عرض: هند سمير
بعد مرور أكثر من عام على الصراع الروسي الأوكراني، تفاقم الصدع بين روسيا والغرب، وبينما كانت الحكومات الغربية ثابتة في معاقبة روسيا على شنها لتلك الحرب، بدت الدول الأخرى حول العالم أكثر غموضاً، لدرجة أنها اختارت أحياناً الوقوف إلى جانب موسكو سياسياً أو اقتصادياً، وقد أعادت هذه التغيرات إحياء فكرة التحول نحو التعددية القطبية للنظام الدولي في مسار مناهض للغرب.
مع ذلك، ثمة تساؤلات مطروحة في هذا الإطار، وهي: هل يسير العالم "حقاً" في هذا الاتجاه التعددي؟ وهل يواجه تفككاً متزايداً بسبب الحرب أم إعادة توطيد تحالفات طويلة الأمد؟ وما المبادئ التي يقوم عليها تشكيل هذه التحالفات؟ وما عواقب هذه التحولات على الأمن والاقتصاد العالمي؟ تلك الأسئلة، يحاول الإجابة عنها تقرير موسع شارك فيه عدد من الخبراء في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية أخيراً، تحت عنوان "التعددية القطبية بعد أوكرانيا.. هل هي صياغة للقديم، وكأنه جديد؟"، كما يسعى التقرير إلى تحديد الآثار المستقبلية المحتملة للحرب على الاتحاد الروسي والغرب والنظام الدولي.
"تابوهات" منتهية:
على الرغم من أن روسيا لم تحقق هدفها في الإطاحة بحكومة كييف بعد مرور أكثر من عام على الصراع مع أوكرانيا. فإن هناك العديد من الأشياء التي يمكن رصدها فيما يتعلق بآثار الحرب على المستوى الدولي. إذ وضعت تلك الحرب نهاية للعديد من "التابوهات"، أولها، أن ألمانيا واليابان، الدولتان المهزومتان في الحرب العالمية الثانية، تعيدان تسليح نفسيهما بشكلٍ واضح لاتجاه طويل الأمد، لكن هذه المرة دون الاختباء وراء أي أعذار. بل على العكس من ذلك، ترى برلين صراحة أن الصراع الروسي الأوكراني هو نقطة تحول، ومن المقرر أن ترفع نفقاتها الدفاعية السنوية من 50 إلى 80 مليار يورو.
ثاني التابوهات التي تم كسرها هو "الجلوس لفترة طويلة في المعسكر المحايد"، فبعد بضعة أشهر فقط من الصراع، تقدمت كل من فنلندا والسويد رسمياً بطلب للانضمام إلى حلف "الناتو". أما التابوه الثالث الذي سقط فهو أن الصراع الروسي الأوكراني وضع حداً للأمل الغربي في أن التجارة والاعتماد المتبادل من شأنه أن يجمع البلدان معاً، أو على أقل تقدير يمنع الحرب فيما بينهما. ففي أوروبا، كان نموذج "التغيير من خلال التجارة"، الذي مثلته ألمانيا الأكثر انزعاجاً من الحرب الأوكرانية، لأنه حتى مع تعبئة الجيش الروسي على طول الحدود الأوكرانية، استمرت الحكومة الألمانية في السماح باعتماد خط أنابيب "نورد ستريم 2" حتى 22 فبراير 2022، أي قبل يومين من نشوب الصراع الروسي الأوكراني.
مع سقوط هذه التابوهات، واحداً تلو الآخر، بدأت تظهر بعض الحقائق. فمن الواضح أن الولايات المتحدة، والغرب، يريدان بقاء أوكرانيا صامدة. إذ خصصت واشنطن وحدها 23 مليار دولار من الأسلحة والمساعدات العسكرية لأوكرانيا، أي ضعف المبلغ الذي خصصته بقية دول العالم مجتمعة (12 مليار دولار)، وسبعة أضعاف المساعدات المعتادة التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى أكبر شريك عسكري لها – إسرائيل - عام 2020 (3.3 مليار دولار). وبينما يبدو من غير المحتمل – وفقاً للتقرير- القول إن الغرب يستخدم أوكرانيا لشن "حرب بالوكالة" على روسيا، فمن المؤكد أن أوكرانيا اليوم يتم اعتبارها منصة للمقاومة ضد الدول التي لا تحترم النظام الدولي القائم على القواعد.
