نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب عادل على، تناول فيه استخدام الصين الأداة الإعلامية لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، ذاكرا الآليات التى تعتمد عليها بكين، والتحديات التى تواجهها فى تحقيق هذا الغرض، وإلى أى مدى نجحت حتى الآن... نعرض من المقال ما يلى:
استضافت «وكالة أنباء شينخوا» الرسمية الصينية، خلال الفترة من 2 إلى 8 ديسمبر الماضى، النسخة الخامسة للقمة العالمية للإعلام، بمشاركة ممثلين عن وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والمنظمات الدولية من أكثر من 100 دولة ومنطقة. وتُعد هذه المرة الثالثة التى تستضيف فيها الوكالة مثل هذا الحدث المهم، بعد النسختين الأولى عام 2009، والرابعة عام 2021.
سبق أن خصصت الحكومة الصينية فى مارس 2023 حوالى 8 مليارات دولار كميزانية للإنفاق الدبلوماسى للعام الماضى، بزيادة قدرها 12.2%، ويتضمن حزمة متنوعة من المجالات، من ضمنها الدعاية الخارجية. وهو ما يطرح التساؤل بشأن دوافع اهتمام الصين بدور الإعلام فى إطار أهداف سياستها الخارجية، وآليات وأدوات الاستراتيجية الإعلامية لبكين، وما تمخض عنه توظيف الإعلام، وما قد تواجهه الصين من تحديات بهذا الشأن؟
ثمة علاقة قوية تربط بين الإعلام والسياسة الخارجية فى النظام الدولى الراهن، إذ يُعد الأول إحدى الوسائل المهمة لتنفيذ الثانية، إذ بات يؤدى دورا متزايد الأهمية فى تنفيذ أهداف السياسة الخارجية، والتى تتجسد فى تحقيق المصلحة الوطنية للفواعل الدولية المختلفة، عبر التأثير فى الرأى العام فى الدول الأخرى، وكذلك فى الرأى العام العالمى.
تعمل الصين فى إطار مشروعها للانطلاق إلى العالمية، على الانتقال من مرحلة الانعزال والسلبية التى ميزت سياستها الخارجية فى عهد دينج شياو بينج، إلى مرحلة تتسم فيها هذه السياسة بالنشاط والاستباقية فى عهد الرئيس الحالى، شى جين بينج، وهو ما يتضح فى دعوته إلى تعزيز القوة الناعمة للصين، وطرح رواية صينية جيدة، وإيصال رسائل بكين إلى العالم بشكل أفضل. وهو الهدف العام الذى تسعى وسائل الإعلام الرسمية الصينية، وكذلك الدبلوماسيون الصينيون فى الخارج، إلى تحقيقه لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية لبكين. ويتفرع عن هذا الهدف الرئيسى مجموعة من الدوافع الفرعية، والتى يمكن رصدها فى الآتى:
1) الدفاع عن القضايا الجوهرية للصين التى تمثل أولوية قصوى بالنسبة للسياستين الداخلية والخارجية لبكين، والتى غالبا ما تُعد سببا فى توجيه الانتقادات إليها. ومن أمثلة هذه القضايا؛ مسألة تايوان، وأوضاع المسلمين فى إقليم شينجيانج، وقضية التبت، والاستقرار السياسى والاجتماعى، وحقوق الإنسان، ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى قضايا بحر الصين الجنوبى، والأوضاع فى هونج كونج.
2) مواجهة الهيمنة الإعلامية الغربية نتيجة سيطرة الغرب لعقود طويلة على المشهد الإعلامى والمعلوماتى الدولى، وذلك من خلال طرح وسائل الإعلام الرسمية الصينية رؤية بديلة للسردية الغربية، عبر الترويج لنسخة ورواية صينية خاصة للقضايا والأحداث التى تجرى فى الصين وآسيا والعالم. إذ تُقدم تقارير وتغطية إخبارية أكثر عن البلدان النامية مقارنة بوسائل الإعلام الغربية، كما أنها لا تمتلك أجندة خفية أو تحاول الترويج لأى قيم سياسية أو اجتماعية معينة لدول العالم، علاوة على تبنيها موقفا محايدا تجاه القضايا العالمية.
3) تفنيد التصورات الخاطئة لواشنطن تجاه بكين فى إطار سيطرة التنافس والصراع على العلاقات الصينية الأمريكية، إذ تقوم وسائل الإعلام الرسمية الصينية بتفنيد ما ترى أنه تصورات خاطئة من جانب الولايات المتحدة تجاه الصين، ولاسيما سعى الأولى إلى الترويج لخطاب «التهديد الصينى»، والتدخل فى شئون بكين الداخلية، وتشويه سياسة الصين الداخلية والخارجية، فى محاولة لاحتواء الأخيرة.
تتبنى الصين استراتيجية إعلامية ودعائية خارجية، ترتكز على مجموعة متنوعة من الآليات والوسائل، ويمكن رصد أبرزها فى النقاط التالية:
1) الاستثمارات المالية فى وسائل الإعلام المحلية والدولية، إذ تضمنت بعض الدراسات والتقارير الإعلامية الدولية بعض الإحصائيات والأرقام التقريبية حول حجم الإنفاق المالى الصينى على وسائل الإعلام لخدمة أهداف سياستها الخارجية. فعلى سبيل المثال، أشارت مصادر إلى أن بكين أنفقت حوالى 6.6 مليار دولار منذ عام 2009، لتعزيز حضورها الإعلامى العالمى، كما استثمرت 2.8 مليار دولار فى وسائل الإعلام بين عامى 2008 و2018. وأشارت «منظمة فريدوم هاوس» عام 2022 إلى أن بكين تخصص مليارات الدولارات سنويا لجهودها الدعائية والرقابية الأجنبية.
