أجرى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس أبو مازن، في الفترة من 13 إلى 16 يونيو 2023، زيارة إلى العاصمة الصينية بكين، التقى خلالها الرئيس الصيني شي جين بينغ. وقد بحثا، خلالها، تعزيز العلاقات الثنائية وتبادل الرؤى بشأن آخر مستجدات القضية الفلسطينية، والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المُشترك، كما التقى عباس بعدد من كبار المسؤولين الصينيين.
أبعاد الزيارة:
ناقش أبو مازن مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عدداً من الملفات، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- ترسيخ الشراكة الاستراتيجية: أعلن الرئيس شي، عن إقامة شراكة استراتيجية بين الصين وفلسطين، مضيفاً أن "الصين وفلسطين صديقان وشريكان يثق ويدعم بعضهما بعضاً". وفي هذا السياق، تم توقيع 6 اتفاقيات لتعزيز التعاون بين البلدين، في المجالات الاقتصادية والفنية وتبادل الأفراد والتعاون التعليمي وغيرها، إلى جانب الاتفاق على المضي قدماً في تعزيز آفاق التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق، وتفعيل دور آلية اللجنة الاقتصادية والتجارية المشتركة بين البلدين، وإحراز تقدم بالمفاوضات بشأن منطقة التجارة الحرة بين البلدين.
2- مبادرة صينية للسلام: طرح الرئيس الصيني رؤية بكين لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي استندت إلى 3 نقاط: أولها؛ إقامة دولة فلسطينية مُستقلة ذات سيادة كاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وثانيها؛ ضمان احتياجات فلسطين اقتصادياً ومعيشياً، وزيادة المساعدات الإنمائية والإنسانية لها، وثالثها؛ الالتزام بالاتجاه الصحيح المتمثل في مفاوضات السلام، عبر احترام الوضع التاريخي الراهن للأماكن المقدسة في القدس، وتجنب الأقوال والأفعال الاستفزازية من جانب كل طرف، وعقد مؤتمر سلام دولي واسع النطاق وأكثر موثوقية وتأثيراً من أجل تهيئة الظروف لاستئناف محادثات السلام والإسهام بجهود ملموسة لمساعدة فلسطين وإسرائيل على العيش بسلام.
ويلاحظ أن صيغة السلام الصينية تحقق آمال الفلسطينيين، خاصة وأنها تغاير رؤية واشنطن، والتي تتقارب مع الرؤية الإسرائيلية، القائمة على إقامة سلام اقتصادي مع الفلسطينيين، مع تأجيل بحث إقامة الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى.
3- إقامة مشروعات صينية: تم التوصل، خلال الزيارة، إلى اتفاق مبدئي على تدشين 4 مشروعات ستمولها بكين في الضفة الغربية بفلسطين، في مجالات البنية التحتية والطاقة المتجددة، مثل تأسيس محطة للطاقة الشمسية، ومصنع لإنتاج ألواح الطاقة الشمسية، ومصنع للحديد وكذا مشروع لتطوير البنية التحتية للطرق.
4- دعم المصالحة الفلسطينية: تطرق وزير الخارجية الصيني، تشين جانغ، خلال لقائه، بنظيره الفلسطيني رياض المالكي، إلى وجود طلب من حركة حماس بأن يكون للصين دور في إنجاز المصالحة الداخلية الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس. ورحب المالكي بأي مساعٍ في هذا الشأن، وأضاف أنه في حال قبول حماس، بحركة فتح ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، يمكن أن يتم تتويج التوافق بينهما في بكين.
5- تأييد فلسطين في المنظمات الدولية: أكد الرئيس شي، خلال تلك القمة، دعم بلاده لمساعي حصول فلسطين على صفة العضو الكامل بالجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن كانت قد حصلت على صفة مراقب من قبل. هذا إلى جانب الترحيب بانضمام فلسطين كشريك حوار في منظمة شنغهاي للتعاون. كما تناولت القمة، بحث تسريع إصدار فتوى من محكمة العدل الدولية حول قانونية النظام الذي أقامته إسرائيل "الأبارتهايد" (نظام الفصل العنصري) على أرض فلسطين، إذ تسعى الأخيرة للحصول على دعم بكين في هذا الملف.
دلالات الزيارة:
تحمل القمة الفلسطينية الصينية عدداً من الدلالات، يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- دعم الصين للقضية الفلسطينية: تُعد زيارة الرئيس الفلسطيني إلى الصين، الأولى لرئيس عربي يلتقي بالرئيس الصيني شي جين بينغ، بعد إعادة انتخابه لولاية ثالثة مطلع العام الجاري 2023، كما أنها الزيارة الأولى منذ انعقاد القمة العربية الصينية في ديسمبر 2022 في الرياض، وهو ما يؤشر إلى حجم الاهتمام الصيني بفلسطين. وأشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ون بين، على هامش الزيارة، إلى أن الرئيس الفلسطيني هو صديق قديم للشعب الصيني، وأضاف أن الصين دعمت دائماً بقوة القضية العادلة للشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه الوطنية الشرعية.
2- تصاعد دور بكين الإقليمي: تتطلع الصين إلى أداء دور مؤثر في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء تراجع اهتمام الولايات المتحدة بها، وذلك بهدف تأكيد موقعها في النظام الدولي باعتبارها قوة كبرى مؤثرة، لا يقتصر اهتمامها على جوارها المباشر، ولكن يمتد إلى أقاليم العالم المختلفة، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط.
وعزز هذا الاتجاه نجاح الدبلوماسية الصينية في التوسط بين إيران والسعودية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، في 10 مارس 2023. ويبدو أن بكين تسعى لأن تقوم بنفس الدور بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك من أجل استمالة الرأي العام العربي والإسلامي لصفها في إطار تنافسها حول الهيمنة الإقليمية والدولية مع الولايات المتحدة التي لطالما كانت حليفاً وثيقاً لإسرائيل.
وجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تعرض فيها الصين وساطتها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فسبق أن دعا وزير خارجية الصين تشين جانغ، في اتصالين هاتفيين منفصلين مع نظيريه الفلسطيني والإسرائيلي، في 18 إبريل 2023، إلى اتخاذ خطوات لاستئناف محادثات السلام، على أساس مبدأ حل الدولتين.
3- استثمار التراجع الأمريكي: تسعى الصين إلى توظيف الاستياء الفلسطيني من موقف واشنطن المهادن للاعتداءات الإسرائيلية على الحقوق الفلسطينية، والتمدد الاستيطاني في الضفة، وتراجع رغبتها في الضغط على إسرائيل لاستئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، منذ توقف مباحثات السلام في 2013. لذا تسعى بكين إلى طرح نفسها بديلاً عن الولايات المتحدة، في ضوء العلاقات المميزة التي تجمعها بالفلسطينيين والإسرائيليين على السواء.
حدود الوساطة الصينية:
تبدو الظروف الإقليمية والدولية مُناسبة لتدخل الصين في الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن الوساطة الصينية بينهما، ما زالت تواجهها عدد من التحديات، يتمثل أبرزها في:
1- رفض إسرائيلي للوساطة الصينية: تُشير المصادر الإسرائيلية إلى أن محاولات الصين الدخول على خط الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي أمر يُقلق تل أبيب، باعتبار ذلك يُمثل محاولة أخرى من جانب بكين لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة، بعد المحاولة الأولى التي استؤنفت في ضوئها العلاقات بين إيران والسعودية.
وفي هذا السياق، أعرب نتنياهو صراحة عن رفضه أي وساطة من هذا النوع من جانب الصين، وأن إسرائيل ملتزمة تجاه الولايات المتحدة، وذلك على الرغم من تأكيده احترام الصين. ويرجع ذلك إلى إدراك تل أبيب جيداً أن واشنطن تنحاز لصفها عبر عدم قيامها بأي ضغوط حقيقية على إسرائيل للتراجع عن احتلال الأراضي الفلسطينية، وهو الموقف الذي قد لا تتبناه بكين، خاصة وأنها تسلم منذ البداية بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود 1967، وهو ما ترفضه إسرائيل تماماً.
2- غياب أوراق الضغط الصينية: يبدو أن الصين غير مستعدة لتبني مقاربة دبلوماسية مرتفعة المخاطر قد تتضمن احتمالات فشل عالية، بالتوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة وأنها لا تمتلك أية أوراق ضغط حقيقية على إسرائيل. فإذا كانت بكين قد نجحت في التقريب بين إيران والسعودية، فإن ذلك الأمر له خصوصية، إذ أن طهران والرياض كانتا ترغبان في تخفيف حدة التوتر بينهما، كما أن الصين تحتفظ بعلاقات قوية، اقتصادية وعسكرية معهما، في حين أن هذا الأمر لا يطبق على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ومن جهة أخرى، فإن الصين تُعد ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، حيث بلغ التبادل التجاري بين البلدين في عام 2022 نحو 24.45 مليار دولار، ومن المتوقع أن يبرم البلدان اتفاقية للتجارة الحرة بينهما بعد سلسلة من جولات المفاوضات بدأت في عام 2016. والواقع يُشير إلى أنه من غير الوارد أن تخاطر بكين بالتضحية بعلاقاتها المميزة مع الجانب الإسرائيلي، ومما يؤكد ذلك أن الصين لم تتمكن منذ سبع سنوات من الحصول على موافقة إسرائيلية لإقامة محطة شمسية لتوليد الطاقة الكهربائية في شرق الخليل بالضفة الغربية.
3- صعوبة التوافق الفلسطيني: تُمثل حالة الانقسام والتشظي بين الفلسطينيين، إحدى العقبات أمام وجود موقف موحد من جانبهم، للدخول في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي بوساطة صينية، إذ ما زال الانقسام مستمراً بين حركتي فتح في الضفة وحماس في غزة. ويبدو أن الجانبين غير مستعدين في الفترة الحالية للتوصل إلى توافق ينهي الخلافات بينهما.
وفي التقدير، يمكن القول إن زيارة الرئيس الفلسطيني للصين، وعرض بكين مبادرة للوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين تعكس تغيراً في السياسة الصينية، واتجاه بكين لتعزيز دورها العالمي عبر تقديم ذاتها كوسيط وصانع للسلام خاصة في إقليم الشرق الأوسط، وذلك استغلالاً لتراجع دور الولايات المتحدة، وإحجامها عن أداء أي دور في تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى الرغم مما سبق، فإنه لا ينبغي الإفراط في التفاؤل بشأن نجاح الجهود الصينية في حلحلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سواءً بالنظر إلى رفض تل أبيب للوساطة الصينية من الأساس، أو غياب الأوراق التي يمكن أن تضغط بها بكين على إسرائيل لدفعها لتقديم تنازلات إلى الفلسطينيين.