شهدت الفترة الأخيرة تزايد الحديث عن إمكانية إحياء الاتفاق النووي المُوقع بين إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، عام 2015. وفي هذا السياق، أكد سفير إيران ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، سعيد إيرواني، في 9 يوليو 2023، أن طهران مُستعدة لاستئناف المفاوضات في أقرب فرصة مُمكنة لاستعادة خطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي)، وضمان تنفيذها بالكامل من قبل الجميع.
ويتزامن ذلك مع تجدد حديث المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، عن "المرونة البطولية"؛ وهو مصطلح كان قد استخدمه أيضاً قبيل توقيع الاتفاق النووي المؤقت بين إيران ومجموعة (5+1)، عام 2013، عندما أكد حينها أن "المرونة البطولية أمر ضروري ومفيد في ظروف معينة"، وهو ما أفضى في النهاية إلى التوصل لاتفاق عام 2015. وقد كرر خامنئي استخدام المفهوم عند استقباله وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، وكبار مديري وسفراء الوزارة، في 20 مايو 2023، بما يشير إلى إمكانية تكرار سيناريو ما حدث عام 2013.
دوافع ضاغطة:
ثمّة عوامل دفعت إيران لقبول الانخراط مجدداً في مباحثات حول برنامجها النووي، وذلك بعد توقفها في أغسطس 2022، ومن أبرز تلك العوامل ما يلي:
1- الضغوط الاقتصادية بسبب العقوبات: أدت العقوبات التي تم فرضها على القطاعات الرئيسية للاقتصاد الإيراني، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي، في مايو 2018، إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية في إيران. فقد ارتفعت مستويات التضخم والبطالة وتراجع النمو إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، كما تراجعت معدلات التصدير والاستثمار، بسبب تخوف الأطراف الخارجية من أن يؤدي التعامل مع إيران إلى وقوعها تحت مقصلة العقوبات الأمريكية.
هذا إلى جانب أن محاولات طهران للالتفاف على هذه العقوبات، بتعزيز علاقاتها مع قوى دولية مثل روسيا والصين، أو تكتلات إقليمية ودولية، مثل منظمة "شانغهاي" أو تحالف "بريكس"، في إطار ما يُسمى بسياسة "الاتجاه شرقاً"، والتي رفعت شعارها الحكومة الإيرانية الحالية؛ لم تكن على مستوى الطموحات الإيرانية. فمن جهة، ما زالت العديد من الاقتصادات في دول أخرى ترتبط بالاقتصاد الأمريكي والدولار، وهو ما يعرضها للمخاطرة في حال تعاملت اقتصادياً مع إيران. ومن جهة أخرى، فإن المشكلات المتعلقة بالاقتصاد الإيراني تعوق الاندماج مع غيره، ومن ضمن تلك المشكلات رفض طهران الموافقة على شروط مجموعة العمل الدولية المتعلقة بمكافحة عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب "فاتف"، فضلاً عن تراجع البنية التحتية في إيران، الأمر الذي يجعلها تفتقر إلى أن تكون ممراً جاذباً، رغم موقعها الجغرافي الاستراتيجي.
وعليه، فقد وجدت إيران أنه لا بديل لإنعاش اقتصادها ودخول الاستثمارات إليها إلا من خلال إحياء الاتفاق النووي مع الغرب.
2- تخوف طهران من تفعيل آلية "سناب باك": تتحسب إيران من إمكانية إعادة فرض العقوبات الأممية، التي كانت مفروضة عليها قبل توقيع الاتفاق النووي في 2015، وذلك في ضوء استمرار انتهاكاتها لبنود الاتفاق المُشار إليه. إذ نصّ القرار الأممي رقم 2231، والخاص بالاتفاق النووي مع إيران، أنه في حال رأى أي طرف من أطراف الاتفاق أن إيران أخلت بأحد بنوده، فإنه يجوز لها تفعيل العقوبات ضد طهران.
وجدير بالذكر أن الأطراف الأوروبية لم تُفعل بعد تلك الآلية، لذا تسعى إيران إلى تجنب ذلك، من خلال الدخول في مباحثات حول برنامجها النووي مرة أخرى.
