أعلن رئيس شركة فاغنر، يفغيني بريغوجين، في مساء 24 يونيو، عن وقف تحرك قواته باتجاه موسكو، مؤكداً أنها تغادر الآن في الاتجاه المعاكس. وجاءت تصريحات بريغوجين، بعد دقائق من إعلان الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، عن قبول مؤسس فاغنر، باقتراحه وقف تحركات مسلحي المجموعة في روسيا، واتخاذ مزيد من الخطوات لتهدئة التوترات.
وكان بريغوجين قد أرسل قافلة عسكرية من حوالي 5 آلاف عنصر من قوات فاغنر، قوامها 150 دبابة ومدرعة وآلية باتجاه موسكو، للقيام بانقلاب ضد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وقد انطلقت من روستوف أون دون، ووصلت إلى مقاطعة ليبيسك، على بعد حوالي 400 كيلومتر من موسكو، وذلك قبل أن تتوقف القافلة بعد تدخل الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، على خط الوساطة، واقتراحه وقف تحركات مسلحي المجموعة باتجاه موسكو، واتخاذ مزيد من الخطوات لتهدئة الوضع، وأن هناك اتفاقية سوف تضمن سلامة مقاتلي فاغنر. وأكد بريغوجين صحة هذا الاتفاق، معلناً إعادة قواته إلى قواعدها منعاً لإراقة الدماء.
تطورات سياسية وميدانية:
عقب وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استيلاء فاغنر على مقر القيادة الجنوبية للجيش الروسي في روستوف أون دون، صباح يوم 24 يونيو 2023، بأنه طعنة في الظهر وخيانة، ورد قائد فاغنر على ذلك، بإرسال قواته إلى موسكو، حدثت مجموعة من التطورات السياسية والميدانية، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- بقاء بوتين في موسكو: أعلن الكرملين بأن بوتين موجود في موسكو، ولم يغادرها، وذلك رداً على شائعات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تحدثت عن هروب بوتين إلى مدينة سان بطرسبرغ، في محاولة لنشر الفوضى، ومحاولة تصوير أن القيادة الروسية تنهار، وذلك بخلاف الواقع.
2- التوحد خلف الرئيس الروسي: لم تعلن أي مجموعة روسية دعم فاغنر، بل وتوالت المليشيات المسلحة الموالية لروسيا في دونيتسك ولوهانسك وأوسيتيا الجنوبية على تأكيد ولائها للرئيس والجيش الروسي، كما أن العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين أكدوا دعمهم لبوتين، مثل وزارة الخارجية، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، والذي أكد أن خيانة بريغوجين جريمة فظيعة غير قابلة للتبرير. وبالمثل، أعلن رئيس مجلس الدوما، فياتشيسلاف فولودين، دعمه لبوتين.
كما أكد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، بأن التمرد العسكري الذي أعلنته مجموعة فاغنر العسكرية، ما هو إلا مخطط لتغيير السلطة في البلاد، من قبل أشخاص خدموا سابقاً في وحدات النخبة التابعة للقوات الروسية، ومن المحتمل أن متخصصين أجانب أسهموا أيضاً، في إشارة إلى تورط الغرب في انقلاب بريغوجين. وتكشف كل هذه المواقف عن توحد النخبة الروسية ضد الأخير.
3- توجه "أحمد" إلى روستوف: توجهت قوات أحمد الشيشانية إلى مشارف مدينة روستوف، حيث بدأ انقلاب فاغنر، بسيطرتها على مقر القيادة الجنوبية للجيش الروسي. وعلى الرغم من عدم رصد أي اشتباكات حادة بين الجانبين بعد، فإن فاغنر أطلقت خمس طلقات، وفقاً لوكالة "سبوتنيك"، على قوات أحمد الشيشانية، في تحذير لها بالتزام مواقعها، ويكشف عدم حدوث اشتباكات بين الجانبين عن التعويل على إنهاء الوضع بالمفاوضات بين الجانبين، وهو ما تم.
