تُثار التساؤلات حول كيفية تطور الأوضاع الداخلية والخارجية في ظل الولاية الخامسة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة في ظل ما تمر به موسكو، من تحديات إقليمية ودولية، تجسدها استمرار الحرب في أوكرانيا والعداء مع الغرب، فضلاً عن التحديات الداخلية المتعلقة بالتمرد الذي تسبب فيه قائد مجموعة فاجنر يفغيني بريغوجين، والذي تُوفي على إثر سقوط طائرته، في أغسطس 2023، ووفاة المعارض الروسي إليكسي نافالني في فبراير 2024.
وقد فاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بولاية جديدة، بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في البلاد، والتي جرت خلال مارس 2024، والتي حسمها بوتين، بأكثر من 87% من أصوات الناخبين، كما سجلت نسبة التصويت ارتفاعاً كبيراً؛ إذ بلغت 77.44% بتصويت أكثر من 87.1 مليون مواطن؛ إذ سعى النظام في روسيا لإظهار حجم الدعم الشعبي الكبير لسياسات الرئيس الموجود على كرسي الحكم منذ أكثر من 25 عاماً، ما بين منصب الرئيس ورئيس الوزراء النافذ، إضافة إلى أن ولاية بوتين الجديدة تمهد الطريق لبقائه في السلطة حتى عام 2036، وفقاً لتعديل دستوري أُقرّ قبل عامين.
سياسات حازمة:
ستدعم هذه النتيجة، بلا شك، الرئيس الروسي في تنفيذ سياسات جديدة أو حتى الإبقاء على السياسات القائمة وتطويرها، سواء داخلياً أم خارجياً مُعتمداً على الدعم الداخلي الكبير الذي أظهرته نتيجة الانتخابات، وهو ما يمكن توضيح أهم ملامحه فيما يلي:
1. سياسة خارجية أكثر جرأة: يمهد هذا التأييد الكبير إلى إقرار سياسات أكثر جرأة خاصة الخارجية منها وسط مساعي موسكو لاستغلال البيئة الخارجية المواتية لتحقيق أهداف ولايته الجديدة؛ إذ يبدو بوتين، في بداية ولايته الخامسة أكثر قدرة على مواجهة الغرب ومنعه من تقويض الوضع الداخلي الروسي، كما سيكون أكثر قدرة على المناورة بسبب غياب تماسك الأطراف الخارجية في وجه موسكو فيما يتعلق بالأزمة في أوكرانيا وقدرة روسيا أيضاً على المناورة وإفشال خطط الغرب الرامية إلى معاقبتها أو حتى إعاقتها عن التقدم على الجبهة أو حتى التأثير في الوضع الداخلي.
2. مزيد من التشدد تجاه الحرب الأوكرانية: تتخوف دوائر غربية من أن يؤدي تضافر عوامل التأييد الداخلي وغياب تماسك المنافسين خارجياً إلى تصعيد موقف بوتين، تجاه الأزمة في أوكرانيا وتقليل احتمالات لجوئه للمفاوضات لإنهاء الأزمة سلمياً، وسط تزايد المخاوف من أن يُشدد موقفه ويُصعد من لغة المواجهة؛ إذ أعلن الكرملين عقب إعلان فوز بوتين، بأيام عن تعبئة جديدة لجنود الاحتياط في إطار جهوده لتضخيم صفوف الجيش ومحاولة توسيع مكاسبه في هجوم كبير جديد مُتوقع؛ إذ سيسعى الكرملين لاستغلال التأييد الكبير لبوتين لإظهار البيئة الدولية والإقليمية المعادية؛ لمنحه مزيداً من التأييد، كما أن بوتين، نفسه تعهد عقب فوزه بالانتخابات بأن روسيا ستضمن أمن مناطقها الحدودية.
وتُشير بعض التقديرات إلى إمكانية أن يعمل بوتين على استغلال زهو انتصاره لتحقيق نصر أكبر في أوكرانيا وتحقيق اختراقات جديدة في الدفاعات الأوكرانية والوصول لكييف؛ إذ تقدمت قواته أكثر في الجبهة الشرقية على حساب الجيش الأوكراني، الذي يعاني من نقص حاد في الأسلحة خاصة قذائف المدفعية، وسيسعى الرئيس الروسي إلى توسيع نطاق الحرب، خاصة أنه تعهّد بأن موسكو لن تتراجع عن غزوها لأوكرانيا، وأن الجيش سيعمل على توسيع خططه للسيطرة على مناطق جديدة، وتعزيز قدرات روسيا العسكرية في مواجهة تحركات حلف "الناتو" قرب الحدود.
