جاء الإعلان غير الاعتيادي من قِبل وسائل إعلام رسمية في كوريا الشمالية، عن زيارة وفد وزاري من بيونغ يانغ لطهران، خلال الفترة من 23 إبريل إلى 2 مايو 2024، بعد أكثر من أربع سنوات من توقف الزيارات الرسمية العلنية بين البلدين، ليثير الجدل حول أسباب الإعلان عن هذه الزيارة وتوقيتها، والهدف من ورائها. ووُصفت هذه الزيارة بالعلنية النادرة والغامضة، في ظل ترأس الوفد الكوري الشمالي من قِبل وزير العلاقات الاقتصادية الخارجية، يون جونغ هو، الذي عُرف عنه دوره النشط خلال السنوات الماضية في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين بلاده وعدد من دول العالم، على رأسها سوريا، وروسيا التي زارها أواخر مارس الماضي؛ بهدف تعزيز العلاقات بين البلدين.
وجاءت زيارة يون لإيران في خضم تطورات إقليمية ودولية مهمة ومحورية، بدايةً من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا المُستمرة منذ 22 فبراير 2022، مروراً بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وصولاً إلى الهجوم العسكري المتبادل بين إيران وإسرائيل في الأسابيع الماضية. وفي ظل هذه التطورات، تتصاعد مخاوف الغرب من تعاون الدول الأكثر عداءً له، إيران وكوريا الشمالية، وانعكاس هذا التعاون على الأمن الإقليمي، ومصالح الغرب، ولاسيما أن طهران كانت ضمن المحطات الأولى التي استهدفتها كوريا الشمالية بالزيارة عقب إنهاء بيونغ يانغ سياسة الانعزال عن العالم الخارجي وإغلاق حدودها إبان جائحة "كورونا"، إلى أن عاودت فتح حدودها بحذر عام 2023؛ ما يشير إلى خصوصية العلاقات بين البلدين.
دلالات التوقيت:
تكتسب زيارة الوفد الكوري الشمالي لإيران أهميتها ليس فقط من كونها زيارة يندر الإعلان عن مثيلاتها؛ إذ لم يتم الإعلان عن زيارات متبادلة بين البلدين على مستوى الوزراء، منذ زيارة وزير خارجية كوريا الشمالية السابق، ري يانغ هو، لإيران في أغسطس 2018؛ وإنما تعود أهمية هذه الزيارة إلى توقيتها؛ إذ تأتي في خضم تطورات عدة يشهدها العالم، وتمر بها بيونغ يانغ وطهران بشكل خاص. ويمكن الإشارة إلى أهم دلالات توقيت تلك الزيارة فيما يلي:
1- تصاعد المخاوف الغربية من التعاون العسكري والنووي بين بيونغ يانغ وطهران: تأتي الزيارة في أعقاب تقارير أمريكية تشير إلى تعاون عسكري وثيق بين كوريا الشمالية وإيران، فيما يخص برامج الصواريخ البالستية، وأنهما على الأرجح تتبادلان الخبرات الفنية والمكونات التي تدخل في تصنيعها، فضلاً عن تعاونهما لتطوير برنامجيهما النوويين.
وخلال السنوات الماضية، قدمت كوريا الشمالية نسخاً متعددة من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى لإيران ضمن صفقات عدة للأسلحة. وعقب الهجوم الإيراني على إسرائيل - الذي نفذته طهران يوم 13 إبريل 2024 للرد على ضربة إسرائيلية استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع إبريل الماضي أدت إلى مقتل 16 شخصاً من بينهم أحد قادة فيلق القدس العميد محمد رضا زاهدي وسبعة ضباط آخرين – أشارت العديد من التقارير الأمريكية إلى احتمالية استخدام إيران تكنولوجيا الصواريخ الكورية الشمالية في هذا الهجوم، وذلك اعتماداً على صور ومواصفات لبقايا الصواريخ المُستخدمة في الهجوم، التي توضح أنها صواريخ "العماد" الإيرانية. وهي صواريخ بالستية متوسطة المدى تعتمد على صاروخ "شهاب 3" الذي يُعد نسخة من صاروخ "نودونج" الكوري الشمالي، الذي طلبت طهران شراءه من بيونغ يانغ، عام 1993، كما عملت الأخيرة في وقت لاحق على بناء منشأة لتصنيع "نودونج" تحت اسم "شهاب 3" في إيران.