4- استهداف غربي للعالم السلافي: على الرغم من أن وول ستريت جورنال ذكرت أن الخارجية الأمريكية أوعزت لكافة سفاراتها بضرورة التزام الصمت إزاء الأحداث في روسيا، وأنه لا نية لدى الحكومة الأمريكية للانخراط فيها، فإن مسؤولاً أمريكياً، لم يكشف عن اسمه، أكد أن هناك دعماً واسعاً من جانب قوات الجيش الروسي لتحركات فاغنر في مؤشر على سعي واشنطن لتأكيد تراجع سيطرة بوتين على الجيش والمؤسسات الأمنية، وذلك على الرغم من أن المصادر الإعلامية المختلفة لم ترصد انضمام وحدات عسكرية روسية إلى جانب فاغنر. وسعت موسكو للرد على هذه المحاولة عبر تحذير الغرب من استغلال تطورات الوضع في روسيا لتحقيق أهدافه المعادية لروسيا.
ومن جهة أخرى، ظهر القائد العسكري البيلاروسي المعارض، فاليري ساخشيك، في 24 يونيو 2023، في فيديو يهاجم فيه ما وصفه بـ"النظام الفاسد في روسيا، ويدعو إلى الانقلاب على الرئيس البيلاروسي، لوكاشينكو"، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك على أساس أن النظام في روسيا بدأ يتهاوى، متوقعاً أن يفوز قائد فاغنر، يفغيني بريغوجين على بوتين، وهو ما لم يحدث.
ولعل هذا الهجوم المتزامن على روسيا وبيلاروسيا يفسر أسباب مسارعة الأخيرة للوساطة، إذ أن أي اضطرابات سوف تشهدها روسيا سوف تؤثر بشكل مباشر في أمن بيلاروسيا، والتي سوف يسعى الغرب لاستهدافها في حالة سقوط موسكو في اضطرابات داخلية، وهو ما يؤكد في النهاية على وحدة العالم السلافي، الروسي والبيلاروسي، في مواجهة الغرب.
ملامح الاتفاق البيلاروسي:
كان يفغيني بريغوجين عقّب على تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 24 يونيو، والتي وصف فيها تحركات بريغوجين بالخيانة والطعنة في الظهر، بأنه سيكون هناك رئيس جديد لروسيا قريباً، وذلك قبل أن يتراجع بعدها بساعات، ويعلن أنه لا يطالب بتغيير بوتين أو السلطات، بل يدعم أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا، في مؤشر على أن المفاوضات مع بريغوجين لم تتوقف، حتى بعد فشل مفاوضات روستوف أون دون، مع نائب وزير الدفاع، يونس بك يفكوروف، والنائب الأول لرئيس هيئة الأركان العامة الفريق فلاديمير أليكسييف. وتتمثل بنود الاتفاق البيلاروسي في التالي:
1- نفي بريغوجين إلى بيلاروسيا: تمثلت أبرز نقاط الاتفاق في غلق القضية الجنائية بحق بريغوجين، أي أنه لن تتم محاكمته باعتباره خائناً، كما سيغادر إلى بيلاروسيا في مؤشر على أنه قد تم نفيه هناك. كما بات من الواضح أنه فقد منصبه باعتباره رئيساً لفاغنر.
2- دمج فاغنر في الجيش: تم الاتفاق على أن بعض مقاتلي فاغنر ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في حملة بريغوجين، ستتاح لهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع، كما لن يخضع هؤلاء لأي ملاحقة قانونية.
