أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

استعادة القوة:

ركائز أول استراتيجية للأمن القومي في ألمانيا

23 يونيو، 2023


أصدرت الحكومة الائتلافية في ألمانيا، في 14 يونيو 2023، أول استراتيجية شاملة للأمن القومي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يُمثل علامة فارقة في جهودها لإصلاح الدفاع والسياسة الخارجية، خاصة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وما أفرزته من تداعيات، وكذا مواجهة مجموعة من التهديدات الناشئة عن الهجمات الإلكترونية والأوبئة إلى سلاسل التوريد المُعطَّلة وتغير المناخ؛ وهو ما يعكس بدوره المساعي الألمانية لإعادة توجيه بوصلتها الأمنية والخارجية وتعزيز قدراتها في مواجهة هذه التهديدات.

ثلاث ركائز:

تهدف وثيقة "استراتيجية الأمن المتكامل لألمانيا"، التي جاءت في 76 صفحة، إلى "حماية أمن المواطنين في ألمانيا في مواجهة بيئة متغيرة"، كما وصفها المستشار الألماني أولاف شولتس، في مؤتمر إعلان الاستراتيجية. ومن ثم فهي لا تتعلق بالدفاع والجيش الألماني فحسب، بل تغطي مختلف أشكال الأمن. وبشكل عام، تركز الاستراتيجية الجديدة على 3 ركائز للأمن القومي الألماني، يمكن إبرازها على النحو التالي:

1- الدفاع النشط "Robust": بما في ذلك الالتزام بالإنفاق العسكري المرتفع، إذ تُلزم الاستراتيجية ألمانيا بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، لتحقيق أهداف حلف "الناتو"، وإن كان ذلك فقط "بمتوسط متعدد السنوات". كما تُحدد الاستراتيجية الجيش الألماني على أنه "حجر الزاوية في الدفاع التقليدي لأوروبا"، وبالتالي سيتم العمل على تقويته، بالتركيز على الردع، فضلاً عن "توسيع نطاق الوجود العسكري الألماني في أراضي الحلفاء في الناتو على أساس أكثر ديمومة". وفي الوقت ذاته، تؤكد الاستراتيجية أنه سيتم تعزيز مكافحة التجسس والتدابير ضد التخريب، والدفاع السيبراني داخل البلاد، بينما سيتم تعزيز تكنولوجيا الدفاع على المستوى الأوروبي. 

2- تعزيز المرونة "Resilient": يستهدف ذلك قدرة ألمانيا وحلفائها على حماية قيمهم، والدفاع عن النظام الديمقراطي الحر ضد التأثير غير المشروع من الخارج، والعمل على تقليص التبعية الاقتصادية، خاصة في توريد المواد الخام والطاقة. وذلك إلى جانب الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، والدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة وسيادة القانون، بالإضافة إلى حماية حقوق الإنسان والتنوع، والعمل على ردع وهزيمة الهجمات الإلكترونية، وكذلك توسيع القدرات الألمانية الفضائية، والعمل على تطوير النظام الدولي في الفضاء الخارجي.

3- الاستدامة ""Sustainable: تشمل هذه الركيزة قضايا مثل تغير المناخ وأزمتي الطاقة والغذاء. فوفقاً للاستراتيجية، ستعمل ألمانيا على مكافحة أزمات المناخ والتنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي والوقاية من الأوبئة العالمية.

وفي إطار تنفيذ مخرجات هذه الوثيقة، دعت الاستراتيجية إلى التعاون بين المؤسسات والجهات الداخلية في ألمانيا سواءً في تطويرها أو تنفيذ ما ورد بها. كما أشارت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك (من حزب الخضر)، إلى أن برلين يجب أن تركز ليس فقط على حكومتها، ولكن أيضاً على تشكيل شراكات عبر وطنية، مؤكدة أن "هذه الاستراتيجية الأمنية لن تنجح إلا إذا قمنا بترسيخها على المستوى الأوروبي وعبر المحيط الأطلسي". 

دلالات متنوعة:

على الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي كانت بنداً من بنود الاتفاق الائتلافي للحكومة الألمانية بقيادة شولتس في ديسمبر 2021، فإن إصدارها يعكس مجموعة من الدلالات والرسائل المهمة، تتمثل في التالي:

1- إعادة المركزية للأمن في صُنع السياسات: تُعد هذه الوثيقة بمثابة أحدث دليل على إعادة ترتيب الأولويات الألمانية عبر إعادة الأمن في مركز صُنع السياسات، مما يجعل البلاد أقل عُرضة لتهديدات الخصوم، وأكثر مرونة في حالات الكوارث. ومع أن صدور هذه الاستراتيجية كان بنداً أساسياً لحكومة شولتس الائتلافية، فإن الحرب الروسية في أوكرانيا وما نتج عنها من تداعيات سلبية على ألمانيا، سرَّع من وتيرة صدورها، لأنه عزز شعور برلين بأنها صارت عُرضة للتهديدات العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية الجديدة، بما في ذلك تغير المناخ، إلى جانب تصاعد التهديدات الأمنية العالمية الأخرى. ويعني صدور هذه الوثيقة أيضاً توجه ألمانيا نحو تطوير القدرات والإمكانات العسكرية لجيشها، بالتعاون مع الحلفاء في "الناتو"، تحسباً لأي تهديد آخر مُحتمل سواءً من روسيا أو غيرها.

