منذ بداية أزمة الصراع المسلح في السودان، منتصف نيسان (أبريل) الماضي، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية سلاح العقوبات، ضد طرفي الصراع، خاصة مع تعثر المفاوضات مراراً وفشل كافة الجهود الدبلوماسية على المستوى الدولي والإقليمي في احتوائها أو تمرير اتفاق مؤقت.
وفي آخر التطورات، أعلنت أمريكا في الأول من حزيران (يونيو) الجاري فرض عقوبات اقتصادية وقيود على التأشيرات على الأطراف المتصارعة في السودان، في إجراء قرأه مراقبون بأنّه بداية لإعادة وضع السودان على قوائم الإرهاب أو وقف التعاملات الاقتصادية والسياسية معه، بينما اعتبره آخرون مجرّد إجراء محدود الفاعلية في ضوء الأزمة المحتدمة.
وقال مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جاك سوليفان في بيان الخميس الماضي: إنّ أعمال العنف في هذا البلد تشكل "مأساة ينبغي أن تتوقف"، من دون أن يدلي بتفاصيل إضافية عن العقوبات.
ومن جهته، أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في بيان منفصل إلى إجراءات اتخذت "رداً على عدم وفاء الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بالتزاماتهما"، مندداً خصوصاً بـ"أعمال نهب وهجمات على منازل وبنى تحتية مدنية وقصف جوي ومدفعي وإعاقة وصول المساعدة الإنسانية"، وفق "دويتش فيله".
عقوبات اقتصادية
في سياق متصل، تحدثت مصادر لـ "رويترز" ليل الخميس عن فرض عقوبات اقتصادية فرضت على شركات اتهمتها الولايات المتحدة بإذكاء الصراع في السودان، وصعدت الضغط على الجيش وقوات الدعم السريع لوقف القتال الدائر في الخرطوم ومناطق أخرى.
وقالت وزارة الخزانة الأمريكية: إنّها استهدفت شركتين مرتبطتين بالجيش السوداني وشركتين مرتبطتين بقوات الدعم السريع إحداهما تعمل في تعدين الذهب.
جاك سوليفان: أعمال العنف في هذا البلد تشكل "مأساة ينبغي أن تتوقف"
جاك سوليفان: أعمال العنف في هذا البلد تشكل "مأساة ينبغي أن تتوقف"
وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية تحدث إلى الصحفيين مشترطاً عدم نشر اسمه: "لن نتردد في اتخاذ خطوات إضافية إذا استمر الطرفان في تدمير بلدهما".
وأضاف المسؤول أنّ "استهداف الشركات ليس رمزياً على الإطلاق"، وقال: إنّ الإجراءات تستهدف منع حصول الطرفين على الأسلحة والموارد التي تسمح لهما بإدامة الصراع.
تمهيد لإجراءات أثقل
تعليقاً على العقوبات، قال الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: إنّ "فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على مجموعة من الشركات التابعة للجيش السوداني والدعم السريع لن يثني طرفي الصراع في السودان عن التوقف عن القتال، وهناك توقعات بأنّه ربما تمضي الأمور عكس ذلك، بحسب موقع (فيتو).
طارق فهمي: فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على مجموعة من الشركات التابعة للجيش السودانى والدعم السريع لن يثني طرفي الصراع في السودان عن التوقف عن القتال، بل هناك توقعات بأنّه ربما تمضي الأمور عكس ذلك
وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أنّ تحديد طبيعة المفاوضات والإشكالية الرئيسية مرتبطة بما تقترحه الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت العقوبات كخطوة أولى لنقل رسالة بأنّ التهديدات بها نوع من الجبرية، والأمر الآخر مرتبط بما يمكن أن يؤدي إلى استمرار العمليات العسكرية، خاصة أنّ قوات الدعم السريع مصرة على الاستمرار في المشهد، وبالتالي القضية ليست في عملية التغييرات، وإنّما لها ارتباط بالضغط الأمريكي بالهدن الإنسانية وتحويلها إلى هدن أمنية وعسكرية.
وبحسب فهمي، تمتلك الإدارة الأمريكية المزيد من الإجراءات العقابية؛ ومنها احتمالية إعادة السودان إلى قائمة الإرهاب، وبالتالي زيارة بلينكن سيكون لها تبعات خطيرة على كلٍّ من الجيش السوداني والدعم السريع.
وسيلة ضغط
من جانبه، أوضح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية سامويل وربيرج أنّ الولايات المتحدة لا تريد فرض عقوبات على السودان، إذ إنّه ليس هدفاً في حدّ ذاته، بل وسيلة ضغط، من أجل إرسال رسائل واضحة للقوى المتصارعة، مشيراً إلى أنّه ما يزال السفير الأمريكي، ومعه الفريق الدبلوماسي في جدة، يواصلان التنسيق للتواصل مع الأطراف السودانية، وحثهم على العودة إلى طاولة المفاوضات، وفق تصريحات لقناة (القاهرة الإخبارية).
