أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 13 مايو 2024، قراراً بتعيين أندريه بيلوسوف، وهو خبير اقتصادي مدني، وزيراً جديداً للدفاع، وذلك في إطار محاولة الاستفادة بشكل أفضل من ميزانية الدفاع وتسخير المزيد من الابتكار لتحقيق الانتصار في أوكرانيا ومجابهة الفساد داخل الجيش؛ إذ حل بيلوسوف محل سيرغي شويغو، الذي كان يُعد من المقربين لبوتين؛ ليصبح هذا التغيير هو الأكبر بالجيش الروسي من حيث المستوى منذ انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا.
مُخاطرة ضرورية:
يُعد تعيين "مدني" على رأس أحد أقوى الجيوش في العالم، مخاطرة تنم عن وضع مهم داخل الجيش الروسي استلزم المخاطرة من قبل الرئيس الروسي بتعيين اقتصادي في أرفع منصب عسكري في البلاد، وهو ما ينم عن احتمالية وجود عدم ثقة من قبل بوتين في قادته العسكريين من جهة، ومخاوفه من جهة أخرى من تكرار أزمة "فاغنر" مرة أخرى داخل الجيش الروسي، إضافة إلى أن بيلوسوف، المقرب من بوتين، سيكون قادراً على تحجيم نفوذ القادة الروس؛ إذ من المتوقع أن يستتبع تغيير شويغو، مجموعة من التغييرات الداخلية الواسعة داخل قيادات الجيش الروسي، ويمكن تفصيل دوافع هذا التغيير فيما يلي:
1. مهمة اقتصادية مُلحّة: يأتي تعيين الخبير الاقتصادي المخضرم بيلوسوف، على رأس وزارة الدفاع الروسية بعد مشاركته بفاعلية في مهمة إنقاذ الاقتصاد الروسي من أزمة العقوبات الغربية التي حاصرته عقب بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا؛ إذ استطاع بيلوسوف المساهمة بفاعلية في إعداد الاقتصاد الروسي لتخطي مرحلة العقوبات الغربية، وتقليل التأثيرات الكبيرة لنظام العقوبات الغربي في الأوضاع الداخلية؛ مما أتاح للاقتصاد الروسي نجاحاً غير متوقع اعترفت به مؤخراً المؤسسات الدولية الغربية.
2. مخاوف التمرد والكفاءة: يشير قرار بوتين الأخير بوضوح إلى أنه لم يتجاوز بعد أزمة "فاغنر" وتمرد قائدها السابق يفغيني بريغوجين؛ إذ ترى بعض التحليلات أن تعيين مدني ليقود وزارة الدفاع؛ هو لإحكام القبضة على العسكريين، وضمان عدم تمردهم. فيما يتعلق بالكفاءة، فرغم التقدم الذي حققه الجيش الروسي في الأسابيع الأخيرة، فإن بوتين لا يزال يتشكك في كفاءة وفاعلية عدد من قيادات الجيش الروسي، وضعاً في الاعتبار تقييماتهم بأن الهجوم لن يستغرق سوى بضعة أشهر، في حين امتدت الحرب لعامين بلا نهاية واضحة حتى الآن.
3. عقوبات مُتلاحقة وإمدادات مُتراجعة: يمكن القول إن أحد أهداف بوتين الرئيسية الأخرى وراء قرار الإقالة، وتعيين أحد خبراء الاقتصاد المقربين منه كقائد لأحد أكبر الجيوش عالمياً؛ جاء بسبب طبيعة المواجهة المقبلة في الجبهة الأوكرانية مع قرب وصول الإمدادات الأمريكية والغربية لأوكرانيا من ناحية، ومن ناحية أخرى استمرار العقوبات الغربية في فرض قيود على صناعة السلاح الروسية، وتقييد قدراتها على استيراد المعدات الدقيقة والمتطورة التي تدخل في صناعة الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي والطيران؛ إذ يعتقد بوتين أن الاحتياج الحالي ينصب على عقلية اقتصادية وشخصية مستقلة قادرة على التعامل مع هذه التحديات.
تعويل على النصر:
كان بوتين قد تعهد بالانتصار على الغرب، كإحدى أهم الركائز التي ارتكز عليها لكسب ولاء الناخبين الذين أيدوه بأغلبية ساحقة لولاية خامسة مدتها ست سنوات، ومن الطبيعي ألا يقبل الرئيس الروسي أن يبدأ ولايته الجديدة بالفشل في أبرز تعهداته، فبالرغم من التقدم الروسي المحدود على الجبهة الأوكرانية مؤخراً فإن هذا التقدم لم يكن مقنعاً لبوتين خاصة مع تزايد الشائعات حول المستوى التدريبي والاحترافي للقوات المقاتلة الروسية، إضافة لحوادث الفساد المتتالية التي طالت قادة كبار داخل الجيش؛ ومن ثم يمكن تحديد أهم أهداف هذا التغيير فيما يلي:
1. إعادة ترتيب الأولويات: أكّد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن التغيير يُعد منطقياً في وقت اقتربت فيه المخصصات العسكرية من 8% وهو ما يقترب من المخصصات العسكرية في منتصف الثمانينيات وقت الاتحاد السوفيتي، وقال بيسكوف، إن ذلك يعني أنه من الضروري ضمان توافق هذا الإنفاق مع الاقتصاد العام للبلاد ودمجه بشكل أفضل فيه، ولهذا السبب يريد بوتين الآن تعيين خبير اقتصادي مدني في وظيفة وزير الدفاع؛ إذ أدى بيلوسوف دوراً مهماً في الإشراف على برنامج الطائرات من دون طيار الروسي، كما تأتي التغييرات في ظل تقدم القوات الروسية في أربع مناطق عبر خط المواجهة في أوكرانيا.
2. الإعداد لمعركة طويلة مع الغرب: يبدو أن الرئيس الروسي، الذي يعتبر أن معركته في أوكرانيا ليست معركة مع كييف فقط ولكنها معركة يحارب فيها الغرب، يسعى لبذل كل ما في وسعه لتثبيت أقدامه في معركة يتوقع أن تستمر طويلاً خاصة مع توقعات استمرار المواجهة مع الغرب المتمسك برفض شروط بوتين للبدء في المفاوضات، وهو ما يعني أن بيلوسوف هو خيار بوتين الأكثر واقعية في محاولة لترشيد نفقات الجيش ومجابهة الفساد استعداداً لمعركة طويلة؛ إذ يحاول بوتين تجنب الوقوع في فخ الاستنزاف الاقتصادي الذي سبق ووقع فيه الاتحاد السوفيتي؛ ومن ثم يسعى لضمان التوظيف الأمثل للموارد بهدف ضمان ديمومة الإنتاج الحربي الذي يخدم المجهود العسكري، دون استنزاف الاقتصاد الروسي.
3. تغيير استراتيجي عميق: لا تنم إقالة سيرغي شويغو عن أسباب الفشل والفساد وحدها، ولكنها تنم كذلك عن تغيير استراتيجي شامل لإدارة بوتين للحرب في أوكرانيا، والانتقال من الاعتماد على القيادات العسكرية إلى القيادات المدنية الموالية له؛ إذ يُعد بيلوسوف رفيقاً لدرب بوتين، وتولى منذ 2012 منصب المستشار الاقتصادي الخاص، وكان أحد المسؤولين الذين أقنعوا بوتين بأهمية الاقتصاد الرقمي؛ وهو ما دفع بوتين لاختياره في محاولة لتحديث قواته المترهلة؛ ومن ثم فإن تعيين بيلوسوف، قد يكون مقدمة لتعيينات مشابهة ومزيد من الاعتماد على المدنيين؛ إذا ما حقق الأخير نجاحاً في مهمته، وهي سياسة قد تعني تغيير نمط منظومة الحكم في روسيا على المدى الطويل؛ إذا ما تم تبنيها بشكل كامل.