ويلاحظ أن الرئيس بوتين أصدر في نفس يوم العفو قراراً يرفع الحد الأقصى لسن التعاقد من القوات المسلحة إلى 70 عاماً، في خطوة تستهدف على ما يبدو دمج أغلب عناصر فاغنر، خاصة وأن بعضهم كانوا من العاملين سابقاً في القوات المسلحة الروسية، وتقاعدوا. ويلاحظ أن الاتفاق لم يكن واضحاً في تحديد مصير أولئك الذين دعموا انقلاب بريغوجين، وهل ستتم محاكمتهم أم لا، خاصة عناصر القافلة، التي توجهت إلى موسكو، وإن كان من الملاحظ أن تصريحات الرئيس البيلاروسي كشفت عن منحهم العفو، غير أن هذا البند لم يرد في النسخة التي نشرتها وسائل الإعلام الروسية عن الاتفاق.
3- غموض مصير فاغنر: أشار الاتفاق كذلك إلى عودة كل عناصر فاغنر إلى معسكراتهم، أما الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المقار والمعسكرات فيوقع اتفاقيات مع وزارة الدفاع الروسية، وهو ما قد يؤشر على إمكانية الاحتفاظ بمؤسسة فاغنر، دون حلّها بشكل كامل، مع توظيفها كشركة عسكرية خاصة تعمل خارج أراضي الدولة الروسية، وليس داخلها.
4- هيكلة وزارة الدفاع: سرت إشاعات في وسائل الإعلام الروسية، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، بإمكانية اتجاه بوتين إلى إقالة وزير الدفاع، سيرغي شويغو، بالإضافة إلى رئيس أركان القوات المسلحة الروسية، فاليري جيراسيموف، وذلك باعتبارها أحد البنود غير المعلنة في اتفاق الوساطة البيلاروسية، غير أن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أكد عدم وجود أي نقاشات تمت حول المناصب العليا داخل الوزارة خلال الأزمة، في مؤشر على عدم صحة تغيير هذين القائدين.
تداعيات الاتفاق:
كان من الواضح أن الاتفاق، وإن نجح في تجنيب موسكو سيناريو الحرب الأهلية، وضمان عدم تشتت الانتباه الروسي عن الحرب الأوكرانية، فإنه أثر بشدة في صورتها، وهو ما يمكن توضيحه في النقاط التالية:
1- التأثير في هيبة الدولة الروسية: كان من الواضح أن انقلاب فاغنر المؤقت، وتحديها لسلطة بوتين قد أضعف هيبة الدولة الروسية، إذ أنه على الرغم من استجابة بريغوجين للوساطة البيلاروسية، وإيعازه لقوات فاغنر بالانسحاب، فإن تصريحاته عكست قدراً كبيراً من الندية والتحدي لموسكو.
فقد ذكر في رسالة صوتية نشرها على تطبيق تلغرام عقب سحب فاغنر: "أرادوا حل شركة فاغنر العسكرية الخاصة. لقد تقدمنا خلال 24 ساعة، وبقي أقل من 200 كيلومتر إلى موسكو. خلال هذا الوقت، لم تنزف قطرة واحدة من دماء مقاتلينا". وأضاف بريغوجين: "الآن حل الوقت الذي يمكن فيه للدماء أن تراق. لذلك، وإدراكاً منا للمسؤولية الكاملة عن حقيقة أن الدماء الروسية ستراق على أحد الجانبين، كتائبنا تستدير ونغادر في الاتجاه المعاكس للمعسكرات الميدانية وفقاً للخطة".
2- غياب الدعم الواسع للانقلاب: كان من الواضح أن أحد العوامل التي دفعت بريغوجين إلى التراجع عن انقلابه على سلطة بوتين هو إدراكه تراجع الدعم الشعبي والمؤسسي له، إذ لا يزال الرئيس بوتين يحتفظ بشعبية واسعة لدى الشعب الروسي، تصل إلى حوالي 80%، وذلك على الرغم من تلميح وسائل الإعلام الغربية دوماً بأن شعبيته متراجعة بسبب إطالة أمد المعارك في أوكرانيا، وتدهور أوضاع الاقتصاد بسبب العقوبات الغربية، وصولاً إلى التلميح بأن الانقلاب الأخير كان أحد أسبابه استياء جانب من طبقة رجال الأعمال الروس من بوتين، بسبب حربه على أوكرانيا، وما ترتب عليها من عقوبات غربية أضرت بمصالحهم.
