أسفرت الانتخابات البرلمانية المغربية يوم 7 أكتوبر 2016، عن فوز جديد لحزب العدالة والتنمية، ذو التوجهات الإسلامية، عقب منافسة شديدة مع حزب الأصالة والمعاصرة. ومثلت نتائج الانتخابات، بدءاً من عدد المقاعد التي تحصل عليها كل حزب من الأحزاب السياسية المشاركة، وصولاً إلى نسبة المشاركة، واقعاً سياسياً ذا دلالات وتداعيات على المشهدين السياسي والحزبي المغربي، وكذلك على العقد الاجتماعي برمته؛ وهو ما يتوجب معه تحليل الأسباب التي أدت إلى انتصار حزب العدالة والتنمية، والمحددات التي تحكمت في السلوك التصويتي للناخب المغربي خلال هذا الاقتراع، والإفرازات السياسية والاجتماعية المترتبة على ذلك.
سبع ملحوظات أساسية
تنقسم المقاعد الـ 395 في الغرفة الأولى من البرلمان المغربي (مجلس النواب) إلى 305 مقاعد محلية و90 مقعداً يتم التصويت عليها على المستوى الوطني. وقد تمخض اقتراع 7 أكتوبر عن فوز حزب العدالة والتنمية بـ 125 مقعداً (98 مقعداً عن اللوائح المحلية، و27 مقعداً عن اللائحة الوطنية) بزيادة 18 مقعداً عن الانتخابات التشريعية في عام 2011 التي حاز فيها الحزب كذلك على المرتبة الأولى. وجاء حزب الأصالة والمعاصرة في المركز الثاني بـ 102 مقعد (81 مقعداً في اللوائح المحلية، و21 مقعداً في اللائحة الوطنية) بزيادة 54 مقعداً عن انتخابات عام 2011 أي بزيادة فاقت 100٪، فيما تراجعت نتائج باقي الأحزاب السياسية بشكل كبير مقارنةً مع الانتخابات التشريعية السابقة، حيث حصل حزب الاستقلال على 46 مقعداً، وحزب التجمع الوطني للأحرار على 37 مقعداً، والحركة الشعبية على 27 مقعداً، والاتحاد الاشتراكي على 20 مقعداً، والاتحاد الدستوري على 19 مقعداً، والتقدم والاشتراكية على 12 مقعداً، وباقي الأحزاب على 7 مقاعد.
وثمة عدد من الملحوظات الرئيسية التي تكشف عنها نتائج هذه الانتخابات التشريعية، وهي:
1- تكمن الملاحظة الأولى التي يمكن استخلاصها من تلك النتائج، في أن زيادة عدد المقاعد لكل من حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة خلال اقتراع 7 أكتوبر، جاءت بشكل واضح على حساب باقي الأحزاب السياسية، التي تراجعت نتائجها بشكل لافت، خصوصاً أحزاب الكتلة الديمقراطية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والاستقلال، والتقدم والاشتراكية)، وهو أمر راجع بالأساس إلى التنظيم الكبير للحزبين وتواصلهما المستمر مع الناخبين طيلة السنوات الخمس الماضية، عن طريق الخطابات الجماهيرية، والتنظيمات الموازية (الشبيبة الحزبية)، واستغلال جمعيات المجتمع المدني التابعة للحزبين والمساعدات التي تقدمها لاستمالة الناخبين، وكذلك لتبنيهما استراتيجية إعلامية مُحكمة ظهرت نجاعتها بشكل كبير لدى حزب العدالة والتنمية، الذي تفطن لأهمية وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام والتأثير في مخرجاته، وهو ما ظهر جلياً في دعم وتمويل الحزب لكتائب إلكترونية من شباب الحزب، للدفاع عنه في كل القضايا التي تهمه بشكل مباشر.
2- تتمثل الملحوظة الثانية في اختراق كلا الحزبين (العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة)، دوائر انتخابية جديدة، مكنتهما من انتزاع مقاعد ضمن اللوائح المحلية، مثل الجنوب المغربي الذي كان معقلاً انتخابياً لأحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، والمدن الكبرى التي تعد حاضنة شعبية، مثل فاس والدار البيضاء وأكادير ومراكش، التي فشل فيها حزب ذو رصيد وتاريخ سياسي كبير كالاتحاد الاشتراكي.
3- تتجلى الملحوظة الثالثة في كون النتائج الكبيرة التي تحصل عليها كل من العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة مجتمعين بـ 227 مقعداً من أصل 395 مقعداً (57.5% من عدد المقاعد المتاحة)، مهدت بشكل كبير لظهور قطبية ثنائية جديدة في المشهد الحزبي المغربي، ستؤسس لظاهرة استقطاب باقي الأحزاب بقصد الاصطفاف لجانب طرف على حساب الآخر، كل حسب موقعه (الحكومة والمعارضة).
