أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

صدمة 7 أكتوبر:

لماذا يتجه المجتمع الإسرائيلي أكثر لليمين بعد حرب غزة؟

11 ديسمبر، 2023


ترافق اندلاع الحرب الحالية في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، مع حالة أزمة كان يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، تجلت بشكل واضح في الاحتجاجات المناهضة لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتشددة، والتي استمرت قرابة تسعة أشهر؛ وهي احتجاجات جاءت تتويجاً لتحولات مرّ بها هذا المجتمع خلال العقود الثلاثة الماضية، جعلته أكثر انقساماً، وأقل توافقاً، ومتجهاً بشكل واضح ناحية اليمين.

وجاءت حرب غزة لتُعزِّز تلك الوضعية، بدايةً من حالة اللايقين التي سادت المجتمع الإسرائيلي تجاه قضايا الأمن، والتي ربما تمنح اليد الطولى لهذه النوعية من القضايا خلال العقد المقبل، ما يفتح المجال أمام سياسات وشخصيات أكثر يمينية قد تُقنع الداخل الإسرائيلي بأنها قادرة على ضبط معادلة الأمن في البلاد. لذا لم يكن من المُستغرب أن تحظى حرب غزة بتأييد فئات المجتمع، وتتوارى الأصوات المعارضة لها.

انقسام مجتمعي:

هناك توجه في الدراسات المتخصصة في "علم الاجتماع الإسرائيلي"، بأن المجتمع الإسرائيلي قد تغير خلال الثلاثين عاماً الماضية، أكثر مما تغيّر خلال الفترة بين عام 1948 وأوائل التسعينيات. ومن بين منْ تبنّى هذا الاتجاه، أكاديميون إسرائيليون، مثل: إيتمار رابينوفيتش، ومردخاي كريمنيتسر، بجانب أكاديميين أجانب مثل: بير فيلانوفا، والذي تحدّث عن هذا الأمر في دراسته المنشورة عام 2009 في "المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط" (IEMed)، بعنوان: "إعادة التركيب السياسي والاجتماعي في إسرائيل وفلسطين".

وغالباً ما يُشار إلى لحظة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، في نوفمبر 1995، على يد أحد أتباع التيار الديني الأرثوذكسي المتشدد، على أنها نقطة مفصلية، تصلح لأن تؤرِّخ لتحول إسرائيل إلى مجتمع أكثر انقساماً، وذي نزعة يمينية. وبرز هذا الانقسام بشكل واضح من خلال الانتخابات البرلمانية التي نُظِّمت بعد ذلك، والتي جاءت بحكومات ائتلافية ضعيفة، عجزت عن استكمال فترة الأربع سنوات، أو حتى الاقتراب منها بشكل مستقر. وهيمن اليمين الإسرائيلي –في نسخه المختلفة- على تلك الفترة، باستثناء الحكومة الأخيرة لحزب "العمل"، والتي ترأسها إيهود باراك، في الفترة من يوليو 1999 وحتى مارس 2001. وكان الرأي العام الإسرائيلي أكثر تشدداً فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، وتحديداً ملف الصراع مع الفلسطينيين، وذلك مقارنةً بما كان عليه الوضع فيما سبق. وتعمّق هذا التشدد أكثر بعد انتفاضة الأقصى 2000، وجولات الحروب في غزة (2008/2009 – 2012 – 2014 – 2021)، وصولاً إلى الحرب الحالية التي بدأت في 7 أكتوبر 2023.

واتجه الخطاب العام الإسرائيلي إلى استقطاب غير عادي، وتحديداً منذ عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء عام 2009، وصار الحديث أكثر حول مجتمع إسرائيلي منقسم إلى خمس كتل: (العرب، واليهود الروس، واليهود الأرثوذكس المتدينون، واليهود اليمينيون العلمانيون، واليهود اليساريون العلمانيون). ومع سيطرة اليمين على مقاليد الحكم، ظهرت الخلافات بين هذه الكتل حول قضايا الدولة والمجتمع، والتي انعكست بدورها على الخلافات بين الأحزاب السياسية. ليصل المجتمع إلى ذروة هذا الانقسام في الفترة من 2019 إلى 2022، والتي شهدت لأول مرة في تاريخ إسرائيل 5 انتخابات برلمانية.