2- الاعتراف بفشل سياسة الاحتواء الألمانية تجاه روسيا: تبنَّت برلين منذ عهد المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، موقفاً سياسياً داعماً لاحتواء روسيا عبر تعزيز المصالح الاقتصادية الأوروبية معها بما يسهم في تقويض "عدوانيتها العسكرية"، لكن الحرب الروسية الأوكرانية ربما أثبتت فشل هذه السياسة في تحقيق هدفها. ومن ثم تُعد الاستراتيجية الجديدة بمثابة اعتراف رسمي من جانب الحكومة الألمانية بهذا الأمر؛ إذ رأت روسيا "أخطر تهديد للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية في المستقبل المنظور"، بما يعكس التغييرات العميقة في المشهد الأمني داخل ألمانيا منذ بدء الحرب الأوكرانية، بل أكدت الاستراتيجية، بشكل غير مباشر، ضرورة العمل على تجنب تكرار مثل هذه السياسة مع قوى دولية أخرى منافسة مثل الصين.

3- تعقُّد العلاقات الألمانية الصينية: ترددت برلين تقليدياً في استعداء بكين؛ نظراً لأهمية الصين كسوق للصادرات الألمانية ومصدر للسلع الأساسية، وهي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا. وقد كشفت الاستراتيجية الجديدة عن مدى تعقُّد العلاقات مع بكين، والتي وصفتها الوثيقة بأنها "تعمل بشكل متزايد كمنافس وخصم منهجي لبرلين، وتُشكِّل تهديداً متزايداً للأمن الدولي في السنوات الأخيرة"، لكنها تضيف أيضاً أنه "من دون بكين، لا يمكن حل العديد من التحديات والأزمات العالمية". وتجدر الإشارة إلى أن السياسة الألمانية تجاه الصين لم يتم تحديدها بمزيد من التفاصيل داخل الاستراتيجية، وهو ما رد عليه شولتس لاحقاً بأن هناك وثيقة خاصة بشأن الصين ستصدر لاحقاً "حينما تكون جاهزة". 

4- سعي برلين لتنويع مصادر التوريد: تُعد الاستراتيجية انعكاساً لحالة الصدمة التي عاشتها ألمانيا في أعقاب الحرب الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بإمدادات الطاقة وحماية خطوط الغاز. فقبل هذه الحرب، كانت روسيا تستحوذ على أكثر من نصف واردات الغاز الطبيعي لألمانيا، وعندما بدأت روسيا في خنق الإمدادات، سارعت برلين لشراء الغاز الطبيعي المُسال بسعر أعلى من موردين آخرين. 

لهذا السبب، وتجنباً لأزمات مشابهة مستقبلاً مع أطراف أخرى، عززت الاستراتيجية الألمانية ضرورة السعي نحو تنويع مصادر التوريد والبحث عن بدائل للطاقة والغاز الذي يأتي من روسيا، وكذلك تخفيض الاعتماد على الصين في استيراد المواد الخام والمكونات لقطاعات الطاقة والاتصالات والطب، وغيرها. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن الاستراتيجية صدرت قبل أسبوع من اجتماع الحكومة الألمانية لإجراء محادثات رفيعة المستوى مع كبار المسؤولين الصينيين في برلين، ما يُمثل دلالة خاصة في توقيت إصدارها؛ تتمثل في إبراز الرغبة الألمانية في تنويع سلاسل توريدها وتقليل الاعتماد على الصين، بما يعزز الفرص التفاوضية للحكومة الألمانية.

5- تعزيز الدور الألماني في إطار التحالفات الغربية: على الرغم من كون ألمانيا أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية، فإنها تدرك أن تعزيز دورها ونفوذها العالمي محكوم بشراكتها الأوروبية وتحالفها عبر الأطلسي. ولم تخرج الاستراتيجية الجديدة عن هذا الإطار، فلم تدع لتطوير جيشها وقدراتها العسكرية إلا في إطار حلف "الناتو"، ولم تطالب بالحفاظ على قيمها إلا بالتعاون مع شركائها الأوروبيين وعبر الأطلسي. لذلك أكدت الاستراتيجية ابتداءً التزام ألمانيا العميق تجاه الاتحاد الأوروبي و"الناتو"، وكذلك العلاقات مع الشركاء الرئيسيين والحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة وفرنسا. ويعكس ذلك التوجه الألماني أمرين؛ أولاً: تعزيز الثقل الألماني الخارجي من خلال الاتحاد الأوروبي ولاسيما عبر قيادته اقتصادياً وعسكرياً، حتى وإن حمل ذلك تنافساً مبطناً مع فرنسا على قيادة الاتحاد. وثانياً: توحيد الجهود الأوروبية وعبر الأطلسية لمواجهة التهديدات العالمية المتزايدة التي لا يمكن لألمانيا مواجهتها بشكل منفرد.