2- شكوك حول التعاون العسكري بين كوريا الشمالية وروسيا: أشار تقرير لوكالة "رويترز"، في فبراير 2024، إلى أن إيران قدمت لموسكو صواريخ بالستية لاستخدامها في حربها مع أوكرانيا، ويُشتبه أنها حصلت عليها من كوريا الشمالية، التي بدورها زوّدت موسكو بصواريخ ومدفعية، وفق تقارير غربية. ونفى كلا البلدين صحة هذه التقارير.
فيما أكد وزير الدفاع الكوري الجنوبي، شين وون-سيك، في 18 مارس 2024، أن كوريا الشمالية زودت روسيا بسبعة آلاف حاوية من الأسلحة لاستخدامها في أوكرانيا، مقابل مساعدة فنية من موسكو لبرنامج أقمار التجسس الفضائي الناشئ حديثاً، وذلك ضمن صفقة سلاح تم الاتفاق على ملامحها النهائية خلال زيارة زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، لروسيا في سبتمبر 2023.
فيما أدى استخدام روسيا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، في 28 مارس الماضي، ضد قرار بتجديد ولاية فريق خبراء تطبيق العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، والذي تنتهي مهمته بنهاية إبريل 2024، إلى إثارة مزيد من المخاوف الغربية والأمريكية حول طبيعة العلاقات التي باتت تجمع بين بيونغ يانغ وموسكو، والتي دفعت الأخيرة لاستخدام "الفيتو" على قرار يتم اعتماده سنوياً من قِبل مجلس الأمن منذ عام 2009، بشأن متابعة تنفيذ العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية منذ ذلك العام.
3- ادعاءات بشأن دعم كوريا الشمالية عملية "طوفان الأقصى": ادعت وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية (NIS)، في 8 يناير 2024، استخدام حركة حماس لأسلحة كورية شمالية في هجومها على إسرائيل، على الرغم من نفي بيونغ يانغ المُتكرر إبرامها أي صفقات أسلحة مع تنظيمات فلسطينية. وفي هذا الإطار، أكدت الوكالة الكورية الجنوبية ما ورد في تقرير نُشر على موقع "صوت أمريكا" أفاد بأن الفلسطينيين استخدموا قاذفة قنابل صاروخية من طراز (F-7) مُصنعة في كوريا الشمالية، مشيرة إلى أن ذلك اتضح من خلال صور نشرتها وكالات الأنباء لبقايا فتيل قاذفة يظهر عليها كتابة بالأحرف والأرقام الكورية.
وسبق أن اتهم الجيش الإسرائيلي، في 26 أكتوبر 2023، حركة حماس باستخدام أسلحة وذخائر مصنّعة في كوريا الشمالية وإيران خلال عملية "طوفان الأقصى"، عارضاً قطعاً من أسلحة وذخائر مختلفة ادعى أنه عثر عليها في مناطق بجنوب إسرائيل هاجمها مقاتلو حماس، وشملت بعض الألغام والقذائف الصاروخية والطائرات المُسيّرة المحلية الصُنع، إضافة إلى قذائف هاون إيرانية وكورية شمالية.
أهداف الزيارة:
أكدت وسائل الإعلام في كل من إيران وكوريا الشمالية أن الهدف من الزيارة المُعلن عنها في الأسبوع الأخير من إبريل 2024، هو تطوير وتعميق التعاون الاقتصادي بين البلدين، غير أن تساؤلات عدة تطرح نفسها حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الزيارة في مثل هذا التوقيت، والهدف من الإعلان عنها. ويمكن الإشارة إلى أهم تلك الأهداف على النحو التالي:
1- توجيه رسالة إلى واشنطن والغرب: مفاد هذه الرسالة أن الضغوط التي تُمارس على بيونغ يانغ وطهران، لا تمنعهما من تعزيز علاقاتهما وتطوير سُبل التعاون بينهما على الرغم من العقوبات المباشرة المفروضة على مجالات التعاون بينهما؛ أي المجالات الاقتصادية والعسكرية والنووية. أيضاً تشير هذه الرسالة إلى أن ثمة اصطفافاً مع دول أخرى تشترك مع كوريا الشمالية وإيران في معارضة النفوذ الأمريكي، على رأسها روسيا والصين.