4- تكمن الملحوظة الرابعة، في اختلاف القطبية الثنائية القائمة النشأة حالياً، عن القطبية الثنائية التي عرفها المشهد الحزبي المغربي من ستينيات إلى تسعينيات القرن الماضي، حيث كان اليسار المغربي بمختلف أطيافه قطباً قوياً يقف في وجه الأحزاب المدعومة من المؤسسة الملكية آنذاك، وسط تضاد وتنافر تام من الناحية الأيديولوجية. في حين أن التجربة الحالية، وعلى الرغم من وجود اختلاف في هوية الحزبين، باعتبار العدالة والتنمية حزباً محافظاً بمرجعية دينية يعمل على توظيف الخطاب الديني لأهداف سياسية، والأصالة والمعاصرة حزباً علمانياً ينتهج الخطاب التقدمي، فإن للحزبين نقطة التقاء بارزة، تتمثل في قبول كليهما بالنظام الليبرالي واقتصاد السوق.
5- تتمثل الملحوظة الخامسة في الفشل الذريع لفيدرالية اليسار الديمقراطي المكونة من تحالف ثلاثة أحزاب يسارية قاطعت الانتخابات لسنوات (حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي)، والتي تحصلت على مقعدين، ويرجع هذا الفشل إلى ضعف تواصل الفيدرالية مع الجماهير الشعبية، واقتصارها إلى حد كبير في استراتيجيتها الإعلامية على شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض الأدوات الإعلامية المرئية والمسموعة، من حين لآخر، لزعيمتها الدكتورة نبيلة منيب. في حين أن الأمر كان يتطلب العمل طوال السنوات الخمس الماضية على الزيارة الميدانية لمختلف ربوع المملكة المغربية، والتواصل المباشر مع الناخبين.
كما أن ضبابية موقف الفيدرالية من المشهد السياسي برمته طوال سنوات، ما بين المشاركة والمقاطعة، وتركيزها على موضوعات مهمة مثل الملكية البرلمانية، واستقلال القضاء، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والتوزيع العادل للثروة، لم تنجح في استقطاب أصوات الناخبين من الفئة المثقفة المستهدفة التي قاطعت غالبيتها، وساهم في خسارة أصوات الفئة التي تجد صعوبة في فهم هذا النوع من الخطاب، والتي تجاوبت بشكل كبير مع الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، الذي يتخذ من اللهجة المغربية لغة للتواصل مع الناخبين، ويستخدم الخطاب الديني لاستمالة هذه الفئة التي تعد إلى حد كبير الفاصل الأساسي بين الرابح والخاسر في الاستحقاقات الانتخابية.
6- الملحوظة السادسة تتعلق بأنه وعلى عكس الخطاب المتداول لدى العديد من الباحثين المغاربة، فإن حزب الأصالة والمعاصرة ليس الرابح الأكبر من هذه الانتخابات، وإنما هو الخاسر الأكبر إلى جانب فيدرالية اليسار الديمقراطي، على اعتبار أن الحزب، الذي نشأ في 8 أغسطس 2008 على يد فؤاد عالي الهمة المستشار الحالي لملك المغرب، قام باستقطاب شديد للأعيان والمرشحين من باقي الأحزاب السياسية، واستثمر في المجال الإعلامي لضرب مشروع العدالة والتنمية، ونزل بثقل كبير في كل الدوائر المحلية، أملاً منه في تحقيق الصدارة في انتخابات 7 أكتوبر، وهو ما لم يحدث، إذ تبنى إلياس العماري الأمين العام للأصالة والمعاصرة خطاباً هجومياً تجاه العدالة والتنمية بتأكيده مراراً وتكراراً أن حزب الأصالة والمعاصرة جاء لمواجهة المشروع المجتمعي للعدالة والتنمية، والذي سماه مشروع التمكين الإخواني. وقد أدى هذا الخطاب إلى ارتفاع شعبية حزب العدالة والتنمية وفوزه في الانتخابات، خصوصاً أن هذا النوع من الخطاب، يجد صعوبة في فهمه لدى العديد من فئات الشعب المغربي، لاعتبارات مرتبطة بالتعليم والتنشئة، والتي ترى فيه، عن وعي أو غير وعي، نوعاً من محاربة الإسلام، فاختارت التصويت لصالح العدالة والتنمية، من دون فهم دقيق للمشاريع المجتمعية للحزبين، والمرتكزات الفكرية التي تؤطرها، والتصورات السياسية التي تتبناها.
وعليه، يمكن توصيف الحالة الراهنة لحزب الأصالة والمعاصرة، بعد اقتراع 7 أكتوبر، بالتأزم المرحلي لمشروع سياسي تأسس لهدف رئيسي وهو الوصول لرئاسة الحكومة بأسرع وقت، ما يحيل للحديث عن نقطة مهمة ومحورية، تتمثل في مستقبل هذا الحزب، الذي يشوبه الغموض، في ظل غياب النفس الطويل للصف الثاني من داعمي هذا الحزب، المتمثل في رجال الأعمال والأعيان من أصحاب المصالح الاقتصادية، والذين ليست لهم القدرة على الانتظار لفترة أخرى، في حال فشل الحزب في انتخابات 2021، خصوصاً أن منظومة مصالحهم الاقتصادية تعتمد بشكل كبير على مدى امتلاكهم شبكات من النفوذ وسط الحزب الحاكم والأغلبية. ويعني ذلك أن القطبية الثنائية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة لا تعدو أن تكون سوى قطبية هشة ذات طابع مرحلي.