3- دفع جهود عودة وتحسين العلاقات مع دول المنطقة: لا ينفصل سعي إيران إلى الانفتاح على دول المنطقة مع استئناف المفاوضات مع الغرب، إذ توظف طهران التباحث حول برنامجها النووي في إيصال رسائل طمأنة إلى دول المنطقة، والتي ما زالت تُبدي مخاوفها تجاه تصعيد إيران النووي، وقد طالبت، في أكثر من مرة، بإشراكها في المباحثات الخاصة بهذا الشأن، وكان آخرها، مطالبة وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، في اجتماعهم الذي انعقد في 11 يونيو 2023، إلا أن هذه المطالب كانت تواجه برفض إيراني.
وللتقليل من وقع ذلك على مساعي تحسين العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة، فقد حرصت طهران على أن تطلع دول الخليج على تفاصيل مباحثاتها مع الأطراف الغربية، وقد تجلى ذلك في قيام وزير الخارجية الإيراني بجولة خليجية شملت أربع دول هي قطر وعُمان والكويت والإمارات، وذلك خلال الفترة من 19 حتى 22 يونيو الماضي.
4- تعزيز شرعية النظام الإيراني داخلياً: يسعى النظام الإيراني إلى معالجة الشرخ الذي تعرض له، خلال الفترة الأخيرة، والذي تمثل في الاحتجاجات التي اندلعت نتيجة وفاة الشابة مهسا أميني، في منتصف سبتمبر 2022، من خلال تحقيق إنجاز على المستوى الخارجي، مثل التوصل إلى اتفاق مع الغرب.
مُؤشرات عديدة:
شهدت الفترة الأخيرة عدة دلائل ومؤشرات على استئناف المباحثات بين إيران والأطراف الأمريكية والأوروبية، يمكن الوقوف على أبرزها على النحو التالي:
1- قبول خامنئي توقيع اتفاق مع الغرب: أبدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، في 11 يونيو الماضي، موافقته على إبرام اتفاق مع الغرب حول برنامج بلاده النووي، مؤكداً أن طهران لا تسعى لإنتاج سلاح نووي؛ لأن ذلك يتنافى مع مبادئ الجمهورية الإسلامية. وقد فُسرت هذه الموافقة بأنها ضوء أخضر من جانب خامنئي لمُضي الحكومة الإيرانية قُدماً في مسار المفاوضات وتوقيع اتفاق مع الغرب. وقد أعقب ذلك تأكيد وزارة الخارجية الإيرانية أن طهران لم تترك طاولة التفاوض أبداً، وأنها أبدت دائماً الاستعداد له.
2- تعاون إيراني محدود مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية: أبدت طهران، خلال مايو الماضي، تجاوباً جزئياً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذ توصلت إلى تفاهم مع الوكالة بشأن التحقيق حول وجود يورانيوم مخصب في أحد المواقع الثلاثة التي فتحت الوكالة بشأنها تحقيقاً في عام 2018؛ وهو موقع مريوان (آباده)، وقد كان رفض إيران التجاوب مع الوكالة بشأن هذا التحقيق إحدى العقبات التي أدت إلى توقف المباحثات السابقة بين الجانبين في أغسطس الماضي. هذا إلى جانب موافقة طهران على تركيب بعض معدات المراقبة في مواقع نووية، كانت قد أزالتها العام الماضي من تلك المواقع. وقد أسهمت تلك الإجراءات في منع استصدار قرار بإدانة إيران في مجلس محافظي الوكالة، خلال اجتماع يونيو الماضي.
3- زيارة سلطان عُمان طهران: جاءت زيارة سلطان عُمان، السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، إيران، في 28 إبريل الماضي، في سياق أداء مسقط دور الوساطة في التقريب بين إيران والولايات المتحدة، من خلال نقل الرسائل بين الجانبين. وتُذكر هذه الزيارة بتلك التي أجراها سلطان عُمان الراحل قابوس بن سعيد، في عام 2013، إلى إيران، والتي ربما مهّدت الطريق حينها أمام توقيع اتفاق 2015.
4- مباحثات مُباشرة وغير مُباشرة مع واشنطن: أشارت تقارير غربية إلى لقاءات جمعت المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، في نيويورك، مع مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة، سعيد إيرواني، عدة مرات، خلال الأيام الأخيرة، في أول اتصال مُباشر بين الجانبين منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في 2018.
