وسط حالة الشد والجذب السائدة حالياً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، تسعى واشنطن لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة لمراقبة الممرات المائية الرئيسية، حيث أعلنت في شهر يوليو الماضي أنها ستنشر مدمرة وطائرات حربية من طراز "أف-35" و"أف-16". كما ظهرت تقارير في الأسبوع الأول من أغسطس الجاري تفيد بأن الولايات المتحدة بصدد نشر جنود من المارينز على السفن التجارية التي تمر في مضيق هرمز. أيضاً، أعلن الأسطول الخامس الأمريكي، يوم 7 أغسطس الجاري، وصول أكثر من 3 آلاف بحار وجندي أمريكي إلى الشرق الأوسط.
وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، كانت التعزيزات العسكرية والمناوشات جزءاً من مظاهر التوتر الأمريكي الإيراني، حيث تتصاعد وتيرته وتتراجع حسب طبيعة العلاقات بينهما، لكن التطور هذه المرة يبدو مختلفاً في أحد مؤشراته، والذي يتعلق بسابقة تتمثل في نشر قوات أمريكية على متن السفن التجارية. وكل ذلك يثير تساؤلات حول دوافع وتداعيات تعزيز واشنطن حضورها العسكري في المنطقة، وموقف دول الخليج من هذه التطورات.
تفسيرات متعددة:
ثمة دوافع عديدة يمكن من خلالها تفسير الإجراءات العسكرية الأمريكية في المنطقة خلال الفترة الأخيرة، ومنها الآتي:
1- مراجعة أمريكية متأخرة: هناك زوايا عدة يمكن بها تفسير إرسال واشنطن مزيداً من القوات العسكرية وإمكانية نشر جنود فوق السفن التجارية العابرة في الخليج. ومن وجهة النظر الخليجية، فإن الزاوية التي يتعين النظر منها تتعلق بما إذا كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد بدأت في مراجعة سياساتها التي انتهجتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، بعدما تأكد للإدارات الأمريكية المتعاقبة أن دول الخليج الست بدأت تشارك منافسي النفوذ الأمريكي العالمي في رسم السياسات الدولية، بل إنها أثبتت قدرتها على احتواء الخطر الإيراني، وصارت طهران مشاركة معها في العمل من أجل تنمية المنطقة، بعد الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران برعاية الصين في مارس الماضي.
2- حرب نفسية على إيران: ليس هناك جديد في إرسال حشود عسكرية لتعزيز الأسطول الأمريكي الخامس الموجود في البحرين، بما فيها السفن الهجومية، خاصة عندما تتصاعد هجمات قوارب الحرس الثوري الإيراني على السفن وناقلات النفط. ودائماً ما تتبنى واشنطن خطاباً سياسياً تقليدياً فحواه أن الهدف هو طمأنة دول الخليج الحليفة بشأن الحفاظ على أمن المنطقة. لكن هذا الخطاب سبق اختباره في مواقف عديدة تعرضت لها دول الخليج، خاصة في فترات الإدارات الديمقراطية الأمريكية، وكانت النتيجة "ثقة مهزوزة" في واشنطن. ومن هذه المواقف، تجاهل الولايات المتحدة لمصالح الخليج في المفاوضات مع إيران ثم إبرام الاتفاق النووي معها عام 2015، فضلاً عن موقفها السلبي من تهديد المليشيات المسلحة لأمن الخليج. وبالتالي، من المُرجح أن التحركات الأمريكية قد لا تتعدى كونها أوراق ضغط على طهران لتحريك الملف النووي، فالخبرة التاريخية للإدارات الديمقراطية في مواجهة إيران أثبتت أنها تتعامل معها بحذر.
