بينما تنعقد القمة الثامنة والعشرون للمناخ "كوب28" في دولة الإمارات العربية المتحدة، جاءت أسواق الكربون في مقدمة الأفكار المطروحة لاحتواء انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية والحد منها، وتحقيق صافي انبعاثات صفرية.
وعلى سبيل المثال، في اليوم الثالث لمؤتمر "كوب28"، أعلن البنك الدولي، في 2 ديسمبر الجاري، عن خطط طموحة لنمو أسواق الكربون العالمية التي تتمتع بدرجة عالية من السلامة والنزاهة، إذ من المقرر أن تحقق 15 دولة دخلاً من بيع اعتمادات الكربون الناتجة عن الحفاظ على غاباتها. وفي العام المقبل، ستحقق هذه البلدان أكثر من 24 مليون اعتماد، ونحو 126 مليون اعتماد بحلول عام 2028. ويمكن أن تحقق هذه الاعتمادات 2.5 مليار دولار في ظروف السوق المناسبة، وستعود نسبة كبيرة من هذا المبلغ بالنفع على المجتمعات المحلية والبلدان المعنية.
ويسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على مفهوم أسواق الكربون، ودورها في مواجهة تغير المناخ، والفرص التي تتيحها للدول النامية، وأهم المشكلات أو التحديات التي تواجهها في قارة إفريقيا.
ماهية أسواق الكربون:
أسواق الكربون هي نظام تجاري يمكن من خلاله للدول بيع أو شراء وحدات من انبعاثات الاحتباس الحراري التي تطلقها الدول بهدف الالتزام بالحدود الوطنية المسموح بها لهذه الانبعاثات. ويرجع استخدام مصطلح الكربون إلى أن غاز ثاني أكسيد الكربون هو غاز الاحتباس الحراري الأكثر شيوعاً، ويتم قياس انبعاثات الغازات الأخرى بوحدات تُسمى مكافئات ثاني أكسيد الكربون.
ونشأت أسواق الكربون في الأساس كمقترح لاتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي عام 1992، والتي وضعت إطاراً للعمل الدولي للتعامل مع تحديات التغير المناخي. وهو الهدف الذي تم تأكيده في إطار بروتوكول كيوتو عام 1997، والذي حدد أهدافاً للدول للحد من الانبعاثات من خلال مجموعة من الأدوات؛ من أبرزها نظام تداول حقوق انبعاثات الكربون، إذ أشارت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ إلى "آلية السوق التي يمكن استخدامها في مكافحة الانبعاثات". ووافقت الدول المشاركة في مؤتمر المناخ "كوب26" الذي عُقد في غلاسكو عام 2021، على المادة 6 من اتفاق باريس والخاصة بالقواعد المنظمة لأسواق الكربون الدولية.
وتقوم فكرة أسواق الكربون انطلاقاً من هذا الهدف، إذ يجري تحديد حصص محددة من الانبعاثات الكربونية لكل دولة. ويمكن للدول التي تتجاوز حصتها المحددة من الانبعاثات شراء حصص إضافية من الدول التي لديها فائض من حقوق الانبعاثات. بينما يمكن للدول التي تحقق تخفيضات في انبعاثاتها أن تبيع حصصها الزائدة للدول الأخرى التي تحتاج إليها.
ويمكن تطبيق نفس الفكرة على مستوى القطاعات داخل الدول، إذ يتم تحديد حصص للانبعاثات لكل قطاع أو حتى مؤسسة، ويتم التداول بين هذه القطاعات أو المؤسسات وفقاً لمستويات العجز أو الفائض. وبذلك تُعد هذه الاستراتيجية لتداول الانبعاثات بمثابة حافز لتشجيع الدول والمؤسسات على تبني ممارسات مبتكرة وصديقة للبيئة لزيادة أرصدتها من الكربون، بشكل يؤدي في النهاية إلى تقليل انبعاثات الكربون. كذلك تُعد أسواق الكربون أداة فعالة لتمويل قضايا المناخ في إطار ما يُعرف بـ"عدالة المناخ".
وتُصنف أسواق الكربون إلى نوعين وفقاً للمنظور التشريعي: الأول هو "أسواق الكربون الإلزامية"؛ والتي تهدف إلى ضرورة أن يفي المشارك بالأهداف الصارمة التي تضعها الحكومات ويتم تنظيمها من خلال خطط دولية أو إقليمية لخفض الانبعاثات. والنوع الثاني هو "أسواق الكربون الطوعية"؛ والتي تسمح للشركات والأفراد بتعويض انبعاثاتهم على أساس طوعي من حيث أرصدة الكربون.
نمو عالمي:
على المستوى العالمي، يُعد نظام تجارة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي (EU ETS) أكبر سوق للكربون في العالم، إذ بدأ هذا النظام في عام 2005، ويشمل أكثر من 11 ألف منشأة في القطاعات الصناعية المختلفة والطاقة. وساعد هذا النظام على تقليل انبعاثات الكربون بنسبة تتجاوز 20% بحلول عام 2020. وهو ما حدث كذلك في نيوزيلندا التي بدأت هذا النظام في عام 2008، وفي أستراليا التي أطلقت سوق الكربون في عام 2012، وفي ولاية كاليفورنيا الأمريكية التي بدأته في عام 2013.
