واشنطن - وقّع الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الشهر أمرا تنفيذيا لحظر الاستثمارات الأميركية في الشركات الصينية في ثلاثة قطاعات تكنولوجية شديدة الحساسية والدقة، وهي أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، وتقنيات المعلومات الكمية، وبعض أنظمة الذكاء الاصطناعي. ويفرض على الشركات الأميركية الكشف عن الاستثمارات التي تقوم بها في الصين في قطاعات التكنولوجيا الفائقة، وهو ما يمثل توسعا غير مسبوق في الرقابة الحكومية على شركات القطاع الخاص.
وتقول الباحثة إيمان فخري إن هذا الأمر يأتي في إطار تطبيق إستراتيجية “ساحة صغيرة، وسور مرتفع” التي اعتمدت عليها إدارة بايدن، وتعني أن يتم التركيز فقط على قطاعات محددة لتقييد التعاون بشأنها مع الصين، وهي القطاعات التي يمثل تطويرها تهديدا للأمن القومي الأميركي. وفيما عدا هذه المجالات، فإن واشنطن مستعدة لتطوير العلاقات الاقتصادية مع بكين، بما يسمح للجانبين بحصاد المنافع بشكل متبادل.
ويحد هذا القرار من قدرة الصين على تصميم وتطوير الرقائق الإلكترونية التي تعد مكونا رئيسيا لجميع الصناعات الإلكترونية، بدءا من الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والساعات، إلى وحدات التحكم في الألعاب والمعدات الصناعية، وصولا إلى السيارات والطائرات المدنية والعسكرية، وغيرها.
ويأتي الأمر الأميركي بهدف تضييق الخناق بشكل أكبر على إمكانات بكين لتطوير صناعة الرقائق بشكل محلي، حيث إن توطينها لصناعة الرقائق الإلكترونية سيسهم في تحقيق طفرة اقتصادية وصناعية وعسكرية في الصين قد تُرجح كفتها على حساب الولايات المتحدة.
ويمثل إقرار الولايات المتحدة للأمر التنفيذي حافزا لبعض حلفائها الأوروبيين لاتخاذ خطوات مماثلة. فعلى سبيل المثال، تدرس ألمانيا وبريطانيا سُبل تقييد الاستثمارات الخاصة بهما في الصين. وفي يونيو الماضي، صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأنه سيتم تطوير قواعد استثمار جديدة بحلول نهاية هذا العام. وهذا ما قد يُعد مؤشرا على وجود دعم أوروبي للتوجه الأميركي. ومع ذلك، فإن بعض الحلفاء الآخرين، ومنهم اليابان، قد أبدوا رفضهم لهذا النهج.
وتوضح الباحثة في تقريرها لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن هذا القرار سيدعم قدرة الإدارة الأميركية على رصد وتحليل تدفق الاستثمارات في التقنيات الدقيقة بالصين.
ويهدف الأمر التنفيذي أيضاً إلى الحد من قدرة بكين على التعرف إلى الخبرات الإدارية لبناء مؤسسات وشركات ناجحة. إذ استفادت الصين، على مدار عقود، من وجود شركاتها في وادي السيليكون بالولايات المتحدة، وانتقلت الخبرات والمهارات الإدارية إلى الشركات الناشئة في الصين.
وانتقد الجمهوريون الأمر التنفيذي بشأن الصين، لأنه استهدف مجالات محددة ولم يتضمن حظرا للاستثمارات الأميركية في مجالات واسعة بالصين. وعلى الرغم من أن هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ العام المقبل، فإنه سيؤدي إلى تغذية التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم.
ويأتي إصدار هذا الأمر التنفيذي ليضع المزيد من العقبات والضغوط أمام استكمال المسارات الدبلوماسية للتهدئة بين واشنطن وبكين، فقد عكس رد الفعل الرسمي الصيني رؤيته لهذا القرار كمؤشر واضح على رغبة الولايات المتحدة في عرقلة جهود التنمية الصينية. إذ قال المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن إن بلاده “تشعر بخيبة أمل كبيرة” من هذه الخطوة، مضيفاً أن تلك القيود “ستقوض بشكل خطر مصالح الشركات والمستثمرين الصينيين والأميركيين”. كما وصف متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية الأمر بأنه بمثابة “إكراه اقتصادي صارخ وتسلط تكنولوجي”.
