عرض: وفاء الريحان
مع ندرة الأدبيات حول تاريخ البنية التحتية في العالم، باعتبارها ظاهرة مستقلة عن التصنيع والتحضر، وظهور البيروقراطية، وصعود دولة الرفاهية، تبرز أهمية كتاب البروفيسور الألماني ديرك فان لاك "شرايين الحياة لمجتمعنا: تاريخ عالمي للبنية التحتية"، إذ يحلل تطور تحديث شبكات البنى التحتية العالمية، على مدى المئتي عام الماضية، ولاسيما من القرن الثامن عشر حتى الوقت الحاضر.
يوضح الكتاب تأثير البنية التحتية في المجتمعات، وكيفية استيعاب الأفراد لها ومشاركتهم في تنظيمها، كما يركز على التغيرات في الحياة اليومية والتفسيرات المتغيرة الناجمة عن شبكات البنية التحتية؛ وكيف أحدثت هذه الشبكات، التي تتوسط بين البشر والعالم الطبيعي، تحولاً في العلاقات المكانية والاجتماعية في كل مكان تقريباً في العالم؟
بدايات البنى التحتية:
بدأ الكاتب بالحديث عن العصر الكلاسيكي للبنية التحتية، التي كانت تسمى في ذلك الوقت بالأشغال العامة، وكانت البداية في القرن الثامن عشر في إنجلترا عندما قامت فئة من الخبراء بتقديم المشورة للقادة السياسيين حول تطوير القنوات المائية. ووصل عصر القنوات الإنجليزية إلى ذروته في نهاية القرن الثامن عشر. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان هناك ما يقرب من 25 ألفاً من الصنادل قيد الاستخدام، كما طورت دول أخرى أنظمة قنوات مغلقة للنقل والتحكم في مستويات المياه.
وسهلت تلك القنوات تسريع عملية الشحن ليس فقط على الممرات المائية الداخلية، ولكن أيضاً في البحر؛ وازدادت أهمية النقل البحري ليصبح بنية تحتية حيوية بسبب التقدم في تقنيات الملاحة أو الطاقة البخارية، وكذلك ما يعرف الآن باللوجستيات العالمية، وعلى مدار القرن التاسع عشر، قامت الدول القومية الحديثة بدمج هذه الممارسات في مخططاتها السياسية.
ومنذ القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، كان السؤال الكبير هو من سيتمكن من الإمساك بكل الخيوط التي تربط المراكز الحضرية، والبلدان، والقارات؛ إذ تحددت في تلك الفترة السمات الأولى لمشروعات البنية التحتية في الآتي:
1- الطبيعة التوسعية للبنية التحتية: إذ امتدت شبكات البنية التحتية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، ولم تقتصر على منطقة جغرافية معينة، رغم أنه واقعياً كانت البداية حصرية للغرب. مع ذلك، يرى الكاتب أن الصورة الكبيرة اليوم "كوكبية"؛ يحكمها تداول البنية التحتية والنمو في جميع أنحاء العالم بفعل عوامل شتى. في هذا الإطار، لا يهمل فان لاك، ما قامت به الإمبراطوريات الكبرى في مستعمراتها؛ إذ زودت الأخيرة البنية التحتية الغربية بالكثير من الموارد، التي ما سهلت الأنظمة الاستخراجية، مثل السكك الحديدية، التي بنيت في القرن العشرين، الحصول عليها، إلا أن ذلك أدى إلى تداعيات سلبية على سكان المستعمرات سواءً على أجسادهم أم ثقافاتهم أم أساليب حياتهم.
2- التوترات بين الأغراض العامة والأرباح الخاصة: تُمثل الأشغال العامة، الفترة الأولية لكتاب فان لاك، عندما تولت الحكومات لأول مرة توفير الأنظمة والخدمات الأساسية مثل: الطرق والصرف الصحي والقنوات المائية. كانت هذه أيضاً فترة الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، اللتين كانتا مدعومتين بالبخار ووقودهما الفحم، والذي شكل نقله من المناجم إلى المصانع بدايات إنشاء القنوات والسكك الحديدية عبر إنجلترا وأوروبا والولايات المتحدة. ومع ظهور "التلغراف"، اتبعت كابلات الاتصالات تلك الطرق، التي أصبحت فيما بعد طرقاً سريعة رئيسية للسيارات والشاحنات، وربطت بين المدن.
3- التطورات الفكرية المصاحبة لازدهار البنى التحتية: أشار فان لاك إلى أن تطور أهداف البنى التحتية لتيسير تداول السلع والأشخاص والأفكار، وتقديم الخدمات لجميع المواطنين وتمكين التواصل بينهم، جاء بالتزامن مع أفكار عصر التنوير، والثورة السياسية في الولايات المتحدة وفرنسا، والثورة الصناعية الأولى، وصعود النظام الاقتصادي الليبرالي والمجتمع الجماهيري.
4- أدوات للسلطة السياسية للسيطرة: اعتبر الكاتب أن أدوات البنى التحتية التي أخضع بها الإنسان كل ركن من أركان الأرض، هي أدوات مثالية للسلطة السياسية وأفضل أسلحة الدول الحديثة في كفاحها لتقسيم العالم. وفي ظل الاندفاع لتقسيم العالم، لم تدم الجوانب الإيجابية للبنى التحتية لفترة طويلة. فقد جلبت الاكتشافات العلمية إمكانات جديدة للتوسع وذرائع لاستعمار المناطق "المتخلفة"، خاصة إفريقيا وجنوب شرق آسيا. وأصبح بإمكان الأوروبيين غزو الأراضي التي كان من الصعب اختراقها في السابق.
تغيرات الثورة الصناعية الثانية:
في أوائل القرن العشرين، كانت الثورة الصناعية الثانية قد بدأت للتو، وتزامن ذلك مع اشتداد حدة الصراعات السياسية في تلك الحقبة، وفي حين عززت الثورة الصناعية الأولى إنتاجية الشركات، كان للثورة الصناعية الثانية تأثير أكثر ديمومة في السكان بشكلٍ عام؛ ولاسيما أن توليد واستخدام الكهرباء، وتطوير وتسويق محركات الاحتراق، والمواد الاصطناعية، وظهور الاتصالات الحديثة، أدى إلى تغيير نسيج الحياة اليومية.
ففي غضون سنوات قليلة، انتشرت الاختراعات: الأجهزة الكهربائية بأنواعها، والمركبات الآلية، وناطحات السحاب، والآلات الكاتبة، والهواتف، وأجهزة تسجيل الصوت والصور الثابتة والمتحركة، وكان من أبرز تحولات القرن العشرين ما يلي:
1- تحولات قيمية وانتشار النزعة الاستهلاكية: مع انتشار الأجهزة الكهربائية التي وفرت العديد من المهام كأعمال المنزل، زادت النزعة الاستهلاكية خاصة أن الحملات الترويجية استهدفت النساء بشكل خاص بمزايا تلك الأجهزة من توفير النظافة والراحة ووقت الفراغ للمشاركة في أنشطة ذات معنى أكبر، وهو ما انعكس على زيادة الاحتياجات الاستهلاكية للبشر.
2- ازدهار مشروعات الإسكان: كان لتوسيع البنية التحتية تأثير في مشروعات الإسكان التي ازدهرت إلى حدٍ كبير لأن المنازل المبنية استوفت المعايير الحديثة. وعمل المهندسون المعماريون على بناء تصاميم توفر المساحة المطلوبة لكل ساكن، والظروف المثالية للطهي والتنظيف.
3- ظهور البنى التحتية الكهربائية: يمثل تاريخ الهاتف وتطوره، أحد أهم أوجه تطور البنى التحتية الكهربائية الشبكية. إذ اعتبر البعض أن الهاتف استطاع في فترة زمنية قصيرة أن يرسخ نفسه كوسيلة للتبادل في العالم المتحضر. ويأتي في هذا الإطار أيضاً السيارات باعتبارها أحدثت طفرة في تاريخ التنقل الجماعي والسياحة.
4- تطور البنية التحتية للسعادة: منذ القرن العشرين، توقفت الصناعة والتجارة عن تحديد مسار التنمية. وأصبحت مناطق الترفيه هي من تقوم بهذا الدور، وأعقب ذلك فترة تطوير تم خلالها إنشاء خطوط النقل والإمداد، وقد تمت تنمية هذه "البنية التحتية للسعادة" بطرق مختلفة، مما أثار أسئلة حول ما إذا كانت البنى التحتية السياحية تخدم المصالح العامة أو التوقعات الفاخرة لعدد قليل من الناس.
5- توظيف البنى التحتية في السلام أو الصراع: يُعد توظيف البنى التحتية في السلام أو الصراع من القضايا التي أُثيرت في القرن العشرين بفعل توترات البيئة الدولية وقتها؛ إذ كانت الحرب مهددة بالاندلاع في أي لحظة في جميع أنحاء العالم. وكان الاستراتيجيون العسكريون قلقين من استخدام البنى التحتية بما يُهدد الأمن القومي. وأبدى الخبراء العسكريون منذ فترة طويلة تحفظات بشأن شبكات الطرق الواسعة لأنها قد تسهل الغزو الأجنبي، والأسوأ من ذلك أنها قد تزود طائرات العدو بخريطة ملائمة للأهداف، أي تتحول إلى بنية عسكرية، ولكن في الإجمال، سادت رؤية متفائلة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين مفادها أن البنية الأساسية من شأنها أن تعمل على التقريب بين الأوروبيين.
قضايا البنية التحتية الراهنة:
ثمة مجموعة من قضايا البنية التحتية التي ظهرت مع الدخول في القرن الـ21، من أبرزها:
1- تنظيم البنية التحتية: ما يهم الكاتب هنا ليس تقييم ما إذا كان القطاع العام أو الخاص يُقدم الخدمة بشكل أفضل؛ ولكن إظهار كيف تنعكس أشكال تنظيم البنى التحتية المختلفة في الحياة اليومية للمستخدمين سواءً من القطاع العام أم الخاص. ويرى أن تقديم الخدمات من خلال القطاع الخاص نظرياً من المفترض أن يوفر للمستهلكين خيارات كثيرة، لكن غالباً ما تعطي الشركات الأولوية للكفاءة التشغيلية على حساب رضا المستخدم، وأوضح الكاتب أنه نظراً للاختلاف حول من الأفضل في تنظيم البنية الأساسية، فقد تعاونت الحكومة والسلطات المحلية والشركات لتشكيل شراكات بين القطاعين العام والخاص.
2- توفير التمويل: من أبرز القضايا التي تُثار في القرن الـ21 هي تلك المتعلقة بتمويل مشروعات البنى التحتية، وذهب الكاتب إلى أن أحد الإجابات تكمن في ما يُعرف بـ "المشاركة المدنية"، أي المشروعات التي يتم تنظيمها وتمويلها من القطاع الخاص أو القطاع الثالث، على سبيل المثال، المباني الممولة من التبرعات والتي أقامها المتطوعون، أو أن تقوم الأوقاف بالمشروعات الاجتماعية والثقافية، أو يتم تمويل العديد من المرافق بشكل مشترك من خلال أرباح الكازينوهات التي تديرها الدولة، وهو ترتيب يجمع بين الأنشطة الخيرية والمقامرة، أما الخيار الأخير فهو الاعتماد على القطاع الخاص في بناء المرافق وتشغيلها.
3- القيمة الرمزية للمشروعات: تختلف رؤية وجماليات البنى التحتية ثقافياً وتاريخياً. خلال القرن التاسع عشر، كان من دواعي الفخر جعلها بارزة قدر الإمكان؛ وكانت خزانات المياه والغاز ومحطات الطاقة وغيرها من المرافق كالأوثان الشاهقة تتميز بتصميمات عظيمة وزخارف متقنة. لكن في فترتي ما بين الحربين العالميتين وبعدهما، سادت الاعتبارات الوظيفية في المدن، إذ نظر السكان إلى مكونات البنية التحتية كمحطات معالجة مياه الصرف الصحي أو الكهرباء وغيرها كمصدر إزعاج. وتزايدت الأصوات التي تنادي بتقليل خطوط وكابلات الكهرباء الموجودة فوق الأرض وغيرها. وإن كان الكاتب يرى أن وجودها فوق الأرض عُد بمثابة مؤشر على العدالة الاجتماعية، لأن إخفاءها لا يقدم دليلاً على التوزيع العادل لمرافق البنية التحتية.
4- مشروعات العصر الرقمي: بلغت التطورات ذروتها في الهاتف الذكي الذي يَعد بالاستقلالية الكاملة، ويشكل عالم المرء. فذلك الهاتف يُعد بمثابة جهاز التحكم الشخصي عن بُعد في المجتمع الشبكي بأكمله، وقد أصبح استخدامه منتشراً على نطاق واسع حتى إنه وصل إلى أجزاء من العالم لم تخترقها البنى التحتية السابقة قط كما في بعض بلدان إفريقيا التي لا تملك شبكة كهربائية، رغم أنه ما تزال هناك اختلافات محلية.
5- التداعيات النفسية والاجتماعية للبنى التحتية: أدى نمو البنية التحتية إلى تعزيز القدرة على التحمل والمرونة، إذ يتعلم أغلب الناس كيفية التعامل مع ترتيبات الاتصالات والنقل بطريقة تسمح للأشياء بأن تسير بسلاسة وبأقل قدر من المخاطر. لقد أدت وسائل النقل العام إلى ظهور مساحات محددة من التفاعلات بين البشر، إذ يتعرف سكان المناطق الحضرية على الفور إلى "سكان الريف" من خلال اتجاهاتهم في التنقل وعبر التواصل البصري.
تساؤلات مستقبلية:
رغم أن البنى التحتية في العالم احتفظت إلى حد كبير بمظهر الحياد، فإنها كانت بمثابة أدوات للتأثير في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة. إذ يؤكد الكاتب أنه لا يمكن التنبؤ بالتطورات المستقبلية؛ خاصة في المجتمعات التي بدأت للتو في التعامل مع مفهوم البنية التحتية، في ظل ظروف مختلفة تماماً عن تلك الموجودة في الغرب.
مع ذلك، هناك مجموعة من التساؤلات ستظل محور الحديث عن مستقبل البنى التحتية في الشرق والغرب، ويتعلق أولها بالتنظيم، إذ تنشأ نماذج تعمل على دمج المصالح العامة والخاصة على نحو يحتاج إلى التفاوض بشأنه محلياً (كما هو الحال في الشراكات بين القطاعين العام والخاص). وثانيها، مسألة الرؤية، أي مدى الميل نحو الإخفاء، فالبنية الأساسية التي أصبحت شاملة على نحو متزايد يتم إنشاؤها بشكل أقل ظهوراً. وثالثها، الدورة بين ترتيبات شيخوخة الشبكات والتحديث المستمر لها؛ إذ تستمر المناقشة حول من المسؤول عن التحديث وكيف يمكن توزيع أعباء التكلفة بشكل عادل. ورابعها، يتعلق بضعف الشبكات ومساحات الاختراق، مما يستلزم المفاضلة بين الأمن والحرية. وأخيراً، مسألة ما إذا كان توافر البنية الأساسية يتطلب النمو الصناعي المستمر، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يمكن ابتكار وتنفيذ بدائل أكثر استدامة على نطاق عالمي.
المصدر:
Van Laak, D. (2023). Lifelines of our Society: A Global History of Infrastructure. (P. N. Edwards, Foreword). (E. Butler, Trans.). Cambridge: The MIT Press.