بالإضافة إلى المباحثات غير المباشرة التي تجرى بين الجانبين في العاصمة العُمانية مسقط، حيث يقود الوفد الأمريكي كبير مستشاري الرئيس الأمريكي، بريت ماكغورك، في حين يقود الوفد الإيراني نائب وزير الخارجية الإيراني وكبير المفاوضين النوويين، علي باقري كني. وبالرغم من أن تلك المباحثات ركزت على تبادل المحتجزين بين الجانبين، فإن ذلك من شأنه تهيئة الأجواء للمُضي قُدماً في المحادثات النووية.
وفي هذا السياق، أشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أخيراً إلى أن المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين يتفاوضون من أجل التوصل لتفاهم محدود، غير رسمي وغير مكتوب، يتم بموجبه توقف طهران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 60%، وأن تفرج إيران عن السجناء الأمريكيين لديها، إلى جانب حث مليشياتها على التوقف عن استهداف القوات الأمريكية في سوريا والعراق، ومهاجمة السفن والناقلات في مياه الخليج، وأن تتوقف عن دعم روسيا بالأسلحة؛ في مقابل تعهد الولايات المتحدة بأن ترفع جزءاً من العقوبات المفروضة على إيران، وأن تفرج عن أموالها المحتجزة بالخارج، وهو ما حدث بالفعل بعد سماح واشنطن بالإفراج عما قيمته حوالي 3 مليارات دولار، ديون مستحقة لإيران لدى العراق، في خطوة من شأنها تشجيع الطرف الإيراني على تقديم تنازلات خلال المفاوضات، بما يسمح بالتوصل لاتفاق حول البرنامج النووي.
5- مباحثات مُباشرة مع الأطراف الأوروبية: أجرى المسؤولون الإيرانيون مباحثات مباشرة مع نظرائهم الأوروبيين، خلال الفترة الماضية، للتباحث حول برنامج إيران النووي. وقد تجلى ذلك في المشاورات التي أجراها باقري كني، في 13 يونيو الماضي، مع نظرائه في "الترويكا" الأوروبية في المفاوضات (بريطانيا وألمانيا وفرنسا)، في أبوظبي، بشأن تنشيط المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وهي المشاورات التي جاءت بعد أيام من اتصال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بنظيره الإيراني، إبراهيم رئيسي، وتأكيده أن باريس وشركاءها الأوروبيين يرغبون في إيجاد حل دبلوماسي لتلك القضية.
هذا فضلاً عن اللقاء الذي جمع كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بالمنسق الأوروبي للمباحثات النووية، أنريكي مورا، في الدوحة، يوم 21 يونيو الماضي، والذي بحث فيه الجانبان إحياء المفاوضات النووية المتعثرة.
عقبات قائمة:
على الرغم من تعدد المؤشرات التي تُدلل على إمكانية اتجاه الجانبين الإيراني والغربي إلى التوصل إلى اتفاق، أياً كان مضمونه أو مداه الزمني، فإن هناك عقبات عديدة ما زالت تقف حائلاً أمام ذلك، ويمكن استعراضها على النحو التالي:
1- استمرار تصعيد إيران النووي والصاروخي: بالرغم من انخراط طهران في المباحثات مع واشنطن والغرب، فإن ذلك لم يمنعها من مواصلة تصعيدها في برنامجيها النووي والصاروخي البالستي، إذ كشف التقرير الأخير لوكالة الطاقة الذرية، الصادر في يونيو الماضي، أن مخزون إيران من اليورانيوم المُخصب ارتفع بمقدار 23 مرة عن المنصوص عليه في اتفاق 2015، بحيث وصل إلى 4774.5 كيلوغرام، كما زاد مخزونها من اليورانيوم المُخصب بنسبة 60% إلى 114 كيلوغراماً، وهي الكمية التي يمكنها صناعة ثلاث قنابل نووية إذا ما تم رفع تخصيبها إلى 90%، وهذا الأمر لا يحتاج إلا إلى أسابيع، وفق تقديرات أمريكية. في حين أن الاتفاق قد حظر على إيران إنتاج يورانيوم مُخصب بنسبة أكثر من 3.67%. كما أشارت تقارير استخبارية غربية، نشرت في 9 يوليو الجاري، إلى أن إيران تتجه نحو اختبار مُحتمل للقنبلة النووية، في وقت قريب.