4. بسط النفوذ وتحجيم الفساد: يُعد تعيين بيلوسوف نوعاً من أنواع ممارسة النفوذ والسيطرة، ومحاولة بوتين إحكام قبضته على الشؤون العسكرية، وسط مساعي الرئيس الروسي لتعزيز دور المجمع الصناعي العسكري كمحرك رئيسي للاقتصاد، والسيطرة على الإنفاق الدفاعي الروسي القياسي الذي وصل على نحو 118.5 مليار دولار، وموازنة سيطرة العسكريين على وزارة الدفاع الروسية، وإضافة عنصر مدني تكنوقراط للسيطرة على معدلات الفساد، والضغط على العسكريين لإثبات قدراتهم وفقاً لمعايير دقيقة بعيداً عن الموازنات والحسابات الشخصية.
إخراج هادئ للقرار:
اتخذ بوتين عدداً من الإجراءات لضمان تنفيذ القرار بشكل هادئ، أهمها ما يلي:
1- إبعاد لـشويغو وباتروشيف: عقب تعيين بيلوسوف، أعلن الكرملين أن الرئيس بوتين يريد أن يصبح شويغو، المسؤول عن الدفاع منذ عام 2012 والصديق والحليف القديم، أميناً لمجلس الأمن الروسي، ليحل محل نيكولاي باتروشيف، وأن يتولى أيضاً مسؤوليات المجمع الصناعي العسكري، فيما لم يتم الإعلان عن منصب باتروشيف المستقبلي، بينما تم تعيين نجله نائباً لرئيس الوزراء في محاولة من بوتين لاسترضاء رموز نظامه القديم، وإعادة ترتيب الأمور داخل الجيش والمؤسسات العسكرية الروسية.
2- التحسب لردود فعل القيادات العسكرية: بالرغم من القوة التي اكتسبها بوتين خاصة عقب تنصيبه لولاية خامسة بنسب تأييد كبيرة، فإن التغييرات المفاجئة داخل أعلى الرتب العسكرية الروسية قد تكون لها نتائج وتداعيات متشعبة، خاصة وسط تخوف القيادات الأدنى من أن يطولها التغيير مع تواتر تقارير عن استشراء الفساد داخل إدارات الجيش؛ مما دعا بوتين لتعيين شويغو بمنصب رئيس مجلس الأمن القومي، بما يضمن عدم وجود أي نية لفتح تحقيقات مع شويغو، وهو ما يمثل رسالة طمأنة للرتب الأدنى، بالإضافة إلى عدم التأثير سلباً في معنويات الجيش خلال المعارك الجارية في أوكرانيا.
3- الإبقاء على غراسيموف: أبقى بوتين على فاليري غراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، وهو الشخص الذي يتولى دوراً عملياً أكبر عندما يتعلق الأمر بالقتال؛ لتجنب تغيير استراتيجية المواجهة على الجبهة، وبقاء غراسيموف في منصبه يُعد في حد ذاته إشارة من بوتين إلى بقاء النظام العسكري الحالي لروسيا وعدم التعرض له، وأن تعيين بيلوسوف سيقتصر على تحقيق مجموعة من أهداف الحوكمة المطلوبة للجيش، والتي كشفت عنها الحرب الراهنة في أوكرانيا والمخاوف الروسية من استمرار أو امتداد الصراع مع الغرب، وحاجتها لتطوير صناعتها العسكرية بالشكل الذي يجعلها نداً حقيقياً للقوى الكبرى، ومنع تأخرها سواء على المستوى التنظيمي أو المستويات العسكرية والقتالية والعسكرية.
وفي التقدير؛ من المتوقع أن يرافق تعيين بيلوسوف بدء حملة مدعومة من بوتين لمكافحة الفساد، وتحسين الرقابة داخل وزارة الدفاع وتحسين التعاون مع القاعدة الصناعية الدفاعية اللازمة لكسب الحرب، كما سيسعى وزير الدفاع الجديد لتنسيق العلاقة بين اقتصاد الجيش وباقي أفرع الاقتصاد الروسي، ليس فقط لمواجهة تحديات الحرب في أوكرانيا، بل وأيضاً لإعادة ترتيب الأوراق وتكييف القاعدة الصناعية الروسية لمواجهة طويلة الأمد مع الغرب، وتطوير هذه القاعدة بما يضمن قدرة روسيا على الاستمرار في المواجهة.