تشهد ليبيا خلال الفترة الراهنة تزايداً في الانفلات الأمني في جميع أنحاء البلاد، حيث ينتشر المسلحون في طرابلس ومصراتة وبني غازي وفي مدن صحراوية بالجنوب. فبعد ثلاث سنوات على إنهاء حكم العقيد معمر القذافي وسقوط نظامه، لاتزال ليبيا تعيش أجواء حرب وصلت إلى قلب العاصمة، بعدما أطلقت ميليشيات مسلحة الصواريخ في أنحاء متفرقة منها، مما ترتب عليه نقل المؤسستين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (الحكومة الانتقالية) اجتماعاتهما من طرابلس إلى مدينة طبرق في أقصى شرق البلاد.
أولاً: مؤشرات تفاقم الأوضاع الأمنية مؤخراً
تفاقم الوضع في السابع عشر من شهر أغسطس الماضي بعد غلق مطار طرابلس بسبب الهجوم الذي شنته ميليشيات إسلامية، سعياً إلى طرد كتائب مناهضة للإسلاميين، وفي الثامن عشر من الشهر ذاته قامت مقاتلات مجهولة الهوية بقصف "قوات فجر ليبيا"، التي كانت تقاتل قوات من لواء القعقاع (قوات ضد معمر القذافي)، وكتيبة الصواعق (قوات شبة حكومية). واستمراراً للغموض دارت تكهنات عن تبعية هذه المقاتلات، ما بين من ألقى التبعية على القوات الجوية المصرية أو الجزائرية، بيد أنه صدر نفي صريح من الدولتين إزاء هذه الادعاءات، كما وُجهت اتهامات لقوات حلف الناتو ولدول أوروبية خاصة، وإن كانت كل من إيطاليا وفرنسا وإنجلترا قد نفت ذلك، وثمة اتجاه ثالث يشير بأصابع الاتهام إلى قوات جوية تابعة للحكومة وتحديداً الجيش الليبي، وأخيراً قوات حفتر التي تسربت أنباء عن مسؤوليتها بعد ذلك.
وكانت أنباء قد ترددت عن توصل الميليشيات المتصارعة من أجل السيطرة على مطار طرابلس الدولي في اليوم التالي إلى وقف لإطلاق النار، وتسليم قوة محايدة السيطرة على منشآته، حيث كانت تسيطر على المطار كتائب ثوار الزنتان (140 كم جنوب غرب طرابلس)، التي تعتبر الذراع المسلحة للتيار الليبرالي في ليبيا، وإن كان قد تم خرق وقف إطلاق النار ليشتعل الموقف مباشرة في طرابلس وبني غازي.
وفي شرق البلاد، ظهرت قوات اللواء متقاعد في الجيش الليبي "خليفة حفتر"، والتي انضمت إليها عدة كتائب ولواءات وقبائل وقيادات من المؤسسات الرسمية، أبرزها الدفاع الجوي الليبي والداخلية الليبية، كما تؤيده جبهات خارجية عديدة على أساس ظهور قوة عسكرية باسم الدولة الليبية ورفض فكرة الميليشيات بالأساس، وهو ما يتفق مع وجهة نظر إبعاد القوات والعناصر الإسلامية عن حكم ليبيا.
وفي الثامن عشر من أغسطس الماضي شهدت بني غازي اشتباكات بين قوات الصاعقة التابعة للواء "حفتر" وتشكيلات مسلحة تابعة لـ"مجلس شورى ثوار بني غازي"، حيث تمكن تحالف من المتشددين الإسلاميين ومقاتلي المعارضة السابقين من طرد الجيش من بعض أجزاء المدينة، واستمرت الاشتباكات حتى تمكنت قوات "حفتر" في 21 أغسطس من تحقيق نجاحات في قتالها مع قوات "مجلس شورى ثوار بني غازي" – الذي ينضوي تحته "تنظيم أنصار الشريعة" و"درع ليبيا" وكتيبتا "السحاني" و"شهداء 17 فبراير" - واستعادة عدة مواقع فقدتها في السابق.