وفي منطقة الشرق الأوسط، أعلنت قطر في عام 2017 إطلاق سوق الكربون، وكذلك أعلنت دولة الإمارات إطلاق سوق الكربون في عام 2019. وفي عام 2020، أعلنت الأردن إطلاقها سوق الكربون، ثم أطلقت مصر سوق الكربون على هامش فعاليات قمة المناخ "كوب27" العام الماضي.
وشهدت السنوات الخمس الماضية نمواً مطرداً في سوق الكربون على مستوى العالم، إذ بلغ حجمها في عام 2022 حوالي 364.03 مليار دولار، لترتفع في العام الحالي إلى 479.41 مليار دولار، وذلك بمعدل نمو سنوي متوقع للفترة (2023 - 2030) يصل إلى 38.7%. وهو النمو المدفوع بشكل أساسي بالزيادة المستمرة في حجم الانبعاثات، وتباطؤ مسار التحول إلى اقتصاد "صفر كربون"، بالرغم من التعهدات التي تطلقها الدول المتقدمة بشكل مستمر. وهي التعهدات التي تمثل مصدراً أساسياً في النمو الكبير للطلب في أسواق الكربون خلال السنوات الماضية، مع توقع استمرار بل وتزايد معدلات الطلب في السنوات المقبلة مع إطلاق الدول المتقدمة لمستهدفاتها من خفض الانبعاثات. فعلى سبيل المثال، وافقت دول الاتحاد الأوروبي على تحقيق هدف خفض الانبعاثات المحلية بحلول 2030 بنسبة 55% تحت مستويات الانبعاثات لعام 1990. كذلك أعلنت 21% من أكبر الشركات العالمية التزامها بهدف "صفر كربون". وهذه التعهدات تسهم بشكل أساسي في هذا النمو المتسارع لأسواق الكربون.
جدل إفريقي:
لم تكن الدول الإفريقية بأي حال بمعزل عن تطورات العمل المناخي وأدواته المُستحدثة. ففي قمة "كوب27" في مدينة شرم الشيخ بمصر، تم إطلاق مبادرة سوق الكربون الإفريقي (ACMI) بالتعاون مع التحالف العالمي للطاقة من أجل الشعوب والكوكب (GEAPP)، والطاقة المستدامة للجميع(SEforALL) ، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا (UNECA)، وبدعم من لجنة الأمم المتحدة المعنية بالمناخ. ووضعت المبادرة هدفاً طويل الأجل لإفريقيا بالوصول إلى 300 مليون ائتمان كربون سنوياً بحلول 2030، وأكثر من 1.5 مليار سنوياً بحلول 2050.
والحقيقة أن أسواق الكربون تمثل فرصة حقيقية أمام الدول الإفريقية للاستفادة من مواردها الطبيعية. فعلى سبيل المثال، فإن الغابات الاستوائية الموجودة على مساحات شاسعة من القارة الإفريقية تخزن سنوياً من 1.1 مليار إلى 1.5 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي يمكن الاستفادة من هذه المصارف الطبيعية للكربون في كسب إيرادات إضافية تدعم الاقتصادات الإفريقية، خاصةً مع ارتفاع عائدات تسعير الكربون العالمي بحوالي 60% تقريباً بنهاية عام 2020 إلى حوالي 80 مليار دولار.
كما يمكن لأسواق الكربون أن تسد فجوة التمويل التي تعاني منها الدول الإفريقية في مجالات التكيف ومواجهة تحديات التغير المناخي، خاصةً مع عدم التزام الدول المتقدمة بوعودها بتمويل أو مساعدة الدول الإفريقية والنامية لمواجهة قضايا المناخ. وإن كان مؤتمر "كوب28" قد تبنى، في يومه الأول، قرار تفعيل إنشاء صندوق "الخسائر والأضرار" المناخية لتعويض الدول الأكثر تضرراً من تغير المناخ، وذلك في خطوة تاريخية في اتجاه تخفيف التوترات المتعلقة بالتمويل بين دول الشمال والجنوب. ومن المُقرر أن يتولى البنك الدولي إدارة هذا الصندوق.
وعلى صعيد آخر، يرى بعض ناشطي المناخ في إفريقيا أن أسواق الكربون ليست الحل السحري لقضايا التمويل في القارة السمراء كما يُروج لها، وإنما هي بمثابة "تصاريح للتلوث" وهدية لشركات النفط. إذ يمكن أن يُنظر إلى هذه الأسواق على أنها بمثابة آليات تستخدمها الشركات والدول المتقدمة لتجنب المساءلة عن دورها في التسبب في الاحتباس الحراري ومواصلة العمل المُعتاد طالما أن هذا التلوث سيُترجم في النهاية في صورة أموال سيتم دفعها.