3- التحضير للانتخابات الأمريكية 2024: بفضل التحولات الكبرى الحاصلة في الإقليم، تم تخفيف حدة واحدة من أكثر الأزمات المعقدة؛ وتتعلق بعودة العلاقات بين الرياض وطهران، والتي انعكست سلباً، بلا شك، على صورة الديمقراطيين في الداخل الأمريكي، وعلى دور واشنطن في الشرق الأوسط. وبناءً عليه، ربما يحاول الرئيس بايدن رفع شعبيته قبل انطلاق سباق الانتخابات الرئاسية المُقرر إجراؤها في نوفمبر 2024؛ فهو يريد من جانب أن يؤكد للناخب الأمريكي أن بلاده مستمرة في استراتيجية التفوق العالمي، ويحاول من جانب آخر تصحيح الإشارات الصادرة عن واشنطن لتقول إنها ملتزمة بتعهداتها في مواجهة الخطر الإيراني بالمنطقة. وهذا أمر مرتبط أيضاً بالعملية الانتخابية؛ نظراً لموقف إسرائيل واللوبي الموالي لها في الداخل الأمريكي، والذي يمثل عاملاً ضاغطاً على إدارة بايدن، خصوصاً في ظل فتور العلاقة مع الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي ربما يبذل جهداً في تحريض جماعات الضغط اليهودية على بايدن وإدارته.
تصعيد محسوب:
يمكن الإشارة إلى عدد من التداعيات المُحتملة لتعزيز القوات الأمريكية في الشرق الأوسط بهدف ردع التهديدات الإيرانية للسفن التجارية وغيرها، ومن هذه التداعيات ما يلي:
1- استبعاد المواجهة العسكرية المباشرة: هناك احتكاكات تاريخية بين القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة والحرس الثوري الإيراني، وتذكرنا الخطوات الأمريكية الجديدة بحرب الناقلات النفطية أثناء الحرب العراقية الإيرانية خلال الثمانينيات من القرن الماضي. ومن غير المُرجح أن تتحول المواجهة الحالية بين واشنطن وطهران إلى حرب عسكرية، حيث إن وجود سفن حربية أو قوات عسكرية لا يعني مواجهة شاملة، خاصة بعد أن بدأت واشنطن عام 2018 في تخفيف وجودها العملياتي في المنطقة.
في المقابل، تحرص إيران على تجنب احتمالية المواجهة العسكرية المباشرة مع الجانب الأمريكي، وهذا ما تم اختباره من قبل في ردة الفعل الإيرانية على مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، ونائبه أبو مهدي المهندس، في يناير 2020، حيث لم يتعد رد طهران حينها التصعيد الخطابي والتهديد، مع بعض المناوشات الخفيفة مثل قصف صاروخي محدود القوة و"مجهول المصدر" لقاعدة عسكرية عراقية يتمركز بها جنود أمريكيون. وهذا ما يفيد بأن الطرفين الأمريكي والإيراني لا يحبذان التصعيد الفعلي، ويتجنبان عملياً المواجهة المباشرة.
2- زيادة التوتر في المنطقة: الأرجح هو تصاعد الشحن السياسي والعسكري واستخدام لغة التهديدات المتبادلة بين الطرفين الأمريكي والإيراني، مع إمكانية تحريك الولايات المتحدة المعارضة الإيرانية الداخلية والخارجية، بهدف الضغط على المفاوض الإيراني. ومن غير المُستبعد أن ترد طهران باستفزازات للسفن الأجنبية في المنطقة، واختطاف رعايا دول أجنبية، وربما أيضاً تصدير بعض القلاقل لدول الأزمات في الإقليم.
وتُدرك واشنطن وطهران تكلفة الحرب على الجانبين، ومثلما يكون التفاهم بينهما في الأوقات العادية معقداً نتيجة للاختلافات في ملفات كثيرة؛ فإن هذا التعقيد سيزداد في حالة وقوع حرب بينهما. وتُدرك الإدارة الأمريكية أن العودة إلى حرب الناقلات في المنطقة تعني تعميق الأزمة النفطية التي يعيشها العالم حالياً. وهذا من شأنه زيادة حالة الغضب العالمي، وكذلك الغضب الأوروبي على الحليف الأمريكي، وربما الغضب الداخلي في الولايات المتحدة؛ وهو ما قد يؤثر في مصير الحزب الديمقراطي وبايدن في انتخابات العام المقبل.
