في مواجهة أزمة التغير المناخي المتصاعدة، أظهرت مؤتمرات الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، التي تُعقد بصورة سنوية، وتنظم نسختها الثامنة والعشرين "كوب28" في دولة الإمارات العربية المتحدة، نفسها كقوة مؤثرة وفاعلة في تعزيز التعاون العالمي لمواجهة آثار التغير المناخي، حتى مع تأثر هذا التعاون سلباً في بعض الأحيان بالأزمات بين القوى الدولية، وتكون تلك الفاعلية عبر اتخاذ مجموعة من الإجراءات المناخية. بيد أن نتائج مؤتمرات الأطراف تتجاوز حدود الدبلوماسية الدولية لتمارس تأثيراً عميقاً في السلوك الاجتماعي والاستهلاكي والاقتصادي للأفراد في مجتمعات متنوعة حول العالم، بدفعهم نحو تبني الممارسات المستدامة.
وتُعرف منظمة الأمم المتحدة "الاستدامة" بأنها "تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرات الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها الخاصة". و"الممارسات المستدامة" هي "تلك الممارسات أو المنهجيات التي تولي اهتمامها الرئيسي لرعاية البيئة، بما يسمح بالحفاظ على جودة حياتنا دون التسبب في مزيد من الضرر في الكوكب".
تشكيل وعي الجمهور:
تُعد فعاليات "كوب" "مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ" محطة مهمة لنشر المعرفة المتعلقة بتغير المناخ على نطاق عالمي، مما يترك بصمة مميزة على تصورات الجمهور ومواقفه تجاه التحديات البيئية. إذ إن مناقشة المشكلات البيئية والمناخية وطرح ممارسات الاستدامة خلال هذه الفعاليات تُعد عاملاً حاسماً في تشكيل وعي الجمهور بشأن مدى خطورة تغير المناخ وبالتالي الحاجة المُلحة لتضافر الجهود لاتخاذ إجراءات مشتركة وفعالة لمواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي في حياة البشر.
فالفهم الشامل للتعقيدات الكامنة في التواصل بشأن تغير المناخ، له أهمية قصوى بالنسبة لواضعي السياسات والمنظمات البيئية لتكييف رسائلهم بمهارة، وبالتالي تغذية الشعور الجماعي بالمسؤولية وتعزيز التحولات السلوكية البناءة، من خلال التواصل الفعال حول مخاطر تغير المناخ، وآثاره الوشيكة، وإمكانية التغيير الإيجابي من خلال العمل الجماعي، ومن ثم تحفيز الأفراد والمجتمعات لتبني الممارسات المستدامة والمساهمة في مستقبل أكثر وعياً بالبيئة. علاوة على ذلك، توفر فعاليات مؤتمر الأطراف منصة فريدة لعرض الحلول المبتكرة وتعزيز التعاون بين مختلف أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات والشركات ومنظمات المجتمع المدني، من خلال تبادل أفضل الممارسات وتعزيز تبادل المعرفة، بما يسهم في تسريع التحول نحو مستقبل منخفض الكربون.
كما تترك مناقشات الاستدامة خلال فعاليات "كوب" أثراً كبيراً على الخيارات التي يتخذها الأفراد والشركات بشأن البيئة. فمؤتمر الأطراف يؤدي دوراً حاسماً في تشكيل اتجاهات ملموسة نحو أنماط استهلاك أكثر استدامة، بالتركيز على الاعتبارات البيئية في اختيارات المستهلكين واستراتيجيات الشركات، إذ إنه يؤثر ليس فقط في قرارات المستهلكين الفردية، ولكن أيضاً في كيفية تشكيل الشركات لعملياتها. وفي الوقت نفسه، يُعد التركيز المتزايد على الاستدامة ضمن حوارات ذلك المؤتمر، حافزاً لإعادة تقييم الشركات لطرقها المعتادة للتشغيل. فقد أدى ذلك إلى اعتماد سياسات صديقة للبيئة وزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة. علاوة على ذلك، فإنه مع تزايد الوعي البيئي في اتخاذ قرارات المستهلكين، تقوم الشركات بضبط ممارساتها لتتناسب مع الطلب المتزايد على منتجات وخدمات مستدامة وذات وعي بيئي.
وعليه، يمكن القول إن فعاليات مؤتمر الأطراف تطورت لتصبح حجر الزاوية في العمل المناخي العالمي، متجاوزة دورها الأولي كتجمعات دبلوماسية دولية، بحيث لا يمكن إنكار تأثيرها في السلوك الاجتماعي والاقتصادي للأفراد ودفعهم نحو تبني الممارسات المستدامة، مما يؤكد أهميتها في تشكيل مستقبل أكثر مسؤولية بيئياً.
دراسة حالة:
في دراسة حديثة وموسعة نُشرت في مجلة العلوم النفسية، التابعة لجمعية العلوم النفسية (APS) بالولايات المتحدة الأمريكية، في عام 2022، تحت عنوان: "التأثير اللامحدود لأحداث مؤتمر الأطراف في سلوك المستهلك وعلم النفس الاقتصادي" (The Indelible Impact of COP Events on Consumer Behavior and Economic Psychology)، درس كل من هيون جونغ كيم، وسيون هو يون، الباحثين في قسم التسويق بجامعة هانيانغ في سيول بكوريا الجنوبية، أثر فعاليات مؤتمر الأطراف على سلوك المستهلكين واتخاذهم للقرارات الاقتصادية؛ وذلك بهدف كشف مدى تأثير هذه الفعاليات الدولية في تعامل الأفراد مع التسوق والأمور المالية، خاصةً في سياق المخاوف المتزايدة بشأن تغير المناخ في مختلف البلدان.
وتوصلت الدراسة إلى أن هناك تأثيراً ملحوظاً لفعاليات "كوب" في تشكيل الطريقة التي يتخذ بها الناس قرارات الشراء وتنقلهم بين الخيارات الاقتصادية المختلفة، مع ملاحظة أن هذا التأثير أكثر وضوحاً في الدول التي تواجه تحديات متصاعدة بسبب تغير المناخ، وهو ما يبرز مدى الأهمية العالمية لمؤتمر الأطراف بالنسبة لمختلف الدول. وهذه الأدلة العملية تشير إلى أن فعاليات "كوب" تمتلك القدرة على العمل كمحفزات لتعزيز ممارسات المستهلك المستدامة بيئياً. ومن خلال تسليط الضوء على هذا التحول الإيجابي المُحتمل في سلوك المستهلك، تؤكد الدراسة على قدرة الأحداث المناخية الدولية على تعزيز الوعي الجماعي تجاه الخيارات الصديقة للبيئة أثناء التسوق.
علاوة على ذلك، تقدم الدراسة نظرة على الفوائد النفسية المُحتملة المرتبطة بأحداث مؤتمر الأطراف، ولاسيما في التخفيف من المخاوف والمشاعر السلبية تجاه التحديات البيئية، ففكرة المشاركة أو التعرض لفعاليات مؤتمر الأطراف يمكن أن تخفف من القلق وتعزز نظرة أكثر تفاؤلاً نحو القضايا المتعلقة بالمناخ. ومع ذلك، فإن الفهم الشامل لنتائج الدراسة يتطلب الاعتراف بالفروق الفردية والتفاصيل السياقية التي قد تغير التأثيرات المرصودة، إذ يجب أن تُؤخذ في الاعتبار متغيرات مثل الخصائص الشخصية والعوامل السياقية المتنوعة لفهم النطاق الكامل لكيفية تفاعل أحداث "كوب" مع بيئات ثقافية واقتصادية واجتماعية متنوعة.
وتحفز هذه الدراسة التفكير في التحولات الإيجابية المُحتملة في المواقف والسلوكيات التي يمكن أن تحدثها الفعاليات المناخية العالمية على غرار مؤتمر الأطراف، والتي يتجاوز تأثيرها إلى ما هو أبعد من مجرد تشكيل التصورات العامة، إذ إنها تظهر كقنوات مفيدة للمشاركة المجتمعية، مما يسهم في تغيير الممارسات المستدامة. فاندماج أصحاب المصلحة المتنوعين، الذين يأتون من بيئات جغرافية واجتماعية وثقافية متباينة، في هذه الاجتماعات يوفر منصة قيمة لتبادل الخبرات ونشر أفضل الممارسات وتشكيل شبكات تفضي إلى مشروعات تعاونية، مما يسهم في النهاية في تحفيز العمل المناخي المشترك.
أهمية "كوب28":
مع انطلاق فعاليات "كوب28" في دولة الإمارات، يوم 30 نوفمبر والتي تستمر حتى 12 ديسمبر 2023، تعززت الاتجاهات التي تؤكد أن هذه النسخة من مؤتمر الأطراف ستزيد الزخم الذي تم توليده في النسخ السابقة من المؤتمر. ويتيح هذا الحدث العالمي لدولة الإمارات فرصة لا مثيل لها لعرض مبادراتها الرائدة في مجال الاستدامة، وتعزيز أُطر التعاون مع الدول الأخرى، فضلاً عن تقديم إسهام كبير في التصدي لتغير المناخ والدفع نحو مستقبل عالمي مُستدام.
كما يجسد "كوب28" التلاقي بين نماذج وسياسات الاستدامة التي ستتم مناقشتها وطرحها، وتأثيرها اللاحق في خيارات المستهلكين وممارسات الشركات واتخاذ القرارات الاقتصادية في عملية ديناميكية متطورة ومستمرة، بما يؤكد الدور الحيوي الذي تؤديه هذه التجمعات الدولية في توجيه المسار نحو مستقبل عالمي أكثر وعياً بالبيئة وأكثر استدامة.
في الختام، يمكن القول إن تعزيز التفاعل والترابط بين أحداث مؤتمر الأطراف وممارسات الاستدامة في المجتمعات، يتطلب نهجاً شاملاً وتعاونياً والمزج بين عدة عناصر، بما في ذلك الفطنة في تحديد البرامج والاستراتيجيات، وحكمة صانعي السياسات، والإشراف البيئي، والتواصل الاستراتيجي بين مختلف أصحاب المصلحة. ومن خلال هذا الجهد الجماعي، يمكن استغلال الإمكانات الكامنة في مؤتمر الأطراف، وتوجيهها في نهاية المطاف نحو مستقبل يتسم بالعمل الجماعي، سعياً لتحقيق الاستدامة والرفاه للجميع.