وفيما يتعلق بالتصعيد الصاروخي، فقد أعلن الحرس الثوري الإيراني، في 6 يونيو الماضي، عن إنتاج أول صاروخ فرط صوتي أطلق عليه اسم "فتّاح"، بمدى مُعلن يبلغ 1400 كيلومتر، وكشفت وزارة الدفاع الإيرانية عن إنتاج الجيل الرابع من الصاروخ البالستي "خرمشهر"، باسم "خيبر"، بمدى يصل إلى ألفي كيلومتر. ويقف هذا التصعيد حائلاً أمام مساعي إحياء الاتفاق النووي، إذ سيصعب من مهمة التخلص من التراكم الكمي والمعرفي من المخزونات النووية والصاروخية لدى طهران.
2- إبقاء أوروبا العقوبات على برنامج طهران الصاروخي: أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية، في تقرير لها نُشر يوم 2 يوليو الجاري، إلى أن مسؤولي "الترويكا" الأوروبية في المفاوضات النووية مع طهران، أبلغوا نظراءهم الإيرانيين، أن بلدانهم تنوي الإبقاء على العقوبات المفروضة على برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية، والتي كان من المُقرر أن تنتهي في أكتوبر 2023، بموجب الاتفاق المُوقع في 2015؛ على أساس أن طهران قد انتهكت بنود الاتفاق المُشار إليه. ويُعد هذا الإجراء، حال تنفيذه، أول خرق أوروبي لبنود الاتفاق مع إيران، ليكون بذلك الموقف الأوروبي متطابقاً مع نظيره الأمريكي في هذا الأمر.
ويأتي هذا الموقف من جانب "الترويكا" الأوروبية على خلفية إمداد إيران لروسيا بالطائرات المُسيّرة من طراز "شاهد 136" في الحرب ضد أوكرانيا، واستعدادها لتزويدها بصواريخ. ويعني ذلك الأمر أنه حتى في حال تم التوصل إلى اتفاق مع إيران، فإن العقوبات على برنامجها الصاروخي ستظل سارية، وهو أمر من المرجح أن ترفضه طهران، التي تطالب برفع العقوبات عنها كافة (النووية والصاروخية والمتعلقة بحقوق الإنسان) من أجل العودة للاتفاق.
3- ممانعة إسرائيل توقيع الاتفاق بين إيران والغرب: أعلنت إسرائيل أنها غير مُلزمة بأي اتفاق قد يُوقع بين طهران والغرب، وأنها ستفعل كل ما في وسعها من أجل الدفاع عن نفسها، فيما يؤشر إلى إمكانية توجيهها ضربات للمنشآت النووية الإيرانية. وبغض النظر عن تقييم مدى جدية التهديدات الإسرائيلية لإيران، وذلك في ضوء افتقار تل أبيب ربما للقدرات الفنية اللازمة لضرب تلك المنشآت والتي صارت على أعماق بعيدة تحت الأرض من ناحية، فضلاً عن قدرتها على تحمل التكلفة الأمنية والسياسية لذلك؛ فإن موقف إسرائيل من شأنه أن يضغط على الإدارة الأمريكية بما يحد من تجاوبها مع المطالب الإيرانية خلال المفاوضات مع إيران، وربما يكون تجميد عمل المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، والمعروف عنه أنه من أشد المؤيدين لتوقيع اتفاق مع طهران، أولى ثمار الضغط الإسرائيلي على البيت الأبيض في هذا الشأن.
وفي الختام، يمكن القول إن قبول إيران باستئناف المفاوضات حول برنامجها النووي، هو تطبيق لسياسة "حافة الهاوية"، التي اعتادت تبنيها مع الغرب، خاصة إذا ما أدركت أن الأمور سوف تتجه إلى ما لا يمكن تحمل تكلفته. وقد تقبل كل من واشنطن وطهران باتفاق مؤقت يحقق مصلحة الأولى في الحد من تصعيد إيران النووي، دون الدخول في مواجهة مباشرة معها، وتجني الثانية بعض ثماره بما ينعش اقتصادها المأزوم. بيد أن هذا الأمر لن يتحقق بسهولة، في ضوء حرص الجانبين على الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من أوراق الضغط، التي تُعظم مكاسب أحدهما في الاتفاق المُحتمل، وتجعله يقدم أقل قدر ممكن من التنازلات.