عرض: دينا محمود
يشهد الاقتصاد العالمي حالياً مرحلة إعادة توجيه عميقة لجغرافية الإنتاج والاستثمار والتجارة لتقليل التعرض للتوترات الجيوسياسية، وتلبية متطلبات الاستدامة، واستغلال إمكانات التقنيات الرقمية. إذ كشفت أزمة "كورونا" عن حجم الاضطراب في سلاسل التوريد العالمية بالإضافة إلى الاعتماد المفرط على الصين والذي يشكل بدوره مصدراً للقلق. ولم تعد قرارات إعادة توطين الصناعات وتنظيم سلاسل القيمة نتيجة لحسابات اقتصادية بحتة، لكن تحتاج البلدان والشركات الآن إلى إعادة ضبط استراتيجياتها مع مراعاة الاعتبارات الجيوسياسية.
في هذا السياق، يعرض تقرير صادر عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في إبريل 2023، دراسة حالة كوريا الجنوبية التي اعتمدت تنميتها الاقتصادية على مشاركتها في سلاسل التوريد المعقدة عبر الحدود، وارتباط اقتصادها الوثيق بالصين لفحص إمكانية إعادة التنظيم المحتملة لسلاسل القيمة من خلال تحليل استراتيجيات التوطين المختلفة، ومحركاتها، كما يسلط الضوء على أهمية السياسات العامة والقطاع الخاص، والدور المحتمل للعوامل الخارجية والخيارات التي يمكن تبنيها في هذا المجال.
إعادة التوطين بعيداً عن الصين:
اعتمدت كوريا الجنوبية في تنميتها الاقتصادية على قدرتها على تحقيق أفضل أوجه للتكامل الإقليمي. وبمرور الوقت، أعادت الشركات الكورية الجنوبية التفكير في استراتيجيات التوطين الخاصة بها من أجل التكيف مع التغيرات في بيئتها الاقتصادية والحفاظ على قدرتها التنافسية. ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ركزت ظاهرة نقل الصناعات إلى الخارج "Offshoring" للشركات الكورية الجنوبية على آسيا، وبشكلٍ خاص على الصين، خاصةً بعد انضمام الأخيرة إلى منظمة التجارة العالمية.
إلا أن الشركات الكورية بدأت منذ العام 2010 في تقليل استثماراتها في الصين وتنويعها في دول جنوب شرق آسيا، التي تتميز بتكاليف عمالة رخيصة نسبياً مقارنةً بالصين، وركزت بشكلٍ كبير على فيتنام كوجهة خارجية. وتُعد شركة إلكترونيات "سامسونج"، مثالاً كلاسيكياً لإغلاق شركة كورية أو تقليص عملياتها في الصين والانتقال إلى فيتنام، وبحلول عام 2017، شكَّلت "سامسونج" ما يقرب من ربع صادرات فيتنام، بل إن حوالي 60% من هواتف "سامسونج" الذكية مصنوعة الآن في فيتنام.
بخلاف ارتفاع تكاليف الإنتاج، كان هناك سبب آخر لخروج شركة "سامسونج" من الصين وتحولها إلى فيتنام وهو المنافسة المتزايدة مع المنتجين المحليين وعدم قدرة الشركة الكورية على التكيف مع الطلب المحلي، حيث انخفضت حصتها في السوق إلى 2% في 2018 وإلى 0.6% في 2022 وحالياً تحتفظ بثلاثة مصانع فقط في الصين. كما اختارت العديد من الشركات الكورية الجنوبية، خاصةً كثيفة العمالة، والتي صارت أنشطتها في الصين أقل فعالية إعادة توطين صناعاتها إلى فيتنام لتنويع سلاسل التوريد خارج الصين، خاصةً بعد الاضطراب العالمي فيها الناتج عن أزمة فيروس "كورونا" المستجد.
من جانب آخر، تُعد الهند جهة تفضيلية أخرى للشركات الكورية الجنوبية، ففي عام 2018، افتتحت "سامسونج" ما أسمته "أكبر مصنع للهواتف المحمولة في العالم" في مدينة نويدا، المتاخمة لنيودلهي، في محاولة للتنافس مع المنتجين الصينيين مثل: "شاومي"، ومضاعفة قدراتها الإنتاجية السنوية في البلاد.
وعلى الرغم من أن الاعتبارات الاقتصادية ما تزال المحدد الرئيسي في القرارات الكورية، فإنها قد تقترن إلى حدٍ ما بالعوامل الجيوسياسية. فعلى الرغم من أن بيئة الأعمال الصينية قد تكون أكثر تعقيداً فإن السوق الصينية تبقى أكثر جاذبية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالجزء الأوسط من سلسلة الإنتاج والسلع الوسيطة. كما أن هناك عدداً قليلاً فقط من البلدان يمكن أن يضاهي القدرة الاستيعابية والبنى التحتية والعمالة الماهرة التي تقدمها الصين. نتيجة لذلك، ربما تقوم الشركات الكورية الجنوبية بتنويع الاستثمارات خارج الصين، مع الإبقاء على الاستثمارات فيها، والانخراط فيما يسمى "China+1 strategy".
إعادة الصناعات إلى الداخل:
يشير مفهوم "إعادة الصناعات إلى الداخل" "Re-shoring"، إلى قيام الشركات بإعادة إنتاج السلع وتصنيعها في بلدها الأصلي، وهو مقابل لمفهوم "نقل الصناعات إلى الخارج" "Offshoring"، والذي تغادر فيه الشركات بلدها الأصلي وتقرر إنتاج وتصنيع سلعها في بلدان أجنبية مختلفة، وذلك في المقام الأول لاعتبارات كفاءة التكلفة.
وتشكل هذه الاستراتيجية طريقة لتحقيق درجة معينة من الأمن الاقتصادي، لجأت إليها الحكومة الكورية، حتى قبل وباء "كورونا"، لأنها كانت تخشى أن يؤدي تحول الإنتاج الصناعي والاستثمار إلى الخارج إلى انخفاض معدلات التوظيف والنمو في الداخل، وعليه، بدأت الحكومة في تقديم تدابير دعم لتسهيل إعادة توطين الشركات الصناعية للداخل. ففي يونيو 2013، أقرت الجمعية الوطنية قانون دعم عودة الشركات الكورية من الخارج، المعروف باسم "قانون يوترن" "U-Turn"، لوقف الموجة المتصاعدة للإنتاج في الخارج.
وعلى عكس الولايات المتحدة واليابان، كانت كوريا الجنوبية أقل نجاحاً في إعادة صناعاتها إلى داخل البلاد من جديد، فقد فشلت جهود سيول المكثفة لجعل الشركات تعود من الصين إلى موطنها الأم، حتى في ظل تفشي وباء "كوفيد19" والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، مما يسلط الضوء على مخاطر الاعتماد المفرط على بكين كقاعدة تصنيعية. وربما يُعزى فشل الجهود الكورية إلى عدم كفاءة استراتيجيتها، فضلاً عن انخراط الحكومة في هذه الاستراتيجية دون أخذ مصالح قطاع الأعمال في الاعتبار، مما يعكس الفجوة التي قد توجد بين الحكومة ومصالح قطاع الأعمال، كما تأتي الاعتبارات الأمنية أو السياسية خلف الاعتبارات الاقتصادية والربحية في حسابات الشركات.
وفي استطلاع أجراه المعهد الكوري للبحوث الاقتصادية (KERI) في عام 2018، عبَّرت 16.7% من الشركات عن عدم رغبتها في إعادة صناعاتها إلى داخل البلاد، بسبب ارتفاع تكاليف الأجور في كوريا، بينما ربطت 77.1% من الشركات عدم نيتها للعودة لحاجتها إلى الوجود الفعلي في الأسواق الخارجية لتنمية بيئة الأعمال هناك. ووفقاً لوزارة التجارة والصناعة والطاقة الكورية (MOTIE)، عادت حوالي 10 شركات فقط في المتوسط كل عام بين عامي 2014 و2018. وعلى الرغم من أن كوريا حسنت بيئة الاستثمار، فإن العودة إلى البلاد ما زالت تبدو محدودة لأن العقبات داخل البلاد ما تزال مرتفعة للغاية، نتيجة سوق العمل الصارم وتكاليف التوظيف المرتفعة وشبكة اللوائح البيئية.
