارة لحصار الأنشطة الإجرامية المتزايدة للحزب بالقارة. وفي غضون يوليو 2016، احتجزت الشرطة البرازيلية فادي حسن نابهة العضو السابق في حزب الله بتهمة الاتجار في المخدرات.
وكصدى لانتشار الأنشطة الإجرامية لحزب الله بالقارة، يتضح مدى أهمية التنسيق بين دول الإقليم من ناحية والسلطات المحلية بأمريكا اللاتينية بهدف مكافحة تمويل التنظيمات الإرهابية، والتي تتخذ من الشرق الأوسط مقرًّا لانتشارها جغرافيًّا، ومن القارة وسيلة لتجنيد المقاتلين أو توفير مصادر تمويل إضافية.
4- استقطاب اللاجئين: من دون شك فإن البعد الجغرافي بين أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط يحول دون استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين مثل أوروبا والدول المجاورة ذاتها. ومع ذلك فقد رحبت بعض دول القارة باستقبال اللاجئين السوريين، مثل فنزويلا التي أعلن رئيسها نيكولاس مادورو عن استعداد بلاده لاستقبال 20 ألف لاجئ من سوريا.
ومع ذلك، ظلت البرازيل بشكل عملي الوجهة الرئيسية للاجئين، والتي استقبلت حتى الآن أكثر من 2000 سوري. ومن المتوقع أن تستقبل المزيد بعد إعلان الحكومة البرازيلية، في مايو 2016، مد قرارات تسهيل دخول السوريين للبرازيل لمدة عامين إضافيين.
وفي الاتجاه نفسه، تبنت الأرجنتين وأوروجواي برامج خاصة لإعادة توطين اللاجئين السوريين، وأعدت الأولى "برنامج سوريا" لمنح تأشيرات إنسانية للسوريين الفارين من الصراع. كما أعلنت تشيلي عن استقبال 10 أسر سورية في عام 2015. ولتيسير مهمة دول القارة في هذا الصدد، سيتطلب الأمر تنسيق جهودها مع كلٍّ من المنظمات الدولية والقوى الدولية لتعزيز الحصول على التمويل اللازم لإيواء اللاجئين.
صعوبات متعددة:
تمر دول القارة بصعوبات متزايدة جراء ارتفاع وتيرة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ضوء تراجع أسعار النفط منذ عام 2014، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تراجع أسعار النفط: تسبب انخفاض أسعار النفط في مشكلات اقتصادية عديدة لدول أمريكا اللاتينية، لا سيما تلك التي تعتمد على النفط كمورد رئيسي. وتتعرض حاليًّا دول مثل كولومبيا وفنزويلا والإكوادور لمأزق مالي كبير؛ حيث تزايد ارتفاع العجز المالي، ومن المتوقع أن ترتفع مديونية الحكومة أيضًا. وكنتيجة لذلك، خفضت الوكالات الدولية التصنيف الائتماني للدول السابقة.
2- اضطرابات اجتماعية: تشهد بعض الدول بأمريكا اللاتينة مظاهرات عديدة نتيجة تفاقم المشكلات الاقتصادية، وانخفاض المستوى المعيشي للسكان على غرار فنزويلا. ومع ذلك، تسير تطورات الموقف السياسي في بعض الدول الأخرى بشكل ربما يحقق مزيدًا من الاستقرار الأمني والسياسي، مثل كولومبيا، التي وقعت اتفاق سلام مع منظمة "فارك" في سبتمبر 2016.