كما لا يمكن تناول الزيارة وتوقيتها بمعزل عن التصعيد العسكري المباشر بين إيران وإسرائيل في شهر إبريل 2024؛ إذ تُعد الزيارة رسالة تحدٍ من كوريا الشمالية وإيران لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، في ظل قلقهما المتزايد من التعاون بين بيونغ يانغ وطهران، ولاسيما أن التطورات الدولية تساعد البلدين على تعزيز تعاونهما مع دول أخرى مثل الصين في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة في منطقة الإندوباسيفيك، وروسيا على خلفية مساعدة كوريا الشمالية لها في الحرب الأوكرانية.
2- مواجهة الضغوط الأمريكية: تسعى الولايات المتحدة إلى التضييق على كوريا الشمالية وإيران، من خلال فرض عقوبات صارمة على كل منهما فيما يخص نشاطهما الاقتصادي والتسلحي والنووي، فضلاً عن سعيها إلى السيطرة على محاولات بيونغ يانغ وطهران، التوسع في بناء شبكة علاقات لمواجهة النفوذ الأمريكي، في محيطهما الإقليمي. فعلى سبيل المثال، هددت واشنطن بفرض عقوبات على باكستان على خلفية تعاملها التجاري مع إيران، بعد أن وقّعت طهران وإسلام آباد ثماني اتفاقيات تعاون في مجالات مختلفة، منها الأمن والاقتصاد، خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لباكستان في 23 إبريل 2024. وعقّب النائب الرئيسي للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتل، على ذلك بالقول: "إن أي شخص يفكر في عقد صفقات تجارية مع إيران، يجب أن يكون على دراية بالمخاطر المحتملة للعقوبات".
3- محاولة الالتفاف على العقوبات الاقتصادية: تأتي زيارة وفد كوريا الشمالية لإيران بعد أيام قليلة من فرض واشنطن عقوبات جديدة على برنامج إيران للطائرات المُسيّرة، وإعلان الاتحاد الأوروبي عن عزمه فرض مجموعة من العقوبات الجديدة على برامج الطائرات المُسيّرة والصواريخ الإيرانية؛ ومن ثمّ تحاول طهران توسيع نطاق تعاونها مع حلفائها وأصدقاء حلفائها، لتلافي تأثير العقوبات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والغرب. ولعل هذا ما تؤكده تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، يوم 29 إبريل 2024، بأن وفداً من كوريا الشمالية شارك في معرض إيراني بطهران الأسبوع الماضي، وبحث التجارة الثنائية مع مسؤولي الحكومة الإيرانية والقطاع الخاص.
وكذلك الحال بالنسبة لكوريا الشمالية، التي تعاني عُزلة سياسية واقتصادية فُرضت عليها بفعل العقوبات الدولية، وأدت إلى حدوث ركود وتباطؤ اقتصادي كبير، ونقص حاد في إمدادات الطاقة، وتوفير السلع. فكل هذه المشكلات تدفع بيونغ يانغ إلى البحث عن سُبل للفكاك من قبضة العقوبات؛ إذ يمكنها مقايضة الخبرات والعُتاد العسكري بالنفط الإيراني والسلع الأساسية؛ إذ يغلب على التعاون بين البلدين نظام المقايضة نظراً للعقوبات الدولية المفروضة عليهما. ومن خلال هذا النظام، تقوم كوريا الشمالية بدعم إيران عسكرياً بالصواريخ البالستية، مقابل تزويد إيران لها بالنفط وما تحتاجه من سلع.