حسابات الخليج:
ثمة قاعدة تقليدية يرددها البعض حول العلاقات الخليجية الإيرانية، وهي أنها مرتبطة بالعلاقات الأمريكية الإيرانية. وكانت هذه القاعدة أقرب إلى الصحة قبل التفاهمات الخليجية مع إيران في الأشهر الماضية، لكن سيحاول البعض استدعاء تلك القاعدة مجدداً خلال هذه الأيام، خاصة بعد لقاء معالي الأستاذ جاسم البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الفريق براد كوبر، قائد القوات البحرية الأمريكية في القيادة المركزية والأسطول الخامس الأمريكي والقوات البحرية المشتركة، يوم 3 أغسطس الجاري. بيد أن عدم صدور تصريحات محددة من الجانبين بعد هذا اللقاء، وكون المسؤول الخليجي سياسياً بحكم منصبه وليس عسكرياً، فضلاً عن أن مجلس التعاون الخليجي كمنظمة إقليمية لم يكن يوماً طرفاً في أي تحركات عسكرية أمريكية في الخليج؛ هذه عوامل تكاد تؤكد أنه لم يكن سوى لقاءً إجرائياً، ولا صلة له بأي دور أو مشاركة خليجية فيما يمكن اعتباره "نيات" أمريكية في مواجهة إيران.
ويمكن القول إن دول الخليج تنأى بنفسها عن الخطوات أو الإشارات الأمريكية بالتصعيد في المنطقة، لأسباب عديدة، منها ما يلي:
1- الإدراك الخليجي لحقيقة الخطوات الأمريكية: إن الإجراءات العسكرية الأمريكية الجديدة في المنطقة، حسب القناعة الخليجية، لا تخرج عن كونها نوعاً من الضغط الدبلوماسي الأمريكي المُعتاد على إيران، لتحريك ملف ما. وهنا يأتي ملف المفاوضات النووية، على اعتبار أن أي نجاح فيه أو غيره سيمثل مكسباً سياسياً لإدارة بايدن الذي يستعد لخوض سباق الانتخابات الرئاسية، فإدارته تبحث عن تحقيق إنجازات حقيقية خارجية أو داخلية. وبالتالي تعي دول الخليج تماماً حقيقة مواقف وإشارات واشنطن وحدود تحركها الفعلي في الإقليم.
2- عدم تغير النمط الأمريكي مع الخليج: هناك العديد من المواقف السابقة التي تؤكد وجود نمط أمريكي ثابت بشأن ترضية دول الخليج وكسب تأييدها لتحركات وسياسات واشنطن في المنطقة، وهو نمط لا يخرج عن تصريحات ومواقف سياسية لا أكثر، ومهما بلغت من حدة أو تشدد، تبقى محصورة في نطاق الدبلوماسية ولم تنتقل يوماً إلى دائرة العمل الفعلي، حتى في الأوقات التي كانت تتطلب بل تحتم ذلك. فبخلاف الانسحابات الأمريكية المتكررة من المنطقة، لا يمكن للخليج أن ينسى "الصمت الأمريكي" عن الاستهداف الحوثي الإرهابي للسعودية والإمارات.
3- تغير النهج الخليجي: من يتتبع السياسة الخارجية الخليجية في السنوات الأخيرة، سيجدها تصالحية مع الجميع، أي "تصفير المشاكل" حتى مع إيران التي تحتل جزراً إماراتية ثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى)، وتتنازع مع السعودية والكويت على حقل الدرة. ويمكن تفسير هذا النهج الخليجي ببعدين هما:
أ- أن تقوية الجوانب الاقتصادية وتنمية مجالات ومسارات للتعاون مع إيران وغيرها، قد يكون سبباً في تفاهمات مستقبلية في المجالات الحساسة، بل الملفات الخلافية سواءً سياسية أم أمنية.
ب- إثبات حسن النية الخليجية، واتباع سياسة النفس الطويل والتهدئة المتزنة، وهو ما يُعد مدخلاً مهماً وفعالاً للتعامل مع النظام الإيراني الذي يرفع في الفترة الأخيرة شعار الانفتاح على الجوار العربي والرغبة في تحسين العلاقات. وبالتالي ليس هناك مبرر خليجي لإعلان مواقف أو تبني خطوات قد تمنح طهران حججاً لتعطيل مسار التهدئة الإقليمية.
ختاماً، على الرغم من كل ما سبق، من غير المُحتمل أن تعزل دول الخليج نفسها أو تكون بعيدة عن أي تطورات فعلية في المنطقة، وتحديداً في جوارها، فهي الأكثر تأثراً بأي مُستجدات في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، سلباً أو إيجاباً، خاصة أن طهران تتبع سياسة معاقبة واشنطن من خلال تهديد مصالحها وحلفائها في الإقليم.