7- الملحوظة السابعة ذات صلة بدلالات نسب المشاركة في هذه الانتخابات التشريعية، إذ تعد الانتخابات عملية رئيسية في مسار المسلسل الديمقراطي، ومعياراً أساسياً لقياس مدى استجابة الناخب للبرنامج الانتخابي للفاعل السياسي، بناءً على قدرة هذا الأخير على حماية حقوق المواطن المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويخضع السلوك التصويتي للناخب المغربي لمحددات ثابتة تسهم في توجيهه، تتمثل في: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث تلجأ الطبقة المتوسطة للمشاركة الإيجابية كلما تحسنت الأوضاع، في حين يكون رد فعلها في أثناء الأزمات إما بالتصويت العقابي أو المقاطعة. ويطغى غياب الوعي على السلوك الانتخابي، حيث يخضع الفعل التصويتي للقبيلة والعصبية والأعيان والمال. ويُضاف توظيف الخطاب الديني لأهداف سياسية إلى المحددات السابقة، حيث أفضى إلى تسييس الدين وتديين السياسة.
وبلغت نسبة المشاركة في انتخابات 7 أكتوبر، حسب وزارة الداخلية، 43% من أصل نحو 16 مليون مغربي مسجلين في اللوائح الانتخابية، وهي نسبة تتدنى لـ 25% إذا وضعنا بالحسبان أن عدد المغاربة الذين يحق لهم التصويت ما فوق 18 سنة يتجاوز 23 مليون ناخب. وتعد هذه النسبة مؤشراً خطيراً للمرحلة المقبلة، ربما يعكس عدم نجاح الأحزاب السياسية في إقناع الناخب المغربي بجدوى المشاركة. وهذا يحيل للحديث عن مستقبل العقد الاجتماعي في المغرب، والذي يبقى غامضاً في ضوء مقاطعة 75% من المغاربة الذين لهم حق التصويت للانتخابات، وهي مقاطعة ربما تمهد لغليان شعبي في المدى المتوسط، في ظل سعي حزب العدالة والتنمية إلى الاستمرار في تطبيق الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي لضبط التوازنات الماكرو اقتصادية، عن طريق تبني خطط للتقشف، والخفض من الميزانية العامة، والتقليل من كتلة الأجور، والرفع من سن التقاعد، ورفع الدعم عن المواد الأولية، من دون مراعاة القدرة الشرائية للمواطن.
ولا يمكن لأي نظام سياسي التغاضي عن المقاطعة، باعتبارها مؤشراً خطيراً على الاندماج والتكامل داخل النسيج الاجتماعي، فهي بمنزلة جرس إنذار للنظام السياسي، الذي يتوجب عليه النهوض بالأوضاع السياسية والمدنية في البلاد، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، للحد من أي تصاعد في محفزات التفكك الداخلية.
سيناريوهات التشكيل الحكومي المقبل
ينص الدستور المغربي في الفصل 47 على أن للملك الحق في تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، وتعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وهو ما يخول لحزب العدالة والتنمية، وفقاً لنتائج انتخابات 7 أكتوبر، بدء المفاوضات مع باقي الأحزاب السياسية للحصول على أغلبية المقاعد (198 مقعداً) لتشكيل تحالف حكومي.
ويبقى التحالف الحكومي الذي يسعى حزب العدالة والتنمية لتشكيله، رهيناً لأربعة سيناريوات محتملة، وهي:
السيناريو الأول: تكرار التحالف الحكومي وفقاً لآخر تجربة حكومية، وذلك بالتحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب التقدم والاشتراكية، وحزب الحركة الشعبية، وهو ما يخول للتحالف الحصول على 201 مقعداً.
السيناريو الثاني: العودة لأول نسخة حكومية لحزب العدالة التنمية، والتي جمعت كلاً من حزب الاستقلال، وحزب الحركة الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، وبالتالي الحصول على أغلبية مقاعد في حدود 210 مقاعد.
السيناريو الثالث: التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة، وتكوين تحالف حكومي بأغلبية مقاعد مريحة (227 مقعداً).
السيناريو الرابع: فشل حزب العدالة والتنمية في التوصل إلى تحالف يتيح أغلبية مقاعد مريحة، والإعلان عن انتخابات تشريعية جديدة.
يبقى كل من السيناريوهين، الأول والثاني، الأقرب إلى الواقع، نظراً للمرونة الكبيرة التي يتيحها عدد المقاعد التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية، في استمالة الأحزاب المذكورة لتشكيل تحالف حكومي. في حين يبقى السيناريو الثالث صعب المنال، بسبب الخلاف الكبير الذي يطبع مسار العلاقات بين حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة. أما السيناريو الرابع، فمن المستبعد اللجوء له، لعدم قدرة النظام السياسي المغربي على تحمل تبعاته، لتكاليفه الباهظة مادياً وسياسياً، خصوصاً أن المؤسسة الملكية عملت جاهدة لإرسال صورة إيجابية للمجتمع الدولي عن المؤسسات الدستورية والانتخابات في المغرب.