وعلى الرغم من عدم وجود تقديرات دقيقة عن حجم التعاون الاقتصادي والتجاري بين طهران وبيونغ يانغ، أعلنت إيران أنها اشترت سلعاً من كوريا الشمالية بقيمة 700 مليون دولار، في مارس 2024، سددت منها 200 مليون دولار فقط، ما يشير إلى أن العقوبات المفروضة على طهران تؤثر بشكل كبير في توفير العملة الأجنبية اللازمة لسداد مديونياتها والتزاماتها الخارجية؛ الأمر الذي يُرجح أن يكون التعامل بين كوريا الشمالية وإيران معتمداً على المقايضة، في ظل مؤشرات تراجع التجارة الخارجية لبيونغ يانغ خلال السنوات الماضية.
4- تعزيز التعاون العسكري والنووي: أشار أكثر من تقرير للجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية برصد تطبيق العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، إلى وجود تعاون متزايد بين بيونغ يانغ وطهران في مجال الصواريخ البالستية، وأن المعدات وقطع الغيار تُنقل إلى إيران من خلال دولة ثالثة. فيما تبدو إيران في حاجة ماسة لتطوير برنامجها الصاروخي، عقب ما اعتبره البعض انكشافاً لمشكلات إطلاق وتوجيه صواريخها وقدرتها على إصابة الأهداف بدقة، وذلك خلال هجومها المباشر على أهداف في الداخل الإسرائيلي.
وفي ظل عدم الإعلان عن نتائج زيارة الوفد الكوري الشمالي لإيران، فإن جدلاً أُثير حول إمكانية اتفاق البلدين على تبادل الخبرات والتعاون بشأن البرامج النووية الخاصة بهما، ولاسيما في ظل ما أعلنته إيران، عقب هجومها العسكري على إسرائيل، من إمكانية تغيير عقيدتها النووية؛ إذ لوحت طهران على لسان قائد وحدة الحرس الثوري المُكلفة بحماية المنشآت النووية، أحمد حق طلب، في 18 إبريل 2024، باحتمالية إعادة النظر في عقيدتها وسياستها النووية؛ إذا تعرضت تلك المنشآت لهجمات إسرائيلية.
موقف الغرب:
مع التسليم بأن العلاقات المتنامية بين كوريا الشمالية وإيران نابعة من اعتقادهما بأهمية تحالفهما لمواجهة النفوذ الأمريكي والضغط الغربي عليهما، وأن هذا التعاون يمكن أن يصبح أكثر تأثيراً بالاصطفاف مع قوى دولية يمكن أن تعتبر ظهيراً سياسياً واقتصادياً داعماً مثل: الصين وروسيا؛ فإنه لا يمكن تخيل أن يقف الغرب مكتوف الأيدي في ظل محاولات تحالف معادٍ له مواجهته، والتأثير في مصالحه بمناطق مختلفة حول العالم.
وبالفعل، بدأت الولايات المتحدة منذ سنوات في اتخاذ تدابير لمواجهة خصومها؛ إذ تم إنشاء تحالف "أوكوس" بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا في سبتمبر 2021؛ لمواجهة النفوذ المتنامي للصين، وردع التجارب النووية لكوريا الشمالية، فضلاً عن تكثيف الغرب دعمه لأوكرانيا عسكرياً ومالياً في مواجهة روسيا، وفرض مزيد من العقوبات على إيران، وتقديم الدعم العسكري المباشر لإسرائيل في مواجهاتها مع طهران.
وفي هذا السياق، من المُتوقع أن يُلقي التقارب بين بيونغ يانغ وطهران بظلاله على علاقات الأخيرة مع الغرب، وذلك من خلال إضافة مزيد من العراقيل أمام تسوية الخلافات بينهما، ولاسيما فيما يخص الملف النووي، الذي تعطل بشكل كبير في ظل التقارير حول دعم إيران لروسيا بطائرات مُسيّرة في حربها على أوكرانيا. كما قد يتسبب هذا التقارب في تراجع التفاهمات التي تم التوصل إليها بين إيران والولايات المتحدة حول قضايا أخرى خلال الفترة الماضية.