بدأت إيران، في أغسطس 2023، الإعداد لدورة انتخابية جديدة من المقرر اكتمالها في مارس 2024، عندما يتوجه الناخبون لصناديق الاقتراع لاختيار مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان، ويُنتخب أعضاؤه الـ290 في اقتراع مباشر كل 4 سنوات)، ومجلس خبراء القيادة (يقوم بتعيين وعزل المرشد الأعلى، ويتألف من 88 عضواً يتم انتخابهم عن طريق اقتراع شعبي مباشر لدورة واحدة مدتها 8 سنوات).
وعلى الرغم من محدودية تأثير هذين المجلسين في القرارات السياسية التي يتخذها النظام الإيراني خارجياً وداخلياً، تتضافر عدة عوامل لتضفي أهمية على ذلك الاستحقاق الانتخابي المزدوج في مثل هذا التوقيت، ولاسيما أن الانتخابات القادمة هي الأولى عقب الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها إيران في العام الماضي، على خلفية أزمة قانون الحجاب، ومقتل الفتاة مهسا أميني، خلال فترة احتجازها من قِبل شرطة الأخلاق، إلى جانب أنها الانتخابات التالية لتلك التي سبقتها وأحجم الشارع الإيراني عن المشاركة فيها بشكل غير مسبوق.
وتأتي انتخابات 2024 لتضع النظام الإيراني في اختبار الموازنة بين التخوف من استمرار الشارع في مقاطعتها، وبالتالي انخفاض نسبة المشاركة السياسية للمرة الثانية على التوالي، وبين إتاحة الفرصة للمرشحين من الانتماءات كافة، وبالتالي مواجهة احتمالية عودة الإصلاحيين، وخاصة في ظل الانتقادات المتزايدة للتيار المتشدد واتهامه بالانفراد بالسلطة في السنوات الأخيرة.
ويتزامن مأزق النظام الحاكم في طهران في اختيار سياسة بعينها لإدارة العملية الانتخابية القادمة، مع محدد جديد ومؤثر؛ وهو الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، نظراً لأهمية ومحورية القضية الفلسطينية في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية، إذ تسيطر هذه الحرب على أجواء الإعداد للانتخابات، في ظل الموقف الإيراني منها، والذي يستشف منه أن طهران على الرغم من موقفها المُعلن بعدم الاعتراف بإسرائيل وتأكيدها "شرعية" المقاومة الفلسطينية، باتت تنتهج سياسة أكثر براغماتية في هذا الشأن حفاظاً على مكتسباتها التي استطاعت تحقيقها مؤخراً مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال صفقة تبادل السجناء، والإفراج عن بعض الأرصدة الإيرانية المُجمدة في الخارج.
الموقف من الحرب:
انخرط أعضاء البرلمان الإيراني، في تأييد عملية "طوفان الأقصى" منذ شنها ضد إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي، والتنديد بالرد الإسرائيلي عليها بعملية "السيوف الحديدية"، وذلك على الرغم من مسارعة طهران لنفي أي صلة لها بهجوم حركة حماس على مستوطنات في العمق الإسرائيلي، والتزامها طول الفترة الماضية بتأكيد عدم تدخلها حتى الآن في تلك المعركة، مع تلويحها بأن استمرار العملية العسكرية على قطاع غزة سيؤدي إلى فتح جبهات جديدة في المنطقة.
وتزايدت حماسة أعضاء البرلمان الإيراني في دعم الجانب الفلسطيني من خلال تخصيص جلسات لمناقشة تطورات الوضع في غزة، وتعامل وزارة الخارجية الإيرانية مع هذا الملف. وفي خضم الدعم الذي أبداه البرلمان الإيراني لحركة حماس وقطاع غزة، قدم عدد من النواب طلباً باستجواب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، بسبب موقفه من الحرب، واصفين إياه بـ"المتخاذل"، إذ كشف عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان، محمود عباس زادة مشكيني، في 14 نوفمبر 2023، عن أن برلمانيين قد بدأوا في إجراءات استجواب عبداللهيان، منتقدين تصريحات الجهاز الدبلوماسي وتغير نبرتها المعتادة "من التهديد بمحو إسرائيل إلى الحديث عن مناشدات لوقف الحرب على القطاع". وأثار طلب استجواب عبداللهيان في البرلمان ردود فعل متناقضة، بين مؤيد لهذا الطلب، ورافض له، بحجة أن الاستجواب في هذا التوقيت من شأنه أن يشغل الجهاز الدبلوماسي عن القيام بجهوده في إطار السعي لوقف حرب غزة.