وثمة توقعات بأن تشهد العاصمة الليبية معركة كبيرة بين الميليشيات المتناحرة التي تخوض منذ 13 يوليو الماضي صراعاً بمختلف أنواع الصواريخ والأسلحة الثقيلة والمتوسطة حول منطقة مطار طرابلس وتحولت إلى ساحة حرب حقيقية؛ مما أدى إلى مقتل وجرح المئات وتهجير ما يزيد على 100 ألف من السكان بالمناطق القريبة من منطقة الاشتباكات.
ثانياً: خريطة الميليشيات والكتائب المسلحة
تشير التقديرات إلى أنه منذ الثورة الليبية تشكلت أكثر من 1700 تنظيم وميليشيا مسلحة في ليبيا، وهو ما يصعب حصره بدقة، إلا أنها تندرج في مجملها ضمن التقسيم التالي:
1- اللواءات الثورية، وهي تمتلك خبرة قتالية كبيرة كأفراد، والأهم كوحدات مقاتلة، ومنها التي ظهرت في مصراتة وزنتان وبني غازي، ويقدر عددها بنحو 236 كتيبة ثوار.
2- اللواءات غير المنظمة، وهي كتائب ثورية انفصلت عن سلطة المجالس العسكرية المحلية، ومنها ما لا يقل عن (6 إلى 9) كتائب غير منظمة في مصراتة وحدها. وقد خضعت هذه الكتائب لعمليات تكوين مشابهة لتلك الخاصة بالكتائب الثورية، وهذا ما أكسبها بنية تنظيمية متماسكة.
3- لواءات ما بعد الثورة، وقد ظهرت لملء الفراغ الأمني الذي خلفته هزيمة قوات القذافي، وشاع ظهور هذه الكتائب في الأحياء الموالية للحكومة أو الموالية للقذافي مثل بني الوليد وسرت، كما ظهرت أيضاً في مدن وبلدان أخرى.
ومن الجماعات التي تشكل أذرعاً لجماعة الإخوان المسلمين:
1- جماعة أنصار الشريعة، وشاركت في الهجوم على القنصلية الأمريكية في مدينة بني غازي، ولها أذرع في كل من بني غازي وسرت وأجدابيا.
2- الجماعة الإسلامية المقاتلة، وتنتشر ميليشياتها في طرابلس ودرنا بعد سقوط القذافي.
3- درع ليبيا، وتنتشر في غرب وشرق طرابلس، ومصراتة في الشرق، والزاوية في الغرب، وتتبعها "غرفة عمليات ثوار ليبيا".
4- كتائب عمر عبدالرحمن، وقامت بهجوم على اللجنة الدولية للصليب الأحمر والقنصلية الأمريكية وموكب السفير البريطاني.
5- ميليشيات الزنتان، وهي تابعة لبلدة الزنتان، جنوب غرب العاصمة الليبية طرابلس بنحو 140 كم.
6- السلفية الجهادية، وهي تحالف الإخوان مع مقاتلين تابعين للسلفية الجهادية ومؤيدين لإقامة نظام فيدرالي في برقة.
ثالثاً: القوى المتصارعة ميدانياً
شهدت ليبيا استقطاباً حاداً على خلفية عملية "كرامة ليبيا" العسكرية التي أعلنها اللواء متقاعد خليفة حفتر، واستهدفت جماعات إسلامية متشددة، ثم تطورت لتستهدف المؤتمر العام الذي هيمن عليه الإسلاميون. ولا شك أن الصراع بين التيار المدني والتيار الإسلامي يحتل جزءاً من هذا الاستقطاب، إلا انه ليس الوحيد، إذ تدخل عوامل أخرى منها اعتبارات قبلية ومناطقية.
ويمكن وضع خريطة ميدانية للصراعات، كالتالي:
1- في الشرق: هناك ثلاثة أطراف للصراع في بني غازي ودرنة، وهي:
أ- قوات حفتر، وتضم ضباطاً سابقين وجدوا أنفسهم متهمين من قبل الثوار، ورفضت رئاسة الأركان العامة للجيش ضمهم ودمجهم في الجيش الليبي، وأصبحوا هدفاً للجماعات المتطرفة بحجة أنهم من "أزلام النظام السابق"، ومعهم (كتيبة حسن الجويفي في برقة الحمراء، وهي كبرى الكتائب في الشرق، وكتيبة أولياء الدم، والقبائل الكبرى في الشرق الليبي التي استطاع حفتر التنسيق معها وضمها إلى صفوفه).