كذلك قد يُنظر إلى أسواق الكربون على أنها تأصيل لمبدأ غياب العدالة بين الدول المتقدمة والنامية في التنمية، حين تتحول أموال هذه الأسواق إلى مجرد تعويضات تدفعها الدول المتقدمة، مع استمرارها في تلويث البيئة، للدول النامية ومنها الإفريقية لتحاول التكيف مع هذا التدهور البيئي دون استغلالها في جهود حقيقية لإحداث تنمية خضراء، خاصةً مع غياب الضمانات أو الآليات التي تنظم استخدام هذا التمويل في الدول النامية أو تضع حدوداً قصوى للدول المتقدمة في استخدام تلك الأداة كمخرج لسلوكها ضد البيئة.
تحديات إفريقية:
ما تزال أسواق الكربون في الدول النامية عموماً، ومنها الإفريقية، في أطوارها الأولى، وما تزال تواجهها العديد من التحديات التي قد تعوق تحقيقها الأهداف المرجوة. فنصيب القارة الإفريقية في سوق الكربون العالمي ما زال ضئيلاً للغاية مقارنةً بإمكاناتها الطبيعية الهائلة، إذ يبلغ 2% فقط ويتركز في جمهورية جنوب إفريقيا ودول شمال إفريقيا. ولعل من أهم هذه التحديات التي تفسر ذلك ما يلي:
1- ضعف البنية التحتية اللازمة لإنشاء وتشغيل أسواق الكربون في إفريقيا: تعتمد عملية تشغيل هذه الأسواق على سجلات وأنظمة تحقق، تضمن كفاءة عملها وعدم ازدواجية القيود وتسعيراً مناسباً للدول الإفريقية يحقق لها العدالة. وتفتقر الدول الإفريقية بشكل كبير لهذه الآليات ذات الكفاءة، مما يشكل تحدياً أمام استفادة هذه الدول بشكل عادل من أسواق الكربون. ففي زامبيا، على سبيل المثال، وخلال تنفيذ مشروع إعادة تشجير الغابات، لم تكن الدولة قادرة على إنشاء نظام تسجيل مناسب لتتبع أرصدة الكربون لديها.
2- نقص الإمكانات المالية والبشرية: ما تزال قضية التمويل عائقاً أمام قضايا التنمية الإفريقية، فأسواق الكربون وإن كان لها عائد كبير مستقبلاً في القارة السمراء، فإنها تحتاج إلى حجم كافٍ من التمويل، خاصةً في ظل التنافس مع أولويات التنمية الأخرى في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، واجه صندوق غابات حوض الكونغو، على الرغم من إمكاناته، صعوبات في جذب تمويل مناسب لمشروعات الحفاظ على الغابات. كما تحتاج آلية عمل هذه الأسواق إلى قوى بشرية قادرة على تنفيذ عمليات الرصد والتحقق، وتحتاج عملية بناء هذه القدرات إلى وقت وتدريب تفتقر إليه العديد من الدول الإفريقية.
كذلك فإن إحدى العقبات الأساسية التي تعوق نمو أسواق الكربون في إفريقيا هي العدد الصغير نسبياً من الشركات التي تدير مشروعات توليد الائتمان في القارة. ففي الفترة ما بين 2016 و2021، كان 10% فقط من أرصدة الكربون الصادرة عالمياً مصدرها القارة الإفريقية، ومعظمها مدرج من قِبل 15 شركة فقط.
3- غياب التشريعات: يُعد غياب التشريعات الواضحة والشاملة لإدارة وتشغيل أسواق الكربون في إفريقيا، عقبة أساسية في طريق تفعيلها وفقاً للمبادئ التي حددها اتفاق باريس، والتي تستلزم وجود آليات تشريعية تنظم عملية رصد وتنظيم والتحقق من أرصدة الكربون.
ختاماً، قد تُعد أسواق الكربون أداة فعالة لتمويل احتياجات القارة الإفريقية للتكيف ومواجهة تداعيات التغير المناخي، خاصةً مع تراجع التمويل العالمي للمناخ في السنوات الأخيرة، بيد أن مثل هذه الآليات تتطلب، بجانب الإرادة السياسية، وجود أُطر تشريعية ومؤسسية ومادية ملائمة تضمن تحقيق أقصى استفادة ممكنة للدول الإفريقية، وتضمن كذلك عملية تنفيذ وتسعير مناسبة لا تؤدي في النهاية إلى إهدار الحقوق الإفريقية. وبالرغم من بعض وجهات النظر المناهضة لأسواق الكربون واعتبارها في بعض الأحيان بمثابة تصريح لاستمرار الإضرار بالبيئة، فإن تنظيم هذه الأسواق ووضع أُطر مناسبة لاستغلال هذه الحقوق قد يحد من تأثيراتها السلبية في البيئة ويعظم من فوائدها للدول النامية والإفريقية.