وأخيراً جاءت حكومة نتنياهو الحالية، في ديسمبر 2022، والتي صُنِّفت على أنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل؛ لتُجسِّد كل ما سبق؛ إذ تصاعدت موجة الاحتجاجات الشعبية إلى مستويات غير مسبوقة، وتواصلت لمدة 39 أسبوعاً، وتوقفت فقط مع بداية حرب غزة. وبرز على السطح العديد من الملفات الخلافية؛ بدايةً من صعود اليمين وسيطرته على مفاصل الدولة الإسرائيلية، الأمر الذي انعكس على تنامي سطوة المتدينين وممارسة دور الوصاية على سائر فئات المجتمع، مروراً بقوانين الإصلاح القضائي التي عملت على ترسيخ الوضع السابق، وصولاً إلى الصراع مع الفلسطينيين وتنامي الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. وقد انعكست الحالة المجتمعية التي كانت عليها إسرائيل قبل الحرب الحالية، فيما بعدها، وظهرت بشكل واضح في توجهات المجتمع تجاه قضايا الحرب والأمن.

حالة من اللايقين:

كان من المنطقي أن تتصدر قضايا الأمن، المشهد الإسرائيلي، مع بداية حرب غزة، في ضوء اعتراف الإسرائيليين بأن هجوم حماس مثّل "مفاجئة صادمة" بالنسبة لهم، تعادل هجمات 11 سبتمبر للأمريكيين، أو صدمة حرب أكتوبر 1973 لأجيال الآباء والأجداد.

فانتشرت الكتابات، حتى بين صفوف اليساريين، التي تتحدث عن حالة "صدمة جماعية" أصابت إسرائيل، وأبعاد نفسية ستظل مصاحبة للمجتمع هناك لفترة طويلة من الزمن. وأظهرت اتجاهات الرأي العام حالة من اللايقين حول مستقبل الأمن في إسرائيل. ووصف ستيفن كولينسون، كبير المراسلين في شبكة "سي. أن. أن" الإخبارية CNN، الأمر بقوله: "لقد حطمت حماس أوهام الإسرائيليين بشأن أمنهم، بشكل أعمق من أي وقت مضى منذ حرب 1973".

وقد ظهر هذا الأمر في استطلاع رأي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بعد أيام من بداية الحرب، ونشر نتائجه في 31 أكتوبر الماضي، والتي أوضحت أن 52.4% من الإسرائيليين "متشائمون" تجاه وضع إسرائيل الأمني في المستقبل المنظور، في مقابل 41.1% "متفائلون".

أمّا المحك الرئيسي لهذه الحالة فقد تجسّد في وضع الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم منذ بدء الحرب، على جبهتي غزة ولبنان، والذين بلغ عددهم 231 ألفاً، بما يعادل نحو 2.4% من إجمالي سكان إسرائيل. فبعد الحرب، تم إخلاء البلدات التي تقع في نطاق 7 كيلومترات من الحدود مع غزة، و2 كيلومتر من الحدود مع لبنان، ولاحقاً تم إخلاء بلدات على مسافة أكبر في مناطق محددة.

ووفقاً للتقارير الإسرائيلية، فالمئات من الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم يشعرون بعدم اليقين تجاه مستقبلهم، ويرون أن الحكومة ذاتها لا تعرف كيف سيكون مصيرهم، وأنها "غير شفّافة" في التعامل معهم. بينما يشير القسم الأكبر من سكان الشمال إلى أنهم غير مستعدين أبداً للعودة إلى منازلهم مرة أخرى، مُعبرين عن مخاوفهم من أن يُكرِّر حزب الله اللبناني سيناريو هجوم حماس على مستوطنات الشمال. ورأى البعض أن ما حدث في 7 أكتوبر تتخطى خطورته حروب إسرائيل السابقة.

وبالعودة إلى حديث ستيفن كولينسون، عن تأثير الحرب الحالية في المجتمع الإسرائيلي، فقد أشار إلى أن "الشعور بالانتهاك العاطفي لدى الإسرائيليين سوف يحدد رد فعل إسرائيل". ولا يجري الحديث هنا عن رد الفعل الإسرائيلي على الصعيد الرسمي، وإنما على الصعيد المجتمعي. فمن المتوقع أن تُهيمن قضايا الأمن بالكلية على الحياة السياسية وانتخابات الكنيست خلال العقد المقبل، وهو ما يفتح المجال أمام سياسات وشخصيات أكثر يمينية قد تُقنع الداخل الإسرائيلي بأنها قادرة على ضبط معادلة الأمن في البلاد.