وتحرص بكين على تعزيز الصناعات عالية التقنية وذات القيمة المضافة الأعلى كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي. وبالتالي فإن القرار الأميركي قد يؤثر بالسلب في قدرتها على التطوير التكنولوجي في المدى الطويل، خاصة أن المجالات التي يمكن وقف التعاون الاستثماري بشأنها قد يتم توسيعها مع مرور الوقت لتشمل المزيد.
وترى الباحثة أنه وعلى الرغم من أن بكين تتأهب منذ سنوات لقيام واشنطن باتخاذ مثل هذه القرارات، فإن الطريق لا يزال طويلاً أمامها لتطوير قدراتها محلياً لتصنيع الرقائق المُتقدمة، خاصة في ظل تقييد الصادرات والاستثمارات الغربية في الصين في المجالات المتعلقة بالتقنيات الدقيقة.
كما أن هناك حالة من عدم اليقين بين الشركات الأميركية والصينية، قد يعزى ذلك إلى أن التفاصيل حول اللوائح والمُتطلبات المُحددة لحظر الاستثمارات الأميركية لا تزال غير محددة.
وعلى صعيد الشركات الصينية، انقسم رد الفعل بين القلق إزاء الأمر، لأنه سيعوق تدفق الأموال إلى بعض الشركات، وبين اتجاه آخر قلل من أهمية هذا القرار على اعتبار أن المحرك الرئيسي للشركات الصينية والأميركية هو الربح، ومن ثم فإن الطرفين سيجدان طريقة للتعاون وتحقيق الأرباح.
وبسبب التأثيرات المُستمرة لعمليات الإغلاق الصارمة التي اتبعتها بكين خلال جائحة كورونا، فضلا عن عزوف عدد من الشركات الغربية ولاسيما الأميركية عن الاستثمار في الصين، سجل رأس المال الاستثماري الأميركي في الصين العام الماضي أدنى مستوى له في 10 سنوات، وبلغ 1.3 مليار دولار فقط، وذلك بانخفاض كبير عن ذروته التي بلغت 14.4 مليار دولار عام 2018.
وهذا قد يكون مؤشراً على أن قرار الحظر الأميركي لن يكون له تأثير ملموس في الاستثمارات الأميركية المتناقصة بالفعل في الصين. لكن في كل الأحول، فإن بكين سيتعين عليها البحث عن مصادر تمويل جديدة لتعويض هذا التراجع.
وترجح إيمان فخري أن تلجأ الصين إلى الشرق الأوسط، ولاسيما دول الخليج، لمحاولة سد هذا العجز، وقد يتم ذلك من خلال تدشين مشروعات بحثية مشتركة ترتكز على تطوير التقنيات المتعلقة بالرقائق الإلكترونية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي للأغراض السلمية.
إن تحديد نطاق تداعيات الأمر التنفيذي لتقييد الاستثمارات الأميركية في شركات تكنولوجية صينية، سوف يتوقف على السُبل التي سيتم الاعتماد عليها لتنفيذه، حيث يتعين على الإدارة الأميركية التعامل بشكل حذر مع آلية تطبيقه، لأنه بمثابة سلاح ذي حدين، وعدم انخراط الشركات الأميركية في مجالات التقنيات الحساسة بالصين قد تكون له آثار سلبية تتعلق بحجب بعض المعلومات المهمة التي قد تسهم في معرفة الإدارة الأميركية مدى التقدم التكنولوجي الذي وصلت أو تسعى إليه بكين.
كما يتعين على واشنطن عند تطبيق الأمر التنفيذي، الأخذ في الاعتبار أهمية عدم التوسع في مجالات الحظر، وذلك حتى لا تثير حفيظة الشركات الأميركية التي تسعى في نهاية الأمر إلى تحقيق الأرباح واستغلال سوق ضخمة مثل الصين.
وتشدد الباحثة فخري على أن الولايات المتحدة والصين تدركان أن التقنيات الحساسة هي مفتاح المستقبل، وأن الدولة التي ستحقق التفوق النسبي في هذه المجالات ستكون المُسيطرة على المشهد الاقتصادي العالمي. لذا فإنه من المؤكد أن الأمر التنفيذي بحظر الاستثمارات الأميركية في التقنيات الدقيقة بالصين لن يكون الفصل الأخير في مضمار التنافس الأميركي – الصيني على الصعيد التكنولوجي، ولكنه بداية لاحتدام التنافس على المدى القصير ووصوله إلى حد الصراع على المديين المتوسط والطويل.