ويأتي ذلك في الوقت الذي تتزايد فيه انتقادات الجناح المتشدد من التيار المحافظ لتوقيع الحكومة الإيرانية على البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية التي انعقدت بالرياض في 11 نوفمبر، والذي تضمن تبني حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، فيما كان الموقف الإيراني الرسمي والتاريخي رافضاً لهذا الحل ومتمسكاً بعدم الاعتراف بوجود إسرائيل، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيراني إلى توضيح أنه تم التصويت على بيان القمة بعد التحفظ على البنود الخاصة بحدود الدولة الفلسطينية وحل الدولتين.
وبالتوازي مع هذه الانتقادات الموجهة للحكومة الإيرانية بشأن موقفها من حرب غزة، يشير التيار الإصلاحي، المستبعد من المشهد السياسي، إلى أن ثمة تناقضاً أوضحه موقف النظام الإيراني من تلك الحرب، ففي الوقت الذي يصم فيه النظام أذانه عن متطلبات الداخل، يسعى لحل قضية خارجية. وهذا ما أشارت إليه صحيفة "شرق" الإصلاحية، من خلال مقال للكاتب كوروش أحمدي، في 7 نوفمبر، إذ أكد أن الموقف السائد بين أغلب الإيرانيين هذه الأيام تجاه ما يحدث في غزة يُعبر عن قدر من اللامبالاة لا يمكن إنكاره، إذ يجد المواطن الإيراني نفسه أمام واقع تتجاهل فيه الحكومة مطالبه، الأمر الذي دفعه إلى عدم الالتزام تجاه القضايا التي تهم النظام. ورأى الكاتب أن الخاسر الحقيقي في حرب غزة هو النظام الإيراني نفسه بعد أن كشفت الحرب تناقضات مواقفه بين مطالب الداخل وسياساته الخارجية.
وفي هذا السياق، عبَّر وزير الخارجية الإيراني السابق، جواد ظريف، عن موقف التيار الإصلاحي في لقاء عُقد بنقابة المحامين الإيرانيين في مطلع شهر نوفمبر، بتشديده على أن الإيرانيين قد سئموا من تكاليف الدفاع عن القضية الفلسطينية والتبعات التي ترتبت على أوضاعهم الاقتصادية جراء هذا الدعم، مؤكداً أنه على طهران عدم التورط في حرب مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وأن أفضل طريقة للدفاع عن الشعب الفلسطيني هي تجنب إعطاء فرصة للغرب لترويج فكرة أن "المقاومة الفلسطينية تتصرف كوكيل لإيران"، وأنه ينبغي عدم الانسياق إلى الدعاوى المتزايدة من قِبل المتشددين بالانخراط في الحرب.
توظيف انتخابي:
يحاول كل من التيارين الإصلاحي والمحافظ توظيف حرب غزة لتعزيز موقفه في الانتخابات الإيرانية القادمة. فالتيار الإصلاحي يرى أن الموقف المتناقض للنظام الإيراني تجاه هذه الحرب بالمقارنة مع متطلبات الداخل، يُعد فرصة لعودة هذا التيار إلى المشهد السياسي، وإن كان ما يزال مُستبعداً من مناصب الدولة، وتُمارس ضده سياسة إقصائية في الانتخابات المقبلة من خلال رفض مرشحيه. بيد أن الاحتجاجات التي شهدتها إيران في العام الماضي قد أتاحت الفرصة لصحوة التيار الإصلاحي في الشارع من خلال انتقادات كوادره لسياسة الحكومة المتشددة تجاه مطالب الشعب.
كما دعت منابر التيار الإصلاحي، وبصفة خاصة الصحف المحسوبة عليه، إلى الاهتمام بقضية إقصاء المعارضين، وإبعاد مرشحين من قِبل مجلس صيانة الدستور، الذي منع أيضاً 8 أعضاء من البرلمان الحالي من خوض الانتخابات القادمة؛ نظراً لانتقادهم سياسات الحكومة.
