يُتوقع أن يعيش العالم في 2024 استمرار التهديد الجهادي الإرهابي كخطر رئيسي من حيث نطاق انتشاره وتجذره وعدد ضحاياه وكُلفة مكافحته... إلخ، ومخاطر أخرى ثانوية تتمثل أساساً في اليمين المتطرف بالدول الغربية والحركات البيئية، في حين ستستمر الحركات الإخوانية في كمونها.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك عوامل حاكمة لتباين شدة هذا الخطر وحدود توسعه، وهي ترتبط بعوامل متعددة تتعلق بحالة التنظيمات الداخلية والسياقات السياسية والعوامل الإقليمية والنزاعات ومدى الدعم الدولي للدولة المعنية في جهود مكافحة الإرهاب. وتلك العوامل ربما هي التي تتحكم في مستقبل الظاهرة الإرهابية صعوداً وهبوطاً، وتحكم تبايناتها.
خطر رئيسي:
من المُرجح في عام 2024 أن تبتعد التنظيمات الجهادية الإرهابية أكثر عن تحقيق اختراق أمني يعيد لها "مجدها" السابق، لفشلها في استغلال أحداث السودان وغزة وحرق المصحف في إحراز اهتمام إعلامي جدير بالمتابعة، فضلاً عن ردها على مقتل زعمائها (أيمن الظواهري/ أبي الحسين القرشي...) بالبيانات دون العمليات. كما يُتوقع ترسخ الوازع المحلي، على حساب العالمي، في العمل الجهادي، واستمرار التجنيد باعتماد الحاجة للدخل المادي، وليس القناعات الأيديولوجية.
فيما لا يُستبعد اضطلاع حلف شمال الأطلسي "الناتو" بمهام أكبر في المكافحة التي ستعترضها صعوبات، بعضها "مستمرة" من الفترة السابقة تتمثل في اختلافات الدول بشأن تعريف الإرهاب وتقدير مخاطره وتأثر التعاون الأمني بالتصدعات الدبلوماسية وحالات الدول الفاشلة وهفوات النظام المالي الدولي وغياب الدولة بمناطق تتيح للإرهابيين الاتجار في الذهب والممنوعات وغسل الأموال وغيرها، ثم تزايد اعتمادهم على التكنولوجيا وضعف الاستثمار في التنمية.
وثمة صعوبات أخرى "مستجدة"، قد تنبثق من استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، ما يحول المنطقة إلى مركز اهتمام للجهاديين وانخراط التنظيمات الإخوانية في العمل الجهادي. كما أنه من شأن تكرار الانقلابات العسكرية في إفريقيا، خلق وضع جيوسياسي أكثر هشاشة أمام الاختراقات الجهادية.
وربما تتخذ الظاهرة الجهادية الإرهابية أشكالاً تختلف بحسب التطورات الجيوسياسية، كالتالي:
1- الشرق الأوسط: من المُرجح أن تبقى سوريا تتصدر الدول المُستهدفة من تنظيم داعش، خاصةً بمناطق النظام لكن باقتصاره على معارك الكر والفر ونصب الكمائن وزرع العبوات الناسفة... إلخ. وفي المقابل، يُتوقع استمرار تراجع داعش بمنطقة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بفعل فاعلية المكافحة للتحالف الدولي وسقوط العديد من قيادات التنظيم، ومنهم زعيمه أبي الحسين القرشي.
فيما تبقى المخيمات التي تأوي عناصر داعش وعائلاتهم من دون حل، وبالتالي استمرار القلق بشأن المشكلة بالمخيمات والتهريب والتجنيد، كما يمكن لاستمرار غياب ثقة العشائر العربية في "قسد" أن يسبب استفحال توترات طائفية تستغلها داعش. فيما ستتبين أسباب اعتقال قياديين في "هيئة تحرير الشام" وانشقاق المسؤول الاقتصادي في الهيئة ومصير الرجل الثاني أبو مارية القحطاني، دون توقع تداعيات كبيرة على قوة التنظيم وتماسكه وقدرة الجولاني على الاستمرار في قيادته.
وفي العراق، ستواصل الحكومة نجاحها ضد الإرهاب لتكرس الإنجازات السابقة دون القضاء النهائي على داعش. كما سيستمر الوجود العسكري الأمريكي وفق الاتفاق القاضي باقتصاره على المهام الاستشارية، بحجة استمرار التهديد الإرهابي وفي نفس الوقت لحاجة العراق للدعم الأمريكي للجم التحركات الإيرانية.
أما اليمن، فيُحتمل احتفاظ فرع القاعدة هناك بنفس المستوى من تهديده ضد القوات الجنوبية واستمرار تخادمه (تحالفه) مع مليشيا الحوثي مقابل إطلاق سراح عناصره ودعمه استخباراتياً وفنياً. ولا يُستبعد توظيفه في مهام أكبر في حال توجيه ضربات إسرائيلية أو أمريكية ضد الحوثيين. كما لا يُستبعد سعي سيف العدل، الزعيم المفترض للقاعدة المُقيم بإيران، لجعل التنظيم أكثر تناغماً مع استراتيجية طهران وما يُسمى "محور المقاومة".
2- إفريقيا: يُتوقع احتفاظ منطقة الساحل الإفريقي بنسب مقلقة من النشاط الإرهابي وبتصنيف دولها ضمن الأكثر تأثراً بتداعياته. أما "ميثاق ليبتاكو-غورما"، المُوقع من طرف مالي وبوركينا فاسو والنيجر في سبتمبر 2023، فسيكون تأثيره في إثارة مشاعر التحرر أكبر من مفعوله على الميدان. كما ستستمر المصاعب الأمنية بفعل الصراع الطائفي ومجموعات الدفاع الذاتي وضعف المؤسسات الأهلية والتغير المناخي... إلخ، الشيء الذي لا يستثني سيناريو التفاوض أمام تفاقم الموقف.
ففي مالي، تُحتمل زيادة تنسيق القوات الأزوادية مع "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي تحاصر مدينة تمبكتو لمواجهة الجيش. وهذا يخدم تركيز الجماعة على البُعد المحلي، ولا يُستبعد إطلاقها رهائن جدد كعربون حسن نية لتُقبل كفاعل وطني. كما لا يُستبعد السعي للتخادم مع فرع داعش واستحداث آليات لتنظيم طرق الإمداد وتقاسم النفوذ، خاصةً أنه يتطلع للسيطرة على منطقة ميناكا ليتمدد في منطقة الحدود الثلاثية.
وفي بوركينا فاسو، يُرجح تصاعد التهديد الجهادي مع ارتفاع تكلفة حملات المكافحة وتضايق الأهالي من الوضع، وتواتر المؤشرات لارتباك النظام العسكري وتحسبه لانقلاب جديد، مما يؤثر في صموده في مواجهة الجهاديين.
أما النيجر، فلا يُتوقع تحقيق حكامه طفرة أمنية تميزهم عن سابقيهم، بل من شأن اضطراب المرحلة الانتقالية وانهيار الخدمات الاجتماعية، تحفيز الجهاديين على تأجيج حالة الاحتقان.
وبخصوص المنطقة الساحلية لغرب إفريقيا، يُتوقع أن تشهد دولها تزايداً في الهجمات الإرهابية، الأمر الذي سيدفع الغرب للاستثمار أكثر في استقرارها لتقوية أنظمتها وتعزيز شعبيتها لضمان ولائها أمام التمدد الروسي وتحصينها من الانقلابات العسكرية. أما نيجيريا، فستستمر في التعرض للتهديدات الإرهابية بسبب نشاط جماعة بوكو حرام وفرع داعش وتأثرها بالأوضاع الأمنية لجيرانها.
وفي القرن الإفريقي، سيشكل الصومال الحالة الأبرز، بأن يحقق الجيش، الذي رُفع عنه حظر السلاح، نجاحاً في المرحلة الثانية من عملياته لاستعادة ما تبقى من مواقع تحت سيطرة حركة الشباب بولايتي هرشبيلي وجالمودوغ، ثم الانتقال جنوباً إلى ولايتي جنوب الغرب وجوبالاند. كما يُحتمل أن يحقق تقدماً مُعتبراً يعطي لوعد الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، بطرد الحركة خلال عام واحد، مصداقية ميدانية. ويعزز هذا الاحتمال قرار مجلس الأمن تمديد بعثة "أتميس"، مراعاة لاحتياجات الجيش الصومالي، واستعداد الولايات المتحدة لدعمه، وحرص دول الجوار على اعتبار الحرب على حركة الشباب حرباً مشتركة، فضلاً عن بوادر الانشقاق في قيادة الحركة.
3- جنوب آسيا: يُتوقع استمرار تجميد تنظيم فرع القاعدة بخراسان لنشاطه، انسجاماً مع القراءة الجيوسياسية للقاعدة وعدم إحراج حليفته طالبان، عكس فرع داعش "ولاية خراسان" الذي سيستغل كل فرصة للضرب. ففي أفغانستان، يُتوقع استمرار التنظيم في خططه لاستهداف المسؤولين والمؤسسات الحكومية وخاصةً الشيعة لإثارة ردة فعلهم ضد السُنة واستثمار حالة الفوضى في التجنيد.
كما يُتوقع استمرار طالبان أفغانستان في غض الطرف عن نشاط "تحريك باكستان"، وغيرها مثل "الحركة الإسلامية في أوزبكستان" و"حركة تركستان الشرقية الإسلامية"؛ لكونها توفر ورقة ضغط بيدها ضد جيرانها، كما أن استسلامها للضغوط الإقليمية والدولية بشأن طرد الجماعات المسلحة قد يتسبب في شروخ داخلية يقودها جناح حقاني المتشدد.
وبالتالي يُتوقع استمرار نشاط "تحريك باكستان" واتساع مناطق استهدافاتها في باكستان، بحسب توسيع ائتلافها وتحالفاتها بالتوازي مع فشل القوات الأمنية في احتواء الموقف، الأمر الذي يترتب عليه تجدد التوتر مع أفغانستان الذي قد يصل إلى تنفيذ غارات ضدها دون المجازفة بحرب شاملة. كما لا ينتظر من كابل إجراءات رادعة ضد "تحريك باكستان"؛ لأسباب "خاصة" تتعلق بشعبيتها لدى البشتون في البلدين وبتجذر العلاقة بين قيادتي التنظيمين واشتراكهما في نفس الثقافة الدينية والسياسية.
فيما ستشكل الانتخابات المُزمع تنظيمها في أواخر يناير 2024 بعد تأجيلها سابقاً، في ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، اختباراً لقدرات باكستان الأمنية على الإحاطة بالتهديدات المُحدقة سواءً من "تحريك باكستان" أم داعش أم الجماعات الانفصالية.
مخاطر ثانوية:
تتمثل المخاطر الثانوية المُتوقعة للتطرف والإرهاب في عام 2024، في الآتي:
1- تنامي تهديد اليمين المتطرف: يُرتقب تزايد تهديد اليمين المتطرف في الغرب، ولا تُستبعد سيناريوهات مماثلة لما اكتشفته ألمانيا من "محاولة انقلاب" لليمين المتطرف في ديسمبر 2022، ومع ذلك سيبقى هذا التهديد ثانوياً ضمن اهتمامات السياسات الأمنية بالمقارنة مع التهديد الجهادي. إذ لا يُنتظر تشدد في السياسات الغربية في هذا الشأن خاصةً في الولايات المتحدة، كما لا يُتوقع من إدارة بايدن توثيق التعاون مع الأوروبيين بسبب تعقيدات المنظومة القانونية والاعتبارات السياسية.
وبالتالي يُحتمل استمرار استهداف الأجانب، خاصةً المسلمين ورموزهم، ولاسيما في حال استمرار مطالبهم الهوياتية، وتداعيات النزاعات المسلحة مثل ما يحدث في غزة.
وسيستمر اليمينيون المتطرفون في استغلال المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والارتكاز على النزعة القومية والتخويف من الهجرة والإسلام، وسيزيدون من تشبيك علاقاتهم في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ويُتوقع أن تحقق الأحزاب اليمينية المتطرفة انتصارات انتخابية في بلجيكا والنمسا والبرتغال ورومانيا والبرلمان الأوروبي، تتوج مكاسبها السابقة في إيطاليا والسويد والمجر وبولندا وإسبانيا. ولكن ستفرض عليها الائتلافات الحكومية والضغوط الاقتصادية، التخفيف من لهجتها دون الحد من العنف العنصري.
كما يُتوقع احتواء منصات شركات التكنولوجيا الأمريكية على المحتويات الأيديولوجية لليمين المتطرف، وتوسيع دائرة قبولها في المجتمع بسبب اختباء أصحابها وراء الدفاع عن حقوق المجتمعات الغربية وأصالتها، وسهولة اختراقهم لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني والسيطرة على برامج الجمعيات وأصولها.
2- سلمية أكبر للراديكالية البيئية: يُتوقع تواصل نجاح الحركات البيئية في جعل البيئة قضية رأي عام تحظى بالاهتمام الإعلامي ودعم العلماء البيئيين وتفهم القضاة، وبالتالي تمايز أوضح في احتجاجاتها عن "الفاشية البيئية"، المُؤطرة بأيديولوجية اليمين المتطرف، بالرهان على المداخل القانونية والسياسية لإحداث التغيير. الأمر الذي سيجعل الحكومات أكثر استعداداً للتجاوب مع المطالب البيئية، وبالتالي حصول "اعتدال" في السلوك الاحتجاجي للنشطاء.
3- استمرار كمون الإخوانية: من غير المُرجح أن تثير جماعة الإخوان المسلمين، والتنظيمات المرتبطة بها، أي تصعيد خطابي أو عملي، من شأنه تهديد السلم لأي من الدول التي توجد بها. وذلك لعوامل تتعلق ببراغماتيتها وتركيزها على إعادة البناء خلال فترة صلاح عبدالحق، القائم بأعمال مرشد الإخوان، ومحاولة تأهيل خطابها في الدول التي شهدت فيها تراجعاً انتخابياً، فضلاً عن تكييف خطابها مع متطلبات التحولات الإقليمية والدولية. غير أن استمرار الحرب في غزة، والاشتباكات العسكرية بين إسرائيل والتنظيمات الإسلامية، قد يقنع جهات منها باعتماد العمل الجهادي أو دعمه.