بدت مؤشرات عدّة محلية ودولية في الأسابيع الأخيرة باتجاه عودة حراك انتخاب رئيس جديد للبنان وإنهاء فترة الشغور الرئاسي الممتد لنحو عام ونصف العام منذ 31 أكتوبر 2022 بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. ولكن على الرغم هذا الحراك الذي جاء في ضوء اشتعال حرب غزة، سواء المبادرة التي طرحتها كتلة الاعتدال الوطني لانتخاب رئيس الجمهورية، أم ما أعقبها من تحركات للجنة الخماسية التي تضم سفراء: الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والسعودية وقطر مع الفرقاء اللبنانيين لتعبيد الطريق أمام الانتخاب؛ فإن هذه الجهود تصطدم بمجموعة من العوامل الثابتة في المشهد السياسي اللبناني التي لا تزال تعوق هذا الطريق.
مُتغيرات حراكية:
ثمّة مجموعة المتغيرات التي إما طرأت على المشهد السياسي اللبناني أو على العوامل المؤثرة فيه، والتي عُدّت في مجملها قوى دافعة لتحريك الجمود الحادث في ملف انتخاب رئيس الجمهورية، ويمكن تناول هذه المتغيرات على النحو التالي:
1. حرب غزة: كانت القوى الداخلية والدولية قد سلّمت بأن أزمة انتخاب رئيس لبنان ستمتد وأن الجهود المبذولة لحل الأزمة لم تنضج بعد، خاصة مع عقد مجلس النواب اثنتا عشرة جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية انتهت جميعها بالإخفاق. إلا أن اندلاع عملية طوفان الأقصى، التي قادتها حركة حماس، في 7 أكتوبر 2023، وشن إسرائيل حربها على قطاع غزة، وما ارتبط بها من تصعيد في جنوب لبنان، بين إسرائيل وحزب الله، قد مثل عامل تغيير في هذه المعادلة على المستويين الداخلي والخارجي؛ فداخلياً رأى حزب الله من خلال ما أسماها حرب الإسناد لفصائل المقاومة في قطاع غزة فرصة لتعزيز موقعه شعبياً وسياسياً، ولاسيّما وأن انخراطه في هذه الحرب كان محسوباً إلى حد كبير بما يجنب لبنان أكبر قدر ممكن من التداعيات، وفي نفس الوقت يرسخ موقعه كقوة مقاومة؛ ومن ثم يعطيه ذلك كله قوة ثبات على خياراته الرئاسية التي تواجه معارضة سياسية كبيرة.
أما خارجياً، فإن القوى الإقليمية والدولية التي سلّمت بامتداد الفراغ الرئاسي رأت في التصعيد على الحدود اللبنانية الإسرائيلية فرصة لإعادة فتح هذا الملف انطلاقاً من أن شغل القوى الداخلية ومنها حزب الله بالتطورات السياسية وحساباتها من شأنه أن يهدئ التوترات على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ويحد من تطورها إلى حرب من جانب حزب الله، فضلاً عن أن وجود رئيس للبنان وليس حكومة تصريف أعمال تقوم في الوقت ذاته بتصريف أعمال رئاسة الجمهورية له بالغ الأثر في التفاوض والتشاور بشأن المبادرات المطروحة لخفض التصعيد وتنفيذ القرار الأممي 1701.
2. مُبادرة كتلة الاعتدال الوطني: قدّمت كتلة الاعتدال الوطني التي تأسست في يونيو 2022 وتضم النواب الذين كانوا أعضاء في تيار المستقبل وترشحوا في الانتخابات الأخيرة كمستقلين وهم: أحمد الخير، ووليد البعريني، ومحمد سليمان، وسجيع عطية، وعبدالعزيز الصمد، وأحمد رستم؛ مبادرة في الأسبوع الأخير من فبراير 2024 لتحريك المياه الراكدة في ملف انتخاب رئيس الجمهورية. وتقوم المبادرة بشكل رئيس على إجراء مشاورات بين الكتل النيابية للاتفاق على اسم أو تحديد عدة أسماء، ثم الولوج إلى جلسات متوالية لانتخاب رئيس الجمهورية دون إقدام أي كتلة على إفشال الجلسات بسحب نوابها لعدم استكمال النصاب القانوني. وقد أجرى نواب الكتلة مشاورات مع جميع الكتل النيابية لإقناعهم بالمبادرة، وقد أبدت معظم الكتل تأييدها للمبادرة، فيما وصف حزب الله المبادرة بالإيجابية ولكنه أرجأ الرد عليها إلى وقت لاحق.