ب- القوى المتشددة، وتضم "تنظيم أنصار الشريعة الإسلامية"، والذي تعتبره الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، و"كتيبة شهداء 17 فبراير"، و"كتيبة راف الله السحاني"، وجيش الشورى الإسلامي" في درنة.
ج – القوات الحكومية مثل قوات الشرطة وقوات الصاعقة وقوات الجيش الشرعية.
2- في مصراتة: توجد بها "قوة درع ليبيا"، وتنقسم إلى ثلاثة لواءات رئيسية في شرق ووسط وغرب ليبيا.
3- في الغرب: توجد التشكيلات المسلحة المحسوبة على "الزنتان"، مثل "كتيبة القعقاع" و"كتيبة الصواعق" و"لواء المدني"، وهي تؤيد اللواء "حفتر". ومن الناحية الأخرى ترفض "غرفة عمليات ثوار ليبيا" المقربة من الإخوان، وفصائل "درع ليبيا" مبادرة "حفتر" وتدعم الإسلاميين. وهكذا تبدو الأمور في الغرب معقدة بسبب الصراع القبلي، وانتشار الأسلحة.
رابعاً- تداعيات الأوضاع المتردية في ليبيا
ثمة تداعيات عديدة في مختلف النواحي السياسية، والاقتصادية، والأمنية، يمكن الإشارة إليها مع تردي الأوضاع في ليبيا:
1- سياسياً: هناك تفكك سياسي وانهيار لمؤسسات الدولة وخلافات بين السلطة التنفيذية والتشريعية، حيث يحاول رئيس المؤتمر الوطني التدخل في عمل الحكومة، ويتمثل ذلك في:
أ– عدم نجاح الحكومة في تقديم حلول نافذة لاحتواء مشكلة الميليشيات بصفة عامة، وتحديداً عدم القدرة على نزع أسلحتها، ودخول تنظيمات متطرفة على الخط، بما يزيد من تعقيد الوضع. ويعكس الإصرار على حمل السلاح انعدام الثقة بين مختلف تشكيلات المعارضة الليبية وعدم توافق حول خطة ما بعد سقوط القذافي، مما يعني غياب القيادة في ليبيا.
ب– تحالف الكتائب المدججة بالسلاح مع فصائل سياسية متنافسة، وهي غالباً ما تبدي ولاء لمناطقها أو مدنها أو للقادة العسكريين المحليين أكثر من ولائها للحكومة المركزية، مما يزيد التنافر داخل الدولة.
ج– إن البرلمان الجديد أغلبيته معارضة للإخوان المسلمين الذين يرفضون التسليم بهزيمتهم.
2- اقتصادياً: هناك شبه توقف في المنشآت الاقتصادية خاصةً البترولية بعد توقف شحن صادرات البترول في بعض المواقع، وسيطرة ميليشيات على الموانئ لأكثر من عام.
3- أمنياً: ينتشر السلاح في ليبيا، ففي مصراتة وحدها على سبيل المثال تسيطر الكتائب على أكثر من 820 دبابة وأكثر من 2300 سيارة مجهزة بأسلحة ثقيلة.
خامساً: مستقبل الصراع
في إطار هذه الأوضاع والصراعات التي تشهدها ليبيا، يُعتقد أن التنسيق بين الحكومة المؤقتة مع قوات "حفتر" وتوسيع تحالفاتها مع القوى الثورية الرافضة للتيار الإسلامي، هي الأقدر على قيادة البلاد في الفترة القادمة، خاصةً أن هذه القوات تلقت دعماً من دول عربية رئيسية في الوقت الحالي، مع أهمية اتخاذ الخطوات التالية:
1- السعي إلى تحقيق وقف حقيقي لإطلاق النيران داخل البلاد.
2- انسحاب الجماعات المسلحة وحلفائها من طرابلس، وعودة الإدارة للبلاد من العاصمة.
3- إجراء حوار حقيقي، على أن يشمل مشاركة كافة مناطق وعناصر الصراعات المختلفة في البلاد.
4- سيطرة الحكومة على المطارات بمساعدة الأمم المتحدة.
5- بدء تحقيق الأمن والإصلاح الاقتصادي تدريجياً في البلاد.