فرص أم تهديدات
بناءً على استعراض الظروف السابقة، يمكن استنتاج أن أغلب اقتصاديات القارة ستعاني صعوبات اقتصادية في المستقبل القريب. ويؤكد هذا الاتجاه ما أظهرته تقديرات صندوق النقد الدولي التي أشارت إلى أن معدل نمو اقتصاديات أمريكا اللاتينية سيهبط من سالب 1.4% عام 2016 إلى سالب 2% عام 2017. وحول تداعيات تأثر اقتصاديات الإقليم بهذه التطورات، يمكن استعراض النقاط التالية:
1- تراجع التبادل التجاري: على الأرجح سيؤثر التباطؤ الاقتصادي في كلتا المنطقتين -أى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط- سلبًا على حركة التبادل التجاري بين الطرفين، وهو ما توضحه الإحصاءات، حيث تراجع التبادل التجاري بشدة منذ انخفاض أسعار النفط إلى 34.4 مليار دولار في عام 2015 مقابل 45.8 مليار دولار في عام 2014. ومع ذلك، ستبقى بعض الطموحات المتعلقة بانتعاش التبادل التجاري مرهونة بجنى صفقات تجارية كبيرة بالسوق الإيرانية.
2- فقدان الثقة الاستثمارية: في ضوء الظروف الدولية والمحلية المضطربة، من المتوقع أن يتراجع اتجاه المستثمرين الدوليين لضخ استثمارات باقتصاديات القارة، ويمثل قطاع الموارد الطبيعية أحد أهم القطاعات المتأثرة بشدة في هذا الصدد، حيث أضحى غير مغرٍ للمستثمرين مع تراجع أسعار السلع الأولية، وبنحو أثر سلبًا على جذب الشركات الأجنبية. وانعكاسًا لذلك، هبطت قيم الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 14.2% في عام 2015 لتصل إلى 131 مليار دولار، وبنسبة أكبر في كلٍّ من البرازيل وكولومبيا وأوروجواي بنحو 23% و26% و25% على التوالي.
خريطة الاستثمارات الأجنبية بأمريكا اللاتينية وبحر الكاريبي (بالمليار دولار)
ومع ذلك، تتيح قطاعات أخرى مثل الاتصالات، والعقارات، والسياحة، والطاقة الكهرومائية، فرصًا أعلى لاستقبال الاستثمارات الدولية أو الإقليمية؛ حيث تواصل تحقيق معدلات نمو مرتفعة باقتصاديات القارة. وكنتيجة لذلك، باتت تمثل 49% من تدفقات الاستثمارات الأجنبية في دول مثل البرازيل وكولومبيا.
ومن ناحية مقاصد الاستثمار، تبدو آفاق الاستثمار إيجابية في بعض دول القارة مثل البرازيل وكولومبيا، خاصة بعد اتجاه الأولى، عقب عزل الرئيسة ديلما روسيف، إلى تبني خطة لخصخصة عدد من الأصول الحكومية، من بينها الامتيازات في البنية التحتية، ورخص التنقيب عن النفط، وتوقيع الأخيرة اتفاق سلام مع منظمة "فارك" في سبتمبر 2016، بشكل ربما يدفع إلى نمو العديد من الأنشطة الاقتصادية في الدولتين.
3- قضايا اللاجئين والإرهاب: في انعكاس مباشر للظروف السابقة على قضايا استقبال اللاجئين، من المرجح أن تُضعف الاختناقات الاقتصادية التي تتعرض لها دول أمريكا اللاتينية من استعداداتها لاستقبال مزيدٍ من اللاجئين على الرغم من تعهدات دول سابقة -مثل فنزويلا- باستقبال 20 ألف لاجئ.
وبخصوص قضية أخرى، وهى مكافحة تمويل حزب الله، فقد يمثل اتفاق السلام مع منظمة "فارك" بداية حقيقية لتجفيف أنشطة تجارة المخدرات للحزب بالقارة، وذلك بالتزامن مع حصار الأجهزة الأمنية للقارة لنشاط الحزب بها.
وختامًا، يمكن القول إن محصلة التحولات التي تمر بها أمريكا اللاتينية يمكن أن توفر من ناحية مكاسب اقتصادية وجيوسياسية هامة للإقليم، بيد أنها من ناحية أخرى قد تبطئ من وتيرة الانفتاح عليها باعتبارها شريكًا اقتصاديًّا موثوقًا.