حسابات جيوسياسية كورية:
بجانب العوامل الاقتصادية، صارت الجغرافيا السياسية عاملاً محدداً مهماً في حسابات صنع القرار في الشركات الكورية. هنا، تقدم التوترات بين كوريا الجنوبية واليابان أحد أهم الأمثلة على الخلافات السياسية التي امتدت إلى المجال الاقتصادي في شكل عقوبات وضوابط على الصادرات وما شابه.
إذ بدت استراتيجية إعادة التوطين الكورية رداً على التوترات الجيوسياسية مع اليابان. يتضح هذا الاتجاه في حالة النزاع التجاري الأخير بين البلدين حول صادرات أشباه الموصلات. إذ أقدمت الحكومة اليابانية عام 2019، على حذف كوريا الجنوبية من القائمة البيضاء للشركاء التجاريين الموثوق بهم والذين يتلقون معاملة تجارية تفضيلية على خلفية قرارات المحكمة العليا بكوريا بإلزام الشركات اليابانية بدفع تعويضات لضحايا العمل القسري في الحرب العالمية الثانية. وأعقب ذلك خطوة يابانية لحظر صادرات ثلاث من المواد والعناصر الكيميائية لتصنيع أشباه الموصلات وشاشات الكمبيوتر بكوريا الجنوبية، وهي: المادة المقاومة للضوء، وغاز فلوريد الهيدروجين، والبولي أميد.
وأتاح النزاع التجاري بين البلدين فرصة للشركات الكورية الجنوبية لاستكشاف خيارات لإعادة هيكلة سلاسل القيمة العالمية لأشباه الموصلات للتخفيف من المخاطر المحتملة، وتعزيز التعاون مع القطاع الخاص لإعادة توطين سلاسل التوريد، فقد خصصت الحكومة الكورية حوالي تريليوني وون سنوياً لتمويل البحث والتطوير.
وأدى تشديد اليابان لضوابط التصدير إلى كوريا لدمج مصالح الشركات الكورية الكبيرة والحكومة. ولاستكمال استراتيجية التوطين، انخرطت الشركات الكورية أيضاً في تنويع مصادر التوريد الخاصة بها. فبالنسبة لغاز فلوريد الهيدروجين، نوّعت الشركات مصادر استيرادها إلى دول مثل الولايات المتحدة. وبالنسبة لمقاومات الضوء، التي تُستخدم لتشكيل أنماط الدوائر على الرقائق ويتم إنتاجها بنسبة 92% في اليابان، تم تنويع مصادر الاستيراد لتشمل بلجيكا وألمانيا.
وبرغم أنه من غير المرجح أن تتخلى كوريا الجنوبية عن هدفها المتمثل في التحول إلى الإنتاج المحلي باسم تعزيز الأمن الاقتصادي، فإنها فشلت حتى الآن في إنشاء سلاسل توريد محلية مستقلة تماماً عن المنتجين اليابانيين، وسيؤدي التطبيع المتوقع للعلاقة الثنائية بين البلدين بالتأكيد إلى تعديل في الاستراتيجية، حيث إن الاستعانة بالمصادر من اليابان تتناسب مع المنطق الاقتصادي لأن الاستعانة ببلدان أخرى تعرض كوريا لخطر أن تكون هذه المنتجات أقل جودة مما يمكن أن توفره اليابان وستؤدي إلى تكاليف إضافية لتغطية المنتجات التالفة.
التنافس الصيني الأمريكي:
في إطار الحديث عن العوامل الجيوسياسية، فإن الصناعات الرئيسية لكوريا الجنوبية، على غرار الجيل الخامس وأشباه الموصلات والبطاريات والعناصر الأرضية النادرة، تتأثر بشكل أساسي بالمنافسة بين الولايات المتحدة والصين. ونظراً لدرجة التكامل الاقتصادي العالية مع الصين، فإن الانفصال الكوري عنها سيكون مكلفاً للغاية، وفي الوقت ذاته فإن سيول معرضة للضغوط الأمريكية التي تهدف إلى عرقلة طموحات بكين للوصول إلى أحدث التقنيات من أجل الحفاظ على تفوقها التكنولوجي وتعزيز قدراتها التصنيعية.