وتوازياً مع حراك مبادرة كتلة الاعتدال، يبرز حراك برعاية البطريرك الماروني بشارة الراعي؛ لتوحيد القوى المسيحية، وهو ما قد يُعد استثماراً للتصدع في علاقة التيار الوطني الحر مع حزب الله، والذي زاد مع اشتعال الجبهة الجنوبية مع إسرائيل إلى الحد الذي أكد فيه رئيس التيار جبران باسيل، رفضه لمنطق وحدة الساحات، متهماً الحزب بافتعال الحرب وفرضها على لبنان وحمله أجندات خارجية، مُكرراً كذلك رفضه لمرشح الحزب سليمان فرنجية. وهو ما يتزامن مع تحول في علاقة التيار مع القوى المسيحية وخاصة حزب الكتائب برئاسة سامي الجميل إلى حد وصف الأخير لباسيل بالحليف الاستراتيجي للكتائب. ولكن يمكن القول إن ما يمكن أن يجمع القوى المسيحية الرئيسية (الكتائب – القوات – التيار الوطني الحر) هو الاتفاق على رفض مرشح الثنائي الشيعي سليمان فرنجية فقط، وهو أمر وإن كان يمثل نقطة التقاء أساسية بينهم فإنه لا يكفي لنقل محاولات الاتحاد فيما بينهم إلى خطوة أكثر تقدماً فيما يتعلق بالانتخابات.
3. انفتاح إقليمي ودولي: يمثل الانفتاح الإقليمي والدولي الراهن على ملف انتخاب رئيس لبنان أحد أهم المتغيرات في المشهد، خاصة وأن القوى الإقليمية والدولية ظلت منشغلة بالعديد من الملفات عن قضايا لبنان، وبالتالي فإن عودة هذا الاهتمام يمثل في حد ذاته متغيراً مهماً. ويبرز في هذا الإطار التحرك الذي تقوده اللجنة الخماسية التي تضم سفراء الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والسعودية وقطر لدى لبنان، والتي أجرت لقاءات متنوعة مع الفرقاء اللبنانيين على اختلافهم، والتي اتخذت من مبادرة كتلة الاعتدال منطلقاً لمحاولة كسب دعم الأطراف لها وتذليل العقبات أمامها.
وعلى الرغم من الحماسة التي أبداها السفراء في لقاءاتهم، فإن تحديدهم بعد عيد الفطر موعداً لاستئناف الجولات قد يُشير إلى حجم الصعاب التي واجهوها في هذه الجولات، ولاسيّما من جانب الثنائي الشيعي واشتراطهما أن يرأس رئيس مجلس النواب نبيه بري جلسات التشاور، وهو ما ترفضه المعارضة لكونه طرفاً سياسياً بالأساس، وكذا رفضهما لمبدأ عقد جلسة مفتوحة بدورات متتالية إلى حين انتخاب رئيس، وإنما عقد جلسات بدورات متلاحقة، ما يعني إقفال المحضر بعدَ كل جلسة، على أن تليها جلسة تتطلّب غالبية الثلثين لانتخاب رئيس في الدورة الأولى.
يُضاف إلى ذلك أن هناك حراكاً قطرياً لافتاً بالتوازي مع حراك اللجنة الخماسية؛ إذ استقبلت الدوحة علي حسن خليل، المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، في 8 مارس 2024، وأشارت تقارير إلى أن زيارة مماثلة لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، خلال شهر مارس 2024، والتقى رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، السفير القطري لدى لبنان الشيخ سعود بن عبدالرحمن، يوم 9 مارس 2024، وسط تقارير عن زيارة مرتقبة لباسيل إلى الدوحة كذلك. وقد يدل هذا الحراك القطري المكثف المتوازي مع جهود الدوحة للوساطة في غزة أنه يأتي بضوء أخضر من الولايات المتحدة؛ لتكون جهود الدوحة بديلة عن الجهود الفرنسية التي لم تحقق أي اختراق رغم كثرة الزيارات التي أجراها مبعوث الرئيس الفرنسي، جان إيف لودريان.
