جاء تعيين الاتحاد الأوروبي وزير الخارجية الإيطالي السابق، لويجي دي مايو، ممثلاً خاصاً بمنطقة الخليج العربي، لأول مرة، ليؤكد مجدداً قناعة دولية تشكلت برسوخ واضح في الأعوام الماضية، وهي أحقية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية باهتمام خاص ومتميز من جانب القوى العالمية الكبرى.
وهذه القناعة مستحقة بعد أن أثبتت دول الخليج مكانتها ومحورية دورها في إدارة القضايا ومواجهة التحديات والاستحقاقات المهمة عالمياً وليس إقليمياً فقط، وهو ما تأكد بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022. ومع أنه لم تشهد العلاقات بين أوروبا ودول الخليج أي نوع من الفتور أو حتى التباين في وجهات النظر حول مختلف القضايا، مقارنة بالعلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة التي شابها الكثير من المنعطفات بسبب السياسات الأمريكية المتذبذبة والمترددة فيما يخص المنطقة، فإن القرار الأوروبي بتعيين أول مبعوث خاص بالخليج يحمل دلالات سياسية ودوافع للمحافظة على مصالحها المشتركة مع دول المنطقة.
صعود الخليج:
بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي حدد مهام مبعوثه الجديد في تطوير شراكة أقوى وأكثر شمولاً، أي تأكيد وتعزيز ما هو قائم فعلاً، فإن اتخاذ هذه الخطوة ينبغي أن يلفت الانتباه إلى حدوث تحولات استراتيجية خليجية في السياسة الخارجية وطبيعة العلاقات الدولية، الأمر الذي فرض على الجميع مراجعة الحسابات وإعادة صياغة العلاقات مع الخليج. بمعنى آخر، استشعرت أوروبا أهمية عدم الاكتفاء بمتابعة ما يحدث بصمت، وانتظار ما يمكن أن تفرزه تلك التحولات الجديدة، فاختارت المبادرة بالتحرك نحو توثيق علاقاتها الخليجية.
وفضلاً عن أن الخطوة الأوروبية تتماشى مع التوجه العالمي نحو تفعيل الشراكات بين الدول، فهي كذلك برهان عملي على إدراك أوروبا أن دول الخليج صارت لها كلمة في مجريات الأحداث الدولية كلها، ولاسيما في الأزمات والملفات التي تتصل مباشرة بأمن واستقرار ومستقبل أوروبا، والتي لا تقتصر على أمور مصيرية مثل الطاقة، بل تشمل أيضاً جوانب مختلفة وتحديات متعددة تواجهها أوروبا مثل الهجرة والبيئة والبطالة والتوازنات داخل النظام العالمي.
وقد واجه الأوروبيون في لحظة ما صعوبة حقيقية في توجيه بوصلة حركتهم الخارجية، نتيجة تبعيتهم للسياسات الأمريكية في تنافسها مع الصين وروسيا. ثم تفاجأت أوروبا، مثل بقية العالم، بما أحدثته القمة الخليجية الصينية في العاصمة السعودية الرياض، في ديسمبر 2022، من نقلة، وما تبعها من اتفاقيات وتفاهمات، فقد مثّلت هذه القمة تجسيداً عملياً وقوياً لمرونة دول الخليج في التعامل مع الجميع، بل وقدرة الخليج على اتخاذ إجراءات حاسمة وغير متوقعة. وقد أدرك العالم أجمع أن مرحلة ما بعد تلك القمة لن تكون كما قبلها، وبدأ الكل يراهن على اكتساب صداقة ومساندة دول الخليج الست، ولعل حضور الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، القمة العربية الـ32 في جدة، يوم 19 مايو 2023، يصب في هذه الخانة أيضاً، فالكل يريد الاستفادة من الصعود الخليجي الدولي.
بالتالي، اكتشفت أوروبا حتمية الالتفات نحو مصالحها، واستحالة الاستمرار في تغليب مصالح وسياسات أطراف أخرى، خاصة أن النشاط الدبلوماسي الخليجي الذي حقق إنجازات فعلية قُوبل بتسابق دولي على توثيق العلاقات وتعظيم المصالح المشتركة مع منطقة الخليج. فكان لزاماً على الأوروبيين إثبات التمسك بعلاقات قوية وإيجابية مع هذه الدول الصاعدة في السياسة الدولية، التي أصبحت تُقدم للعالم فرصاً كبيرة ومؤكدة لتمكينه من مواجهة التحديات الاقتصادية والأزمات التي باتت متلاحقة.
ولا شك أن توقيت تعيين مبعوث أوروبي خاص بدول الخليج له دلالة أخرى مهمة، فقد جاء الإعلان الأوروبي عشية القمة العربية التي انعقدت في جدة، والمؤشرات السياسية توضح أن مخرجات هذه القمة تؤهل العالم العربي بقيادة الخليج لأداء دور رئيسي ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في العالم أيضاً، خاصة بعد الاتفاق التاريخي لعودة العلاقات بين السعودية وإيران برعاية صينية. وهذا يعني أن المشهد الإقليمي بعد قمة جدة سