لا تخفي الأوساط الرسمية في إسرائيل قلقها من التداعيات المستقبلية لعملية "الجرف الصامد"، خاصة على صعيد السمعة الخارجية للدولة الإسرائيلية، وذلك بعد أن أطاحت كل من الصور التي نقلتها وسائل الإعلام للدمار الذي سببته العملية من جهة، والحقائق التي كشفتها منظمات دولية عاملة في مجال حقوق الإنسان حول هوية الضحايا وأعدادهم من جهة ثانية، بالمبررات الإسرائيلية المعتادة في مثل هذه الحالات.
إزاحة الساتر الأخلاقي
هذا القلق عبر عنه الكاتب آري شبيط عندما كتب في صحيفة هآرتس (14 أغسطس 2014) أن الهجوم على غزة "زعزع مكانة إسرائيل في العالم، حتى في الدول الصديقة والحليفة لها في أوروبا وأمريكا"، داعياً تل أبيب إلى أن "تعمل على تعمير قطاع غزة وإعادة المسيرة السلمية كي تُحسن صورتها". وبقوله كذلك: "إن ما خلفه الهجوم من مشاهد فظيعة لأولاد موتى ومدارس مدمرة ومساجد مفجرة أمام العالم منح حماس أكبر إنجازاتها، وهو سلب إسرائيل شرعيتها بصورة متزايدة".
وفي الإطار نفسه، رأت الإذاعة الإسرائيلية أن "تل أبيب تواجه موقفاً صعباً بعد أن نقلت وسائل الإعلام صور الدمار الهائل في قطاع غزة"، منوهة بأن "الدمار والهدم الذي طال كل مناحي حياة الناس لا يمكن استيعابه بسهولة"، وهو أمر أكدته صحيفتا "الأوبزرفر" و"الجارديان" البريطانيتان، فقد أشارت الأولى إلى أن "إسرائيل يجب أن تدرك مدى الأضرار التي تلحقها أفعالها بسمعتها الدولية"، بينما جزمت الثانية بأن "إسرائيل فقدت قدراً كبيراً من رصيدها الأخلاقي أمام المجتمع الدولي لقتل المدنيين الأبرياء"، علماً بأن هذه الإشارات تزامنت مع نشر هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نتائج استطلاع رأي أظهر أن إسرائيل تحتل الترتيب الرابع في قائمة الدول الأسوأ على مستوى العالم (بعد إيران، وباكستان، وكوريا الشمالية).
ويتأسس هذا القلق على حقيقتين أساسيتين: أولاهما أن مسألة السمعة الدولية ظلت من بين الشواغل الرئيسية للكيان الإسرائيلي منذ نشأته، ولذلك كان الحرص الدائم على ترويج صورة الدولة الديمقراطية المحاطة بالكراهية والمضطرة - من حين إلى آخر- للزود عن شعبها عسكرياً.
أما الحقيقة الثانية، فتتمثل في أن هذا التراجع على صعيد السمعة الدولية يبدد جهد سنوات من السعي الإسرائيلي المكثف للاستفادة بأجواء ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، لتصوير ما يحدث في فلسطين كأنه صراع بين قيم الحضارة الغربية التي تمثلها إسرائيل من جهة و"الإرهاب الإسلامي" من جهة ثانية.
من هذا الباب، سعت إسرائيل خلال العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين للاحتماء بالمظلة الدولية لإضفاء ساتر أخلاقي على ما ترتكبه بحق الفلسطينيين، لكن الملاحظ أنها تخلت نسبياً عن هذه المظلة عند تنفيذ عملية "الجرف الصامد"، حتى بدا وكأنها غير معنية إلا بتأييد الرأي العام الداخلي.
إدانات دولية وتحرك إسرائيلي
وبعيداً عن تحليل أسباب هذا التغيير، يلاحظ أن حكومة بنيامين نتنياهو عمدت إلى إخفاء نتائج هذه العملية عن مواطنيها، وذلك من خلال تشديد الرقابة العسكرية على وسائل الإعلام المحلية، وهو أمر لم تستطع فعله مع العالم الخارجي؛ فكانت النتيجة أن اتسعت مع الوقت المواقف الدولية المنددة بإسرائيل خاصة داخل المنظمات الحقوقية، وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي أصدر قراراً بـ "تشكيل لجنة تحقيق دولية ذات صفة عاجلة للتحقيق في كل الانتهاكات المرتكبة".
ومعلوم أن هذا القرار الذي صدر بموافقة 29 دولة بينها الصين وروسيا ومعارضة دولة واحدة هي الولايات المتحدة وامتناع 17 دولة عن التصويت، ندد بالانتهاكات المعممة والممنهجة والفاضحة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية نتيجة العمليات العسكرية المستمرة في الأراضي الفلسطينية".
وزاد من أثر هذا القرار على سمعة إسرائيل الدولية أنه جاء بعد أيام من دعوة المفوضة العليا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، نافي بيلاي، إلى "إجراء تحقيق بشأن جرائم حرب قد تكون إسرائيل ارتكبتها في قطاع غزة"، موضحة أن "هناك احتمالاً كبيراً بأن يكون تم انتهاك القانون الدولي الإنساني بطريقة قد تشكل جرائم حرب". كما أنه صدر بعد تأكيد الأمم المتحدة أن الجيش الإسرائيلي قصف مراكز النزوح الخاضعة لإشراف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، على الرغم من معرفته المسبقة بطبيعتها وهوية المدنيين المقيمين بها.
ووفق المعلن من جانب جهات رسمية إسرائيلية، فإن مواجهة تأثير ما حدث في غزة على سمعة إسرائيل الدولية، سيكون محوراً رئيسياً لنشاط سياسي ودبلوماسي مكثف خلال الفترة المقبلة. فمن جهة أوصت وزارة الخارجية الحكومة بعدم التعاون مع لجنة التحقيق الدولية، على أساس أن مجلس حقوق الإنسان الذي يشرف عليها يتألف من دول تصوت تلقائياً ضد إسرائيل، ولـ "تقليص الأضرار الناجمة عن التقرير الذي ستعده". ومن جهة أخرى تستعد الخارجية الإسرائيلية –على ما ذكر مسؤول بها لما تسميه "صراع دبلوماسي دولي" يشمل ما أطلق عليه "سلسلة جبهات طوارئ"، نجحت إسرائيل في أولها عندما امتنع مجلس الأمن عن إصدار قرار بشأن غزة لمدة تناهز الشهر.
وقد بدأت الحكومة الإسرائيلية من جهة ثالثة التحرك للتعامل مع دعاوى قضائية جديدة يتوقع أن تلاحق قادة العدوان على غزة باعتبارهم مجرمي حرب، وذلك بتوجيه شعبة المنظمات الدولية في وزارة الخارجية بالسعي لإفساد هذه الدعاوى، كما فعلت مع قضايا مماثلة خلال السنوات الماضية.
في الوقت ذاته، سارع مكتب رئيس الحكومة إلى التشويش على من يتهمون الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب في غزة، متهماً إياهم بـ "عدم الإنصاف". كما وصف المكتب قرار مجلس حقوق الانسان بـ "المهزلة" لأنه تجاهل ما أسماه "جرائم الحرب التي ارتكبتها حماس"، التي تختبئ خلف سكان مدنيين وتطلق القذائف على المدنيين، بينما تبذل إسرائيل قصارى جهدها لتجنب المساس بالمواطنين الأبرياء".
منطق إسرائيلي زائف وملتوٍ
واللافت أن غضب الحكومة الإسرائيلية من مجلس حقوق الإنسان لازمه تهوين من الأهمية السياسية للجنة المكلفة بالتحقيق في أحداث العدوان، فقد ذكر مكتب نتنياهو أن "نهاية هذه اللجنة ستكون مثل نهاية لجنة جولدستون، إذ تنصل رئيسها القاضي ريتشارد جولدستون من غالبية ما ورد في تقريره"، في إشارة إلى التقرير الذي أصدرته لجنة دولية حققت في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008/2009 وانتهى إلى اتهام جيش الاحتلال بارتكاب جرائم حرب.
وفضلاً عن المسالك الدبلوماسية والقانونية، بدأت إسرائيل في ترويج خطاب جديد نسبياً تبرئ به ساحتها من دماء المدنيين، وذلك عبر تحميلهم – أي الضحايا - مسؤولية ما أصابهم من كوارث، معتبرة أن أهل غزة يشبهون سكان ألمانيا النازية الذين انتخبوا هتلر ومهدوا له الطريق لتهديد السلم العالمي، فكانت النتيجة أن تحملوا جزاء خطئهم. أما الأطفال الذين تنعدم لديهم فرصة الاختيار السياسي فهم يشبهون – وفق هذا الخطاب - تلاميذ مدرسة بيسلان الذين وقعوا رهائن بأيدي جماعة متطرفة في عام 2004، ولم يستطع الجيش الروسي فصلهم عن الخاطفين خلال اقتحامه المكان الذي انتهى بمقتل أكثر من 300 شخص معظمهم من الرهائن.
وقد عرض رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق والجنرال في الاحتياط، غيورا آيلاند، لهذا المنطق في مقاله الأسبوعي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (5 أغسطس 2014)، حيث ذكر أن "حماس ليست منظمة إرهابية جاءت من مكان بعيد واحتلت غزة بالقوة.. إنها الممثل الحقيقي للسكان هناك.. فازت بالحكم بانتخابات ديمقراطية، وبدعم السكان بنت قدرات عسكرية مثيرة للإعجاب وقاعدة قوتها ما زالت مستقرة رغم المعاناة".
وبذات المماثلة، سعى أعضاء بالكنيست وسياسيون بارزون للتغطية على جرائم الحرب في غزة بفقرات من التوراة، تدعو إله الانتقام "إلى التصرف مع أعدائنا كما فعل مع العماليق". وقد ترجم رئيس السلطة المحلية في مستوطنة "شيلاه" سابقاً، ديفيد روبين، هذا الدعاء بتأكيده عبر موقع القناة السابعة الإسرائيلية (آي إن إن)، على أن "العدو هو العدو. والطريق الوحيدة للانتصار في الحرب هي القضاء على العدو، بدون الأخذ بعين الاعتبار أكثر من اللازم السؤال من هم الجنود ومن هم المدنيون؟. نحن اليهود نوجه قذائفنا أولاً للأهداف العسكرية، ولكن لا توجد ضرورة للإحساس بالذنب عندما نخل بالحياة الهادئة، أو نصيب أو نقتل مدنيين أعداء، فكلهم مؤيدون لفتح وحماس".
ويعكس هذا الخطاب، فضلاً عن التجاهل التام للمواثيق الحقوقية الدولية، الصعود المتنامي لأفكار "الصهيونية الجديدة" التي تقوم على أن سمعة إسرائيل تستمد من قوتها وقدرتها على فرض إرادتها، وليس من صورتها الخارجية، وهو أمر سعت بعض القوى اليسارية للتصدي له خلال العدوان على غزة، غير أنها لم تجد ظهيراً شعبياً يدعمها، فانتهى بها الأمر لمجرد إطلاق تحذيرات متفرقة لا تستطع الوقوف بوجه خطاب صهيوني تصاعد في إسرائيل خلال العقد الأخير.