ثوابت مُرجأة:
تثبت في مقابل كل هذه المتغيرات مجموعة من الثوابت الحاكمة لملف انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، والتي ربما زاد بعضها المتغيرات ثباتاً، وهي كما يلي:
1. موقف الثنائي الشيعي: تصطدم كل هذه التحركات الداخلية والخارجية بموقف الطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية وهو حزب الله ومعه حليفه حركة أمل، فقد أكّد الثنائي تمسكهما بمرشحهما رئيس تيار المردة سليمان فرنجية ولم يبديا أي استعداداً للتخلي عن ترشيحه. وقد أكد الحزب في أكثر من مرة تمسكه بأن يكون الرئيس القادم رئيساً "يحمي ظهر المقاومة، أو على الأقل لا يطعنها"، وهو الخيار الذي ترفضه المعارضة التي تدعو إلى رئيس "سيادي" غير متماهٍ مع حزب الله الذي تواصل الدعوة إلى نزع سلاحه. ولمّا كان إصرار حزب الله على اختياره لفرنجية نابعاً ضمن اعتبارات كثيرة من فكرة دعم المقاومة، فإن الظروف والتغيرات التي فرضتها الحرب على غزة وارتداداتها في جبهة جنوب لبنان من شأنها تأكيد هذا الإصرار وعدم تخلي الثنائي الشيعي عن مُرشحهما. وحتى إذا قبل الحزب التخلي عن فرنجية فإنه من غير الوارد موافقته على مرشح "سيادي" بوصف المعارضة لا يسلم بثلاثية "الشعب، الجيش، المقاومة".
2. العامل الخارجي: يؤدي العامل الخارجي دوراً محورياً في ملف انتخاب رئيس لبنان تقليدياً؛ لكون الوصول إلى هذا المنصب محكوم بتوازنات وتحركات إقليمية ودولية، بل وبمصير العلاقات بين القوى وما قد ينجم عنها من تفاهمات. ويمكن القول إن هذا الملف سيظل محكوماً بمصير التفاهمات التي يمكن أن تنشأ بين الولايات المتحدة وإيران إزاء مجموعة من ملفات المنطقة. ولمّا كانت هذه التفاهمات بعيدة عن التوصل إليها حتى الآن بحكم الانشغال بمآلات حرب غزة من جانب والتصعيد في البحر الأحمر من جانب آخر، وكذا الانشغالات الداخلية وخاصة الانتخابات الأمريكية المقبلة وترتيباتها، يمكن القول إن تأثير هذا العامل الخارجي على انتخاب رئيس لبنان سيظل مُرجأً إلى مرحلة لاحقة.
3. الارتهان بمآل حرب غزة: في ضوء انغماس حزب الله في التصعيد الجاري مع إسرائيل في جنوب لبنان، وتأكيده استمرار معركة الإسناد لفصائل المقاومة ما استمرت الحرب، يمكن القول إن الحزب لن يحقق أي اختراق في ملف انتخاب الرئيس إلا بعد تبيان مآل حرب غزة وما ستنتهي إليه، ولاسيّما مع وجود تصريحات متوالية من قادة عسكريين إسرائيليين بضرورة شن عملية استباقية ضد حزب الله في لبنان، وهو ما إن حدث سيكون له بالغ الأثر على لبنان في مجمله سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً. يُضاف إلى ذلك أن المعادلة السياسية والعسكرية اللبنانية قد تتغير إذا ما نجحت الجهود التي يقودها المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين فيما يتعلق بتطبيق القرار الأممي 1701 وما يرتبط به من وقف التصعيد بين إسرائيل وحزب الله ونشر قوات الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني وصولاً إلى الحدود الجنوبية وإخلاء المنطقة من السلاح. وبناءً على ذلك ليس من المتوقع تكثيف الضغوط لانتخاب الرئيس إلا بالتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة أو على أقل تقدير وقف طويل الأمد.
وفي التقدير، يمكن القول إنه على الرغم من كل المؤشرات الإيجابية التي طرحها الحراك المتنامي لملء الشغور الرئاسي في لبنان، فإن اصطدام تلك المؤشرات بالعراقيل الثابتة قد يُرجئ التسوية إلى مرحلة لاحقة. ويمكن القول إن ذلك الحراك على اتساعه لم يحظ حتى الآن باهتمام أمريكي حقيقي، وسيكون تحقيق الاختراق في هذا الملف مرهوناً بهذا الاهتمام الأمريكي الذي إن تحقق فإنه سيستطيع التوصل إلى تسوية سواء أكانت ضمن نفس إطار تسوية غزة أم مكملة لها.