في المقابل، فإن عدد الدول التي تتصدى صراحة لفكرة النظام الدولي القائم على القواعد بقيادة الغرب آخذ في الازدياد. ففي 21 فبراير 2023، قبل أيام قليلة من الذكرى السنوية الأولى للصراع الروسي الأوكراني، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه سيعلق مشاركته في معاهدة "ستارت الجديدة"، وهي آخر معاهدة أسلحة نووية متبقية بين موسكو وواشنطن، وبقايا البنية الأمنية التي ساعدت في الحفاظ على السلام لعقود. وبينما تبدو روسيا المنتقمة عازمة بشكلٍ متزايد على إعادة التفاوض بشأن الشروط التي وضعت نهاية للحرب الباردة، تؤدي بكين أيضاً دوراً في ذلك، حيث تشترك كل من روسيا والصين في مصلحة مشتركة، وهي الرغبة في إضعاف هيمنة الولايات المتحدة.
اصطفاف روسي صيني:
هيمنت فكرة التعددية القطبية على السياسة الخارجية لروسيا منذ أوائل التسعينيات، وقد أصبح هذا هو الحال بشكلٍ خاص بعد عام 2014، عندما بدأت موسكو تكون أكثر "عدوانية" في مواجهتها مع الغرب من وجهة نظر التقرير. وعلى الرغم من أن جهود روسيا في السعي إلى التعددية القطبية لا يمكن إنكارها، فلا يزال من غير الواضح ما هو الدور الذي من المفترض أن تؤديه فيه، وما إذا كان الصراع الروسي الأوكراني سيؤثر في هذا الدور.
للإجابة عن هذه التساؤلات، يبحث ريتشارد سكوا، في السياسة الدولية المعاصرة، والتي يعرفها بأنها تتجه نحو "تعددية قطبية شديدة التفاوت". يبدأ سكوا، في فحص روسيا في العالم الحالي متعدد الأقطاب، حيث يجادل بأنه على الرغم من أن روسيا معزولة من قبل نظرائها الغربيين في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني، فقد تمكنت من تعزيز علاقاتها مع الصين ودول أخرى. مع ذلك، يتوقع أن الصين ستتنافس في النهاية مع الولايات المتحدة على مركز الهيمنة، بينما ستسعى روسيا إلى تحقيق التوازن بين القوى المهيمنة.
تماماً مثل روسيا، كانت الصين من بين أكثر الجهات الفاعلة حزماً في تحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وهذا الموقف هو الذي جعل هذين الفاعلين أقرب لبعضهما بعضاً في المقام الأول. ففي 4 فبراير 2022، خلال اجتماع في حفل افتتاح أولمبياد بكين، أعلن الرئيسان بوتين، وشي جين بينغ، عن "صداقة بلا حدود" بين بلديهما، وهو إعلان مشترك بدا أنه يتوج مساعي موسكو وبكين لتحسين علاقاتهما الثنائية.
مع ذلك، بعد ثلاثة أسابيع فقط، وضع الصراع الروسي الأوكراني الصين على المحك. في هذا السياق، تحقق سارة كيرشبيرجر، في كيفية تغير العلاقات الصينية الروسية منذ نشوب الحرب الأوكرانية، وتصف موقف الصين تجاه روسيا، قبل وأثناء الحرب الأوكرانية، وتناقش كيف يمكن للحرب أن تؤثر في الآفاق المستقبلية للشراكة الاستراتيجية، وتتنقل كيرشبرجر في العديد من المستويات من الاصطفاف الصيني الروسي، لتثبت في النهاية أن مستقبل "الصداقة بلا حدود" لا ينبغي أن يؤخذ على أنه أمر مفروغ منه، خاصة عند النظر إليه من الجانب الصيني.
على جانب آخر، لطالما كانت الصين وروسيا من أعنف الخصوم للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وقد تم وضع هذه المنافسة مع الغرب في بعض الأحيان موضع التنفيذ من خلال إنشاء المنظمات والمؤسسات الدولية، ومن أبرز النماذج على ذلك، حالة منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأسست بمبادرة من الصين في عام 2001 واليوم، تضم 8 دول أعضاء.
ففي الآونة الأخيرة، صنف العديد من المحللين الغربيين تلك المنظمة أنها مناهضة لحلف شمال الأطلسي. وبالرغم من أن هناك بُعداً أمنياً مهماً للمنظمة، حيث إن بعض الأعضاء على خلاف مع الغرب. إلا أن دول آسيا الوسطى مهتمة أكثر بمنظمة شنغهاي للتعاون من منطلق الاستفادة من فرص التجارة والتواصل التي يمكن أن تقدمها. وهكذا، يرى التقرير أن منظمة شنغهاي قد تتطور بشكل جيد لتصبح أحد أقطاب القوة في العالم متعدد الأقطاب، ولكنها لن تكون بالضرورة معادية للغرب كما يعتقد الكثيرون.