وفي الواقع العملي، فقد كشفت محاولة الانقلاب الروسي عن دعم كافة المؤسسات الأمنية والسياسية لبوتين، بل وكذلك كافة المليشيات المسلحة، التي تقاتل في أوكرانيا. ولعل من العوامل التي ساعدت على ذلك، هو النجاحات الكبيرة التي حققها الجيش الروسي أخيراً، بإفشاله الهجوم المضاد الأوكراني، الذي كان حلف "الناتو" يعول عليه في إلحاق هزيمة بروسيا، إذ تمكن الجيش الروسي من تكبيد نظيره الأوكراني خسائر فادحة، سواءً في الأفراد، أو المعدات الغربية المرسلة من "الناتو"، وذلك بسبب الخطوط الدفاعية القوية، والتي عرفت باسم "خط سورفيكين"، نسبة إلى سيرغي سورفيكين، قائد القوات المشتركة في منطقة العملية الخاصة.
3- انعكاس محدود على أوكرانيا: لم يتم رصد أي تغير على مواقع القوات الروسية المقاتلة في أوكرانيا، سواءً في جبهة زاباروجيا، أو باخموت، أو دونيتسك، بل وأعلنت القوات الأوكرانية عن صد هجمات القوات الروسية على بعض المواقع، خاصة في مدينة ليمان، يوم 24 يونيو 2023، في مؤشر على أن القوات الروسية لم تتأثر بالاضطرابات الداخلية الناتجة عن تمرد فاغنر.
وكشفت تصريحات المسؤولين الأوكران عن رهان كييف على تراجع معنويات الجيش الروسي بعد انشقاق فاغنر، ولذلك قد تتجه لاستثمار ذلك عبر تكثيف الجيش الأوكراني، خلال الأيام المقبلة، لهجماته ضد الجيش الروسي. ولعل ما يؤشر على ذلك الاتصال بين الجيشين الأوكراني والأمريكي لمناقشة العملية العسكرية الأوكرانية بالتزامن مع الأحداث التي شهدتها موسكو، غير أنه من الملاحظ أن ذلك الأمر لن يكون سهلاً، كما تخيلت كييف، خاصة بعدما تم حل تمرد فاغنر، واستعادة وحدة الجيش الروسي.
وعلى الجانب الآخر، أعلنت الخارجية الروسية أن أهداف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سوف يتم تحقيقها، وهو ما يُعد رسالة من جانب الكرملين للغرب بأن القوات الروسية على الجبهة لن تتأثر بانشقاق جانب من قوات فاغنر، وأن الأحداث التي شهدتها لن تدفعها للجلوس على طاولة المفاوضات، في رد على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والذي أكد أن الحرب الأهلية التي شهدتها روسيا تكشف عن ضعف الدولة الروسية بسبب حربها ضد أوكرانيا، وأنه كلما احتفظت روسيا بقواتها ومرتزقتها على أرض أوكرانيا لفترة أطول، زادت الفوضى والألم والمشاكل التي ستواجهها لاحقاً.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من تراجع شبح الحرب الأهلية عن روسيا عبر الاتفاق بين روسيا وفاغنر بوساطة بيلاروسية، فإن ما قام به بريغوجين، وتمرده المسلح ضد الدولة الروسية قد هز صورة الدولة الروسية، والتي يتوقع أن تعيد النظر في نموذج فاغنر، عبر إمكانية إعادة هيكلتها، سواءً أكان ذلك عبر إعادة دمجها في قوام الجيش الروسي، أو تحويلها إلى شركة عسكرية خاصة تعمل خارج حدود الدولة الروسية.