ويروج الإصلاحيون، في هذا الإطار، لفكرة عدم قدرة الحكومة الإيرانية الحالية على الموازنة بين مطالب الشعب السياسية والاقتصادية، وبين أجندتها الخارجية، وأن تكلفة دعم أطراف إقليمية باتت تُثقل كاهل المواطن الإيراني، الذي أصبح أمام خيارين فيما يخص الانتخابات المقبلة: الأول هو مقاطعة الانتخابات إذا ما استمر نهج الإقصاء لمنتقدي الحكومة ومعارضيها، ومن بينهم التيار الإصلاحي، وبالتالي يفقد البرلمان شرعيته أمام المجتمع في حال انخفاض نسبة المشاركة السياسية مجدداً كما حدث في الانتخابات السابقة التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 43%، في سابقة كانت الأولى من نوعها. فيما يتمثل الاختيار الثاني في محاولة إنهاء انفراد تيار واحد بمفاصل البرلمان الإيراني من خلال دعم أصوات المعارضة والإصلاحيين، إذا ما تم منحهم فرصاً للترشح من قِبل مجلس صيانة الدستور خلال الفترة المقبلة.
أما بالنسبة للتيار المتشدد، فإنه يسعى، من خلال موقف أغلب كوادره المنتقدة لنهج الحكومة في التعامل مع حرب غزة، إلى اللعب لدى فئة من الشعب الإيراني على وتر قيم الثورة الإسلامية وحماية المستضعفين، ولتحسين صورة التيار المحافظ، متهمين من يرى أن الشارع الإيراني لم يعد يكترث كما سبق بالقضية الفلسطينية بسبب الضغوط الاقتصادية بـ"الخيانة وترويج الأكاذيب"، ومدللين على ذلك بالتظاهرات التي خرجت للتنديد بالهجوم الإسرائيلي على غزة.
ويعد التيار المحافظ موقفه الداعم للقضية الفلسطينية بشكل عام وحرب غزة على وجه الخصوص، مكملاً مهماً لصورة الثورة الإسلامية الإيرانية، ومحدداً لا يمكن التنازل عنه في السياسة الإيرانية، ويرى أنه يكتسب شعبيته من خلال الدفاع عن هذه الثوابت، ومن ثم المحافظة على المكتسبات التي حققها خلال السنوات الأربع الماضية والتي سيطر فيها على مفاصل الدولة الإيرانية.
عراقيل مزدوجة:
يصطدم توظيف التيارين المحافظ والإصلاحي لموقف إيران من حرب غزة، بعدد من العراقيل، منها الآتي:
1- استمرار تعرض التيار الإصلاحي للإقصاء، وهو ما يُقيد دوره في محاولات تحريك الشارع الإيراني ضد ممارسات النظام الحاكم بشكل عام، وضد كوادره بشكل خاص. وبالتالي يظل هذا التيار غير قادر إلى حد كبير على تغيير مجريات العملية الانتخابية إلا إذا نجحت دعوات المقاطعة التي يروج لها اعتراضاً على انفراد تيار واحد بالسلطة وهيمنته على البرلمان، باعتبار أن المقاطعة محاولة لإظهار "مقاومة مدنية"، على حد تعبير عالم الاجتماع الإيراني المسجون، سعيد مدني، الذي دعا، في بيان له من سجن إيفين، في منتصف شهر نوفمبر، إلى مقاطعة الانتخابات القادمة في ظل ما اعتبره عدم وجود حد أدنى من المعايير الانتخابية الحرة.
2- مواجهة التيار المحافظ مأزق مواصلة سياسة الإقصاء وتكرار سيناريو الانتخابات السابقة، وبالتالي تزايد الانتقادات الموجهة إليه، واحتمالية نجاح دعوات مقاطعة انتخابات 2024، أو السماح بقدر من الحرية يسمح بعودة الإصلاحيين إلى البرلمان وربما لباقي مؤسسات الدولة. فيما تتزايد مؤشرات عدم اهتمام الشارع الإيراني بهذه الانتخابات واختيار أعضاء البرلمان القادم، وهو ما أظهرته نتائج استطلاع رأي أجرته وكالة الأنباء الحكومية الرسمية "إرنا"، في 25 يوليو الماضي، والتي أوضحت أن 68% من الإيرانيين يشعرون بعدم الرضا عن البرلمان.
ختاماً، يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة قد زادت من صعوبة وتعقيدات ملف الانتخابات الإيرانية المقبلة، وأن تلك الحرب على الأرجح ستظل حاضرة في هذا المشهد الانتخابي، في ظل محاولات التيارين المحافظ والإصلاحي لتوظيفها في تحقيق مكاسب داخلية.