بين الاقتصاد والدبلوماسية الرقمية:
في الوقت الذي يبدو فيه أن نظاماً دولياً جديداً في طور التكوين، فإن هناك مجال آخر لا يقل أهمية، يمكن ملاحظة آثار الصراع الروسي الأوكراني عليه بالفعل، حيث تغير الاقتصاد العالمي بشكلٍ كبير مع زيادة التركيز على نقاط ضعف سلسلة التوريد، مما أعاد إشعال الجدل مرة أخرى حول مخاطر الاعتماد بشكلٍ كبير على اقتصادات الآخرين. فعلى مدار عام 2022، تمكنت أوروبا من الانفصال تدريجياً عن موسكو، وإذا كان لا يمكن إنكار أن بُعد الأمن القومي قد أصبح أكثر بروزاً في رسم خرائط طرق سلاسل التوريد والتبعيات الاستراتيجية، لكن سيكون من التسرع التحدث عن تراجع العولمة.
ولإلقاء الضوء على هذه المسألة، يقيم ريم كورتيويغ التأثير الكلي للصراع الروسي الأوكراني في نظام التجارة العالمي، مستخلصاً سبعة دروس، لعل أبرزها هو رؤية العولمة كدرع واقٍ، حيث إن التنويع في مصادر الإمداد - وليس إعادة التوطين - هو الوسيلة لتقليل النفوذ الجيوسياسي الناتج عن الاعتماد المفرط على مصادر التوريد الفردية؛ وهو ما يعني المزيد من العولمة وليس تقليلها.
من جانب آخر، وعلى الرغم من أن الحروب يتم خوضها تقليدياً في ساحة المعركة، لكن لا ينبغي أن ننسى أن الإنترنت والمجال الرقمي يمثلان أرضية جديدة للحرب. ففي كثير من الأحيان، نسمع عن جيوش من اللجان الإلكترونية عبر الإنترنت تحاول نشر معلومات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتشكيل آراء وتوجهات المستخدمين، وهو ما أصبح ذا صلة خاصة بالصراع الروسي الأوكراني، الذي أُطلق عليه "حرب تيك توك الأولى في العالم".
في ضوء ذلك، أصبح فهم أحدث اتجاهات الدعاية والمواجهة الرقمية في غاية الأهمية. ومع ذلك، نظراً للكم الهائل من المعلومات، فضلاً عن التدفق المستمر للمحتوى الذي ينشئه المستخدمون، فإن تحديد حجم الدعاية عبر الإنترنت يمكن أن يكون صعباً للغاية، وهو ما حاول تقرير المعهد الإيطالي تناوله بطريقتين: أولاً، وصف الأسباب الكامنة وراء الدعاية على نطاق واسع؛ وثانياً، توضيح كيفية تغيير "الميمات" والمحتوى الرقمي للأشياء، إضافةً إلى الكثير من التفاصيل حول الدعاية الرقمية، مع تقديم تفسيرات نهائية عن سبب كونها واعدة وجذابة للعديد من الجهات الفاعلة.
ختاماً، يؤكد التقرير أن هناك إجماعاً على الرأي القائل إن الصراع الروسي الأوكراني أدى إلى تعميق التعددية القطبية، لكن من ناحية أخرى، يجب الحذر من القفز إلى الاستنتاجات لأن الصراع لا يزال مستعراً حتى وقت كتابة هذه السطور، ولا أحد يستطيع أن يتوقع متى سينتهي، ولا ماذا ستكون نتيجته. مع ذلك، مثلما هز نشوب الحرب في 24 فبراير 2022 العالم من جذوره، فإن نتائجها أيضاً قد تؤدي إلى تغيير عميق، وهو ما ينطبق على روسيا خاصةً، حيث يرتبط مستقبل روسيا ارتباطاً وثيقاً في الواقع بحملتها العسكرية: فإذا تسبب ذلك في كارثة لجيش موسكو، فقد تصبح روسيا مختلفة تماماً عن تلك التي نعرفها؛ وعلى العكس من ذلك، إذا تمكنت موسكو من إبقاء الأراضي التي تم الاستيلاء عليها تحت سيطرتها، فيمكنها تقديم ذلك على أنه انتصار على الغرب، مما يضيف مزيداً من الزخم إلى التعددية القطبية.
وثمة ضربة أخرى محتملة لصورة روسيا الدولية تأتي من الصعوبات التي تواجهها في ساحة المعركة، فقبل الصراع الروسي الأوكراني، كان يُنظر إلى الجيش الروسي على نطاق واسع على أنه قوة جبارة تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، لكن وبعد مرور عام على الصراع، أدى التقدم المتواضع لروسيا على الأرض والكم الهائل من الموارد التي أنفقت على الهجوم إلى تغيير هذا التصور.
المصدر:
Aldo Ferrari and Eleonora Tafuro Ambrosetti, Multipolarity After Ukraine: Old Wine in New Bottles?, ISPI, 2023.