كذلك يبدو أن المجتمع الإسرائيلي يتجه بوتيرة سريعة نحو التسليح، فبعد أن كانت مبيعات الأسلحة النارية في البلاد مُقيدة للغاية لعقود من الزمن، وانخفضت من 185 ألف قطعة عام 2009 إلى أقل من 150 ألفاً عام 2021؛ عادت تلك المبيعات إلى الارتفاع. إذ تقدّم أكثر من 236 ألف إسرائيلي بطلبات للحصول على تصاريح حمل أسلحة منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الماضي، وهو ما يوازي العدد المسجل على مدى السنوات العشرين الماضية، وفق وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير. وقد وعد الأخير بالفعل بتسليم 20 ألف قطعة سلاح مجانية للمستوطنين في الضفة الغربية، وقام بتخفيف شروط رخص اقتناء الأسلحة حتى يتمكن 400 ألف شخص من الحصول عليها.

وتُنذر هذه التطورات، وغيرها مما يتشكل حالياً تحت السطح، بتداعيات أمنية خطرة، إذ إن نهاية الحرب الحالية لن تكون سوى بداية مرحلة أمنية شديدة الخطورة والفوضوية. وربما يكون هذا الأمر هو ما دفع يسرائيل أفيشر، رئيس شعبة ترخيص الأسلحة النارية بوزارة الأمن القومي الإسرائيلية، إلى الاستقالة في 4 ديسمبر الجاري، احتجاجاً على سياسة الوزارة في تسليح المستوطنين.

شكوك متصاعدة:

في أعقاب معركة "سيف القدس" بين إسرائيل وحماس في مايو 2021، أو عملية "حارس الأسوار" كما أطلقت عليها إسرائيل؛ نظّمت مؤسسة الأبحاث الأمريكية "نيو لاينز إنستيتيوت" للاستراتيجية والسياسة (New Lines Institute for Strategy and Policy)، "بودكاست"، ضم مجموعة من الباحثين المتخصصين في مجال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكان من ضمن الاستنتاجات التي توصّل إليها هؤلاء الباحثون، أن حرب مايو 2021 أظهرت أن المجتمع الإسرائيلي "غاضب للغاية"، ولا يشعر بأن العبء الأخلاقي يقع على عاتق إسرائيل في الحروب ضد غزة، فهو يساوي في هذه الحروب بين حركة حماس وقطاع غزة ككل.

ويظل هذا الاستنتاج صالحاً لوصف تفاعل المجتمع الإسرائيلي مع الحرب الجارية في غزة، بل يمكن القول إنه تعمّق بدرجة أكبر مما كان عليه في حرب مايو 2021. إذ أيد الإسرائيليون، منذ البداية، شن حرب شاملة على القطاع، وحظيت التحركات العسكرية الإسرائيلية هناك بدعم المجتمع، الذي رأى فيها "حرباً عادلة"، على حد وصفه. وشمل هذا الدعم فئات المجتمع كافة، بما في ذلك قوى اليسار والأكاديميين والناشطين في حركات السلام، الذين أطلقوا دعوات عالمية لدعم إسرائيل في حربها ضد غزة.

ولكن مع دخول الحرب شهرها الثاني، وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم السريع أو تحرير الرهائن لدى حماس، دون اتفاق للهدنة؛ بدأت تخرج أصوات تتحدث عن مآلات الحرب وآفاقها؛ إلى متى ستستمر؟ وكيف ستنتهي؟ وهل سينجح الجيش الإسرائيلي في القضاء على حماس؟ وكيف ستدير إسرائيل غزة في مرحلة ما بعد حماس؟

وطرح الرأي العام الإسرائيلي هذه الأسئلة يوماً بعد آخر، وبدأت تزداد الشكوك حول المسار الذي يجب أن تتخذه الحرب، خاصةً بعدما أظهرت حماس قدرة على مواجهة الجيش الإسرائيلي؛ إذ صرّح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، جوناثان كونريكوس، في 4 ديسمبر الجاري، بالتزامن مع الإعلان عن توسيع العملية البرية إلى جنوب القطاع، بأن الجيش الإسرائيلي لم يهزم حماس كلياً في شمال غزة، ولكنه أحرز "تقدماً جيداً"، مُشدداً على أن "القتال مع حماس سيستغرق وقتاً طويلاً".