أوجه القصور:

بينما حظيت استراتيجية الأمن القومي لألمانيا بإشادات، فإنها ما زالت تواجه بعض أوجه القصور، لعل أبرزها ما يلي: 

1- عدم وضوح أدوات التنفيذ: تتسم الاستراتيجية في مُجملها بالصياغات العامة التي تفتقر إلى آليات تنفيذية واضحة وتوقيتات مناسبة لتحقيق هذه الأهداف. فمثلاً، على الرغم من تعهد ألمانيا منذ ما يقرب من عقد من الزمان بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتزامن مع تصاعد المخاطر الأمنية جراء الحرب الأوكرانية، اكتفت الاستراتيجية بإعادة تأكيد نفس التعهد، مضيفة أن 2% يجب أن يكون متوسطاً متعدد السنوات، وأن الحكومة ستسعى جاهدة لتنفيذ ذلك "دون أي تكلفة إضافية على الميزانية الفدرالية"، دون توضيح كيف ومتى يمكن تحقيق هذا الهدف. وكذلك لا يوجد تفسير واضح للكيفية التي تنوي بها برلين تنويع إمداداتها من المواد الخام لتقليص الاعتماد على الصين، خاصة أن إنشاء سلاسل إمداد جديدة للسلع الأساسية قد يستغرق عقوداً.

2- غموض التهديدات: فالتهديدات المحددة في الاستراتيجية ضد ألمانيا غامضة إلى حد ما، فيما يتم التغاضي عن تهديدات أخرى. إذ بينما يُعترف بروسيا بأنها "أكبر تهديد للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية"، فإن التهديدات الأخرى المُدرجة، مثل الإرهاب والتطرف والجريمة المنظمة والتدفقات المالية غير المشروعة والهجمات الإلكترونية وحملات التضليل، ليست محددة. كما لم يرد ذكر تهديدات السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان ربما لعدم إغضاب الصين. وتم تجاهل التهديدات من المجالات الجيوسياسية الأخرى، مثل القطب الشمالي أو القطب الجنوبي، والفضاء الخارجي، وتأثيراتها في البيئة الأمنية والنظام الدولي.

ويُرجِّح بعض المحللين الألمان أن يكون الغموض الوارد في الوثيقة بشأن كيف تنوي ألمانيا تلبية طموحاتها، مقصوداً؛ حتى يستطيع شولتس توظيفه كوسيلة للحفاظ على حرية التصرف بشأن القضايا الكبرى للسياسة الخارجية داخل المستشارية وعدم التنازل عنها لوزارة الخارجية.

3- غياب التوافق حول إنشاء مجلس أمن فدرالي: أظهرت الاستراتيجية تخلي الحكومة الائتلافية عن فكرة تشكيل مجلس للأمن القومي على غرار الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بهدف تنسيق قرارات السياسة الأمنية والخارجية، والتوجيه العملياتي في حالات الأزمات. ويرجع ذلك إلى الخلافات بين حزبي الخضر والاشتراكي الديمقراطي حول حدود النفوذ والسلطة داخل هذا المجلس. ولتجاوز هذا الخلاف، تم الإبقاء على الهياكل الحالية، بحيث تستمر الحكومة الألمانية في التعامل مع الأزمات الأمنية في إطار اجتماعات مجلس الوزراء الأمنية.

في المُجمل، لا شك أن إصدار ألمانيا أول استراتيجية للأمن القومي يُعد إنجازاً بالنسبة للحكومة الحالية، وذلك لأنه يعكس وعياً بالتهديدات الأمنية المترابطة ونقاط الضعف التي تواجه برلين، واستعداداً أكبر لاتخاذ إجراءات لمواجهتها. ومع ذلك، لا يزال الافتقار إلى التفاصيل، والآليات التنفيذية، واستمرار الغموض الاستراتيجي خاصة فيما يتعلق بالصين، يُمثل تحديات ينبغي أخذها في الاعتبار. وبالتالي سيتوقف نجاح هذه الاستراتيجية على قدرة الحكومة الائتلافية على ترجمة مبادئها وتوجهاتها إلى سياسات ملموسة توضح كيف تنوي ألمانيا توظيف مواردها لتحقيق أهدافها.