ففي 2022، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية عن ضوابط جديدة لصادرات التكنولوجيا إلى الصين، وذلك لمنع الشركات، بما في ذلك الموجودة خارج الولايات المتحدة، من بيع أشباه الموصلات إلى الصين إذا تم إنتاجها باستخدام معدات أمريكية، ومن ثم تجميد إنتاج الرقائق المتقدمة وقدرات الحوسبة الفائقة في الصين.
وشكلت هذه الضوابط الأمريكية خطراً على الشركات الكورية لأنها قد تعطل التدفقات التجارية الكبيرة بين الشركات في كوريا والصين والولايات المتحدة. كذلك يؤثِّر قانون الرقائق وضوابط التصدير بشكل مباشر في بعض الشركات الكورية، ولاسيما شركتي "أس كي هاينكس" و"سامسونج"، واللتين تستخدمان التكنولوجيا الأمريكية وتعملان في الصين لتلبية جزء من السوق الأمريكية. ومن المتوقع أن تعمد هذه الشركات إلى بناء المزيد من المصانع في الولايات المتحدة لأنها لا تستطيع إنتاج رقائق متطورة على نطاق واسع من دون المعدات والتكنولوجيا الأمريكية.
في الوقت نفسه، ضاعفت شركات أشباه الموصلات الكورية الجنوبية استثماراتها في البلاد، خاصةً مع صدور "قانون K-Chips " الذي تمت الموافقة عليه أخيراً لتعزيز صناعة أشباه الموصلات عن طريق زيادة الائتمان الضريبي من 8% إلى 15% للشركات الكبرى التي تستثمر في هذه الصناعة، بينما ستشهد الشركات الصغيرة والمتوسطة تخفيضاً ضريبياً من 16% إلى 25%. وتشير هذه التطورات بوضوح إلى أن ضوابط الصادرات الأمريكية تُعيد تشكيل سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات.
من ناحية أخرى، ثمة مساعٍ كورية لتقليل اعتمادها على الصادرات من المعادن الأرضية النادرة من الصين، لذلك، سعت سيول لتقليل الواردات في هذا المجال من الصين وزيادتها من مصادر أخرى كأستراليا وفيتنام، ومحاولة إيجاد طرق مبتكرة لتقليل استهلاك هذه المعادن وتعزيز إنتاجها المحلي وإنشاء سلسلة توريد متكاملة من خلال شراكات إقليمية.
ختاماً، فبرغم كل الأحاديث حول إعادة توزيع سلاسل القيمة العالمية وفك الارتباط مع الصين، فإن قرارات الشركات الكورية بالتمركز في بلدٍ ما بدلاً من أخرى ما زالت تستند إلى حدٍ كبير إلى عوامل التكلفة، حتى لو تم أخذ الاعتبارات الأمنية في الاعتبار بشكلٍ متزايد. ورغم وجود عِدة حالات إعادة توطين للشركات الكورية من الصين إلى الآسيان، فلا يعني ذلك التخلي عن الصين بسهولة، نظراً لحجم سوقها.
من جانب آخر، فإن عملية إعادة الصناعات الكورية إلى داخل البلاد، التي كانت على رأس جدول أعمال حكومة كوريا الجنوبية لفترة طويلة، تبدو محدودة الأثر برغم الجهود الحكومية المبذولة في هذا الشأن. فنجاح السياسات العامة مشروط بتلاقي المصالح مع القطاع الخاص، فما تزال الاعتبارات الاقتصادية تهيمن على حسابات الشركات، مما يدفعها إلى تفضيل مواقع الإنتاج منخفضة التكلفة، وربما تلجأ بعض الشركات الكورية إلى خيارات أخرى غير متوقعة مستقبلاً، تجمع بشكل جيد بين الاعتبارات الاقتصادية والجيوسياسية.
المصدر:
Françoise Nicolas, Reshuffling Value Chains: South Korea as a Case Study, Ifri, and Center for Asian Studies, VISIONS, No. 135, April, 2023.