وهذه التقديرات العسكرية لا تُشكِّك المجتمع الإسرائيلي فقط في أسلوب إدارة حكومة نتنياهو للحرب، أو منطق هذه الحرب ذاتها؛ ولكنها تنذره بأن عليه تحمل أعباء الحرب لعدة شهور مقبلة على الأرجح، بما يشمله ذلك من خسائر بشرية (سواءً على صعيد العسكريين أم باقي الرهائن المحتجزين)، وخسائر اقتصادية قدّرتها وزارة المالية الإسرائيلية، حتى يوم 4 ديسمبر الجاري، بأنها ستصل إلى 51 مليار دولار، في ضوء غياب 750 ألف إسرائيلي عن سوق العمل؛ بسبب الحرب.

وعلى الرغم من منطق ما يُسمى "الحرب العادلة" الذي يتبناه المجتمع الإسرائيلي في مواجهة حماس وقطاع غزة، فإنه قد يتعرّض تدريجياً لتصدعات مستمرة مع إطالة أمد الحرب، وعدم وضوح آفاقها.

نهاية نتنياهو:

أنهت حرب غزة الحالية سلسلة من الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو، استمرت لمدة 39 أسبوعاً، والتي شهد بعضها تصاعداً واتساعاً غير مسبوق، وكادت المواجهات التي تخلّلت بعضها الآخر أن تُقرِّب المجتمع الإسرائيلي من نبوءة رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، بنشوب "حرب أهلية". وربما تكون حرب غزة قد أنهت سلسلة الاحتجاجات، لكنها لم تُنه الغضب الشعبي المُوجّه ضد نتنياهو.

وربما ثمة اتفاق بين كثير من التوجهات والتيارات داخل المجتمع الإسرائيلي، على مسؤولية نتنياهو، وسياساته الممتدة على مدار 14 عاماً مضت، عن الإخفاق الإسرائيلي في الحرب الحالية. ولكل توجه أسبابه الخاصة؛ فالجمهور المعارض من العلمانيين (اليمينيون واليساريون) رأى -خلال الأشهر الأخيرة وعبر مشروع الإصلاح القضائي- أن نتنياهو قد "اختطف إسرائيل"، وجعلها "مطمعاً لأعدائها"، وأهمل الجيش والسياسات الأمنية، وتجاهل تحذيرات أجهزة الأمن تجاه خطورة "أزمة الاحتياط" وتأثيراتها في الأمن القومي. أما جمهور المتشددين (اليمينيون والمتدينون)، فرأوا أن تساهل سياسات نتنياهو الأمنية والاقتصادية تجاه حماس، هو ما منحها القوة، وجعلها قادرة على شن هجوم 7 أكتوبر، وبالتالي فهم يُحملِّونه مسؤولية "الإخفاق الإسرائيلي الحاصل في بداية هذه الحرب".

وفي ظل تأييد جمهور المتشددين لاستمرار حرب غزة بأي ثمن، حتى يتم القضاء على حماس؛ فإن التيارات اليسارية وبعض التيارات اليمينية المعتدلة ربما لا تعارض منطق الحرب ذاته، ولكنها تُعارض أن يقود نتنياهو هذه الحرب، انطلاقاً من رؤيتها أنه يقودها مدفوعاً بأجندته السياسية الخاصة، وليس "أجندة إسرائيل الأمنية".

وفي هذا الإطار، يرى الكاتب الإسرائيلي، يوسي كلاين، أن "نتنياهو يبحث عن انتصار يغفر له إخفاقه في الضربة التي تعرض لها الجيش يوم 7 أكتوبر"، معتبراً أن الانتصار الذي يبحث عنه نتنياهو ليس هو الذي تبحث عنه إسرائيل. وفي نفس الاتجاه، يؤكد الكاتب يوسي فيرتر، أن نتنياهو يخوض "حربه الخاصة لإنقاذ سمعته والبقاء في السلطة". ويشير استطلاع رأي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في أواخر أكتوبر الماضي، إلى أن 50% من الجمهور الإسرائيلي يثق في القادة العسكريين والأمنيين أكثر من نتنياهو في إدارة هذه الحرب، في مقابل 7.3% فقط منحوا ثقتهم لنتنياهو.

وهنا، ترى بعض التقديرات أن حرب غزة الحالية ربما تكتب مشهد النهاية لمسيرة نتنياهو السياسية، لذلك فهو يرغب في إطالة أمدها، بغية تحقيق اختراق عسكري أو سياسي يمنحه "قبلة الحياة" مرة أخرى. ومن المتوقع أن يحاول نتنياهو المماطلة في الاستقالة، وقد يعاند في البقاء في الحكومة بعد نهاية الحرب، ولكن الاحتجاج ضده سيكون كبيراً، ما قد يدفع أعضاء حزب "الليكود" إلى التمرد ضده؛ إذ بات العديد من قادة الحزب يرون في نتنياهو عبئاً عليهم، وأن استمراره يخصم من رصيدهم السياسي.

لذلك، فإن السؤال الأهم حالياً ربما يدور حول ما يمكن وصفها بمرحلة ما بعد نتنياهو؛ منْ يخلفه؟ وأي تيار قادر على تصدر المشهد؟ وفي هذا الصدد، تشير استطلاعات رأي لصحيفة "معاريف" و"القناة 12 الإسرائيلية"، أُجريت في أواخر نوفمبر الماضي، أن بيني غانتس، رئيس حزب "المعسكر الوطني" ووزير الدفاع السابق، ربما هو الأوفر حظاً لتولي منصب رئيس الوزراء القادم، إذ من المُرجّح أن يحصل حزبه على عدد مقاعد يتراوح بين 36 و42 مقعداً، وهو حوالي ضعف عدد المقاعد التي من المتوقع أن يحصل عليها "الليكود". وأشار 50% من المُستطلعين إلى أنهم يرون في غانتس، الشخص الأكثر ملاءمة لمنصب رئيس الوزراء، في مقابل 29% لنتنياهو. كذلك تشير الاستطلاعات إلى تراجع مقاعد الائتلاف الحاكم حالياً إلى 42، في مقابل 78 مقعداً للمعارضة.

وتشير تلك النتائج إلى منطق الجمهور الإسرائيلي في التعامل مع الأزمات الأمنية، إذ تكون الثقة أكبر في رجال الجيش والأمن، خاصةً في ضوء أن غانتس، هو أكثر السياسيين الحالين خبرةً عسكرية، وانخراطه في حكومة الحرب الحالية منح البعض ثقةً في أداء الجيش الإسرائيلي. لكن بالنظر إلى تاريخ غانتس السياسي في السنوات الأخيرة، وتخليه عن صفوف المعارضة من أجل تشكيل حكومة وحدة مع نتنياهو عام 2020؛ فلن تكون مهمة تشكيله للحكومة باليسيرة.

وبغض النظر عن هوية رئيس الوزراء القادم، فإن التحولات التي قد يفرزها المجتمع الإسرائيلي في سنوات ما بعد الحرب، قد تأخذ الحياة السياسية إلى منحى مختلف تماماً، فعادةً ما يظهر التأثير السياسي للحروب في المجتمعات، بعد سنوات من الاختمار، فالصعود التاريخي لمناحم بيغن، وحزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل جاء بعد أربع سنوات من حرب أكتوبر 1973. وربما يحدث أمر مماثل خلال السنوات المقبلة.

ومن غير المستبعد أن تنجح أحزاب اليمين الديني المتشدد، مثل: حزب "الصهيونية الدينية" بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وحزب "القوة اليهودية" بقيادة إيتمار بن غفير، في توسيع قاعدتها الانتخابية، وإقناع شرائح كبيرة من المجتمع برؤيتها الأمنية تجاه غزة وحركة حماس، والتعامل مع القضية الفلسطينية بشكل عام. وقد تتبدّل المقاعد خلال السنوات الخمس المقبلة، وينجح سموتريتش أو بن غفير في تشكيل حكومة يمينية أكثر تشدداً من النسخة الحالية.

في الختام، وعلى الرغم من أن الاستنتاجات السابقة تشير إلى تحول المجتمع الإسرائيلي أكثر نحو اليمين في فترة ما بعد حرب غزة، فإن هناك أصواتاً مختلفة، تصاعدت تحديداً، في فترة الهدنة بين إسرائيل وحماس، وبعد عودة عشرات الرهائن الذين كانوا مُحتجزين في القطاع. وهذه الأصوات تؤكد أن القضاء على الحماس –إن تم- لن يُنهِي الصراع مع الفلسطينيين، ومن الضروري معالجة جذور هذا الصراع، وإعادة "حل الدولتين" إلى أرض الواقع؛ لأن البديل العسكري سيكون مُكلِّفاً. وفي كل الأحوال، قد يستغرق الأمر عدة سنوات حتى تظهر تأثيرات تلك الحرب في المجتمع الإسرائيلي، ناهيك عن أن المسار الذي ستنتهي إليه سيكون أحد أكثر العوامل تأثيراً في أي تحول قد يطرأ على هذا المجتمع.