كما قدرت «منظمة مراسلون بلا حدود»، فى مارس 2019، أن الحكومة الصينية تستثمر نحو 1.3 مليار دولار سنويا؛ بهدف زيادة الانتشار العالمى لوسائل إعلامها، مشيرة إلى أن بكين تحاول أيضا السيطرة على وسائل الإعلام الأجنبية عن طريق شراء حصص فيها. وهو ما أكدته وزارة الخارجية الأمريكية فى تقرير أصدرته فى أواخر سبتمبر 2023، يشير إلى أن «مؤسسة الاستثمار الصينية» تمتلك 7% من شركة «يوتلسات» الفرنسية لإدارة الأقمار الاصطناعية؛ بهدف بث قنوات صينية تديرها الدولة للترويج لبكين فى إفريقيا.
2) تنظيم اللقاءات والمنتديات الإعلامية الكبرى، ومنها على سبيل المثال القمة العالمية للإعلام، والتى استضافتها «وكالة شينخوا» ثلاث مرات فى أعوام 2009 و2021 و2023؛ وذلك بهدف تعزيز التبادل والتعاون الإعلامى مع الصحفيين والإعلاميين من الدول الأخرى.
بكين نجحت نسبيا فى جعل الإعلام أداة ووسيلة قوية لتحقيق أهدافها فى سياق علاقاتها مع العالم الخارجى. ومع ذلك، فإن هذا النجاح يواجه العديد من التحديات التى قد تحد من تأثير وسائل الإعلام الرسمية الصينية فى تحقيق أهداف الدولة والحزب الشيوعى الصينى الخارجية. وهذا ما يتضح فيما يلى:
1) مؤشرات بارزة على النجاح: هناك مؤشرات عدة تعكس النجاح النسبى للإعلام الرسمى الصينى كإحدى أدوات تنفيذ أهداف السياسة الخارجية لبكين. فقد تنامى التعاون الإعلامى بين الصين ومعظم دول العالم، إذ نجحت «وكالة شينخوا»، حتى ديسمبر 2023، فى توقيع اتفاقيات تعاون مع أكثر من 3600 مؤسسة فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك وسائل إعلامية وإدارات حكومية ومؤسسات للتعليم العالى. ونجحت وسائل الإعلام الرسمية الصينية فى توسيع نطاق انتشارها وحضورها على المستوى الدولى فى السنوات الأخيرة، سواء من حيث إنتاج المحتوى الإخبارى والإعلامى الصينى أم من حيث بث البرامج التلفزيونية والإذاعية التى تديرها الدولة.
بيد أن هذا النجاح النسبى واجه على الجانب المقابل تراجعا ملحوظا فى مكانة وصورة الصين على المستوى العالمى. إذ يشير تقرير «منظمة فريدوم هاوس»، الصادر فى سبتمبر 2022، إلى أن الرأى العام فى 23 دولة من أصل 30 دولة تضمنها التقرير، أصبح أقل تفضيلا للصين أو حكومتها. كما تشير الدراسات التى أجراها «مركز بيو للأبحاث» إلى أن الرأى العام تجاه الصين فى الاقتصادات المتقدمة أصبح أكثر سلبية بشكل حاد منذ عام 2017؛ بسبب المخاوف من سجل بكين فى مجال حقوق الإنسان والحشد العسكرى فى بحر الصين الجنوبى، وفاقم ظهور وباء «كورونا« من تراجع الآراء بشأن الصين، وفقا لهذا المركز.
2) تحديات متنوعة: يواجه الإعلام الصينى مجموعة من التحديات، منها ما يتعلق بالتعامل مع التقنيات الجديدة فى مجال الإعلام، ولاسيما الذكاء الاصطناعى، ومكافحة الأخبار الزائفة. بالإضافة إلى التحدى الذى تفرضه المنافسة الإعلامية الأمريكية للصين، وتحول الإعلام إلى أحد مجالات التنافس والصراع بين البلدين، خاصةً فى ظل تزايد لجوء بعض الدول النامية إلى المحتوى الإخبارى والإعلامى الصينى، والذى بات يهدد وسائل الإعلام الغربية. الأمر الذى دفع واشنطن إلى اتهام بكين بالتلاعب بوسائل الإعلام العالمية، وذلك فى محاولة من جانب الولايات المتحدة، على ما يبدو، لإقناع الدول بأن الصين تقوم بجهد دعائى كبير كجزء من «حرب معلومات عالمية» غير مُعلنة، وهو ما رفضته بكين بشدة، متهمة واشنطن بأنها «إمبراطورية الأكاذيب» الحقيقية. بالإضافة إلى التهم الموجهة للصين بمحاولة التأثير فى الانتخابات الأمريكية باستخدام الذكاء الاصطناعى، وهو ما وصفته بكين بأنه تهم متحيزة وتكهنات خبيثة، خاصةً أنها تدعو إلى الاستخدام الآمن للذكاء الاصطناعى.