وأكد وربيرج أنّ الأطراف السودانية عليها الالتزام بالتعهدات، وما جرى التوصل إليه على مدار الأسابيع الماضية، قائلاً: "نحث قوى السودان على العودة إلى المفوضات والالتزام بالتعهدات منذ أسابيع مضت".
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة فرضت بالفعل عقوبات، لكنّها لن تنهي الأزمة في السودان، فعلى الأطراف السودانية أن تتفق على وقف إطلاق النار، مع مراعاة تنفيذ الالتزامات من الجانبين، سواء الدعم السريع أو الجيش السوداني
وأشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية إلى أنّ الولايات المتحدة فرضت بالفعل عقوبات، لكنّها لن تنهي الأزمة في السودان، ولا بدّ للأطراف السودانية أن تتفق على وقف إطلاق النار، مع مراعاه تنفيذ الالتزامات من الجانبين، سواء الدعم السريع أو الجيش السوداني.
تاريخ من العقوبات... هل كانت ذات فاعلية؟
إجابة عن هذا السؤال استعرضت دراسة حديثة صادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، للباحث رامز إبراهيم، تاريخ العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على السودان في أزمات سابقة، وكيف تركت آثاراً كبيرة، خاصة على الأمن والاقتصاد.
سامويل وربيرج: العقوبات ليست هدفاً في حدّ ذاتها بل وسيلة ضغط
وذكرت الدراسة أنّ بداية العقوبات الأمريكية على السودان كانت بقرار وزارة الخارجية الأمريكية الصادر في آب (أغسطس) 1993، بإدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقد أعقب هذا القرار أمر تنفيذي أصدره الرئيس السابق بيل كلينتون بتجميد الأصول المالية السودانية في البنوك الأمريكية، وحظر تصدير التكنولوجيا الأمريكية إليه، وإلزام الشركات الأمريكية بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان.
وفي عام 2002، صدر قانون "سلام السودان" الذي ربط رفع العقوبات على البلاد بالتقدم في المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السوان.
كما فرض الكونغرس في عام 2006 عقوبات ضد المتهمين بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، وفي العام نفسه أصدر الرئيس السابق بوش الابن قراراً بالحجز على أموال (133) شركة وشخصية سودانية.
السجل المتواضع للعقوبات الدولية عموماً في إحداث تغيير جذري في سلوك الدول، فضلاً عن وجود قوى كبرى تتطلع إلى أداء دور أكبر في السودان، يجعل استنتاج ألّا تؤدي هذه العقوبات إلى إنهاء الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أقرب إلى الصحة
وتشير الدراسة إلى أنّ تلك العقوبات تسببت، بحسب تصريحات العديد من المسؤولين السودانيين، بإلحاق خسائر كبيرة بالاقتصاد السوادني، بسبب عدم رغبة الشركات الأجنبية الكبرى في الاستثمار داخل السودان، وحرمانه من الحصول على مساعدات غير إنسانية، ومنع معظم المعاملات التجارية مع واشنطن، وتوقف بعض المصانع بشكل كامل بسبب عجزها عن استيراد المواد الخام، وحرمان السودان من استيراد التكنولوجيا الغربية.
ويوضح الباحث أنّ عام 2017 شهد انفراجة في العلاقات الأمريكية السودانية، سمحت برفع جزئي للعقوبات، إلّا أنّ مجلس الأمن مدد العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم لمدة عام واحد في آذار (مارس) 2023، في ظل امتناع روسيا والصين عن التصويت.
كيف تؤثر العقوبات الأخيرة على الصراع الراهن؟
يرى الباحث أنّ قرارات الإدارة الأمريكية التي جاءت تزامناً مع الأزمة الأخيرة، بفرض عقوبات على بعض الأشخاص الذين يهددون استقرار السودان، تأتي في إطار الانحياز لنموذج "العقوبات الانتقائية"، بعد أن فُرضت على السودان في الماضي سلسلة متتالية من "العقوبات الشاملة".
ويؤكد أنّه "يصعب التنبؤ في الوقت الحالي بتبعات ذلك القرار الأمريكي، في ضوء حداثته وعدم اتضاح الأشخاص المُستهدَفين به، لكنّ السجل المتواضع للعقوبات الدولية عموماً في إحداث تغيير جذري في سلوك الدول، فضلاً عن وجود قوى كبرى تتطلع إلى أداء دور أكبر في السودان، مثل الصين وروسيا، يجعل استنتاج ألّا تؤدي هذه العقوبات إلى إنهاء الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أقرب إلى الصحة، ممّا يوضح الحاجة إلى وجود حلول خلاقة لمعالجة جذور الصراع الداخلي في السودان."