3. دعم غربي أكبر لأوكرانيا: قد تفضي السياسة الروسية المُحتمل أن تكون أكثر تشدداً بعد فوز بوتين، إلى تشجيع الدول الأوروبية والولايات المتحدة على الإسراع في مساعيها لدعم أوكرانيا؛ إذ توالت الخطوات الغربية عقب إعلان فوز بوتين؛ إذ أكّد رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكي مايك تورنر، أن رئيس مجلس النواب مايك جونسون، يعتزم طرح مشروع قانون المساعدات لأوكرانيا للتصويت عليه في إبريل 2024، مؤكداً أن حزمة المساعدات لأوكرانيا في حربها ضد روسيا "ضرورية للأمن القومي".
وستضمن حزمة المساعدات الأمريكية توريد صواريخ "ATACMS" البالستية إلى أوكرانيا، يتزامن ذلك مع تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن عمليات برية تتضمن قوات غربية في أوكرانيا قد تكون ضرورية "في مرحلة ما"، ورفض الرئيس الفرنسي استبعاد فكرة إرسال قوات برية إلى أوكرانيا؛ مما أثار حالة من اللغط والخلافات التي طالت الدوائر الرسمية لحلف "الناتو"، الذي أكد سعيه للحفاظ على تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا، تحسباً لعودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر 2024، ولاسيما وأنه معروف بانتقاداته للحلف.
شراكات أوسع:
يُراهن بوتين على انقسام الدول الأوروبية واستغلال الوضع في أوكرانيا والدعم الداخلي المُتزايد لتحقيق طموحاته باستعادة أراضي الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى طموحاته بتعزيز علاقات موسكو مع الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ إذ تحسنت علاقات روسيا بمجموعة من الدول خاصة الصين والبرازيل ودول آسيا وإفريقيا منذ غزو أوكرانيا؛ وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1. توطيد العلاقات مع الصين: من المتوقع أن تكون الصين أولى محطات بوتين الخارجية عقب الفوز بالانتخابات؛ إذ سيتوجه إليها في مايو المقبل لإجراء محادثات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ويعوّل بوتين على مزيد من الدعم الصيني لروسيا في حربها في أوكرانيا، كما أنها لا تزال شريكاً تجارياً ودبلوماسياً بالغ الأهمية لموسكو؛ إذ يتشاركان أهدافاً دبلوماسية عديدة من بينها مواجهة النفوذ الغربي ويعملان سوياً على الترويج لنظام دولي متعدد الأقطاب في مواجهة الولايات المتحدة.
2. تعزيز التعاون مع الجنوب العالمي: سيعمل بوتين خلال ولايته الخامسة على تعزيز علاقاته بدول الجنوب العالمي وكذلك كوريا الشمالية؛ إذ رفض جزء كبير من دول الجنوب العالمي، إدانة روسيا أو فرض عقوبات عليها عقب الأزمة في أوكرانيا، بل وعملت على تعزيز علاقاتها مع موسكو خاصة في إفريقيا عقب قيام مجموعة من الدول برفض النفوذ الغربي (الأوروبي – الأمريكي) من خلال ظهور قيادات جديدة أظهرت ميلها لموسكو، التي ينظر الكثيرون لها كزعيم للحركة المناهضة للتوجهات الغربية.
كما عززت حرب غزة، موقف روسيا في هذا الجزء من العالم؛ إذ تطابق الموقف الروسي الداعم للفلسطينيين مع موقف غالبية دول الجنوب، كما وسعت روسيا مجال نفوذها ليشمل دول أمريكا اللاتينية، فعلى سبيل المثال، وصل حوالي 100 عسكري روسي إلى فنزويلا لتقديم التدريب والمساعدة اللوجستية لنظام مادورو، وذلك في أواخر مارس 2024، وسط تأكيد تقارير أن مُتعاقدين عسكريين خاصين من روسيا ينشطون بالفعل على الأرض في فنزويلا، كما ظهرت الجماعات العسكرية الموالية لروسيا في جميع أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مع الحفاظ على وجود الشركات الروسية في عدد من دول إفريقيا، من خلال اتفاقيات مبيعات الأسلحة والتدريب والوصول إلى القواعد والموارد التي تدعم السياسة الروسية.
3. تدعيم الشراكة مع مجموعة "البريكس": تعوّل روسيا على هذه المجموعة كوسيلة لإنهاء، أو على الأقل، تحدي هيمنة النفوذ الغربي على الاقتصاد العالمي؛ ومن ثم من المُتوقع أن تلجأ إلى تدعيم علاقاتها الاقتصادية بدول المجموعة خصوصاً في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو. وقد تجلى ذلك في التقارير التي أشارت إلى الزيادة المطردة في صادرات النفط الروسية إلى الهند، رغم العقوبات الأمريكية التي طالت بعض الشركات الهندية، كما يمكن أن تسعى روسيا إلى محاولة توسيع جديدة لعضوية المجموعة بما يضمن تمثيلاً جغرافياً أوسع، ودعماً اقتصادياً أكبر.
إحكام القبضة:
بدأت التحديات الداخلية مُبكراً بعد إعلان فوز بوتين بأيام؛ إذ تبنى تنظيم "داعش" هجوماً قرب موسكو أسقط العشرات من الضحايا، وما زالت تداعياته مُستمرة باعتباره أول تحدٍّ للرئيس الروسي بعد إعادة انتخابه، وعليه، يمكن الإشارة إلى أهم الملفات الداخلية التي ستنال اهتمام بوتين كما يلي:
1. تحسين الأوضاع الاقتصادية: من المُتوقع أن يكون بوتين أكثر حرصاً على الحفاظ على الاقتصاد الروسي، الذي كان أداؤه جيداً نسبياً على الرغم من العقوبات الغربية؛ إذ ساعدت التجارة مع الصين وأسعار النفط المزدهرة في عزل النخبة السياسية والتجارية في البلاد عن أية مصاعب حقيقية؛ مما يدعو بوتين للتركيز على التأكد من أن الروس يواصلون عيش حياتهم كالمعتاد، في هذا الإطار من المُتوقع أن يعلن عن خطط لإنفاق مليارات الدولارات للتصدي للفقر وإعادة بناء جزء كبير من البنية التحتية القديمة في البلاد مع دخول المزيد من الاقتصاد في حالة حرب.
2. استرضاء الطبقات الفقيرة: سيهدف بوتين إلى استرضاء هذه الطبقات في ظل تقديمها تضحيات كبيرة سواء من الناحية المالية أم من حيث المُجندين للقتال في الحرب، قد يشمل ذلك إقرار خطط استراتيجية وطنية للنهوض بالقطاعات الصحية، والتعليمية، والبُنى التحتية، والتطوير العسكري، ومشروعات عملاقة لرعاية الأمومة والطفل، في مواجهة الأزمة الديمغرافية، كما أنه من المحتمل أن يجري تعديلات في الهياكل الحكومية لدفع برامجه الموضوعة، لكن في الوقت ذاته، لا توجد مؤشرات على أن هذه الخطط قد تطال مواقع رئيسية يشغلها أصدقاء بوتين وحلفاؤه الرئيسيون في وزارات ومواقع حساسة مثل: الدفاع والخارجية وعدد من الشركات الوطنية الكبرى.
3. تدعيم تماسك الجبهة الداخلية: بالتزامن مع الخطوات السابقة، سيسعى بوتين إلى تدعيم الجبهة الداخلية عبر تدوير المناصب القيادية، والتخلص مُبكراً من أصحاب الطموحات الشخصية داخل النظام الروسي، وعدم السماح بتكرار تمرد قائد مجموعة فاغنر السابق يفغيني بريغوجين، والسعي لعدم ظهور أية رموز معارضة قد تسبب إزعاجاً لنظامه على شاكلة أليكسي نافالني.
وفي التقدير، يمكن القول إنه من المتوقع أن تشهد ولاية بوتين الخامسة استمرارية ودعماً لسياساته الخارجية المُتشددة تجاه الغرب عموماً ودول "الناتو" على وجه الخصوص، وتسريع خطوات التقارب مع دول الجنوب العالمي والصين، والاعتماد بشكل أكبر على مجموعة "بريكس"، مع الاستمرار في تدعيم الجبهة الداخلية عبر توسيع دائرة الشركاء التجاريين للتغلب على العقوبات، ودعم الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتدوير المناصب القيادية واستبعاد ذوي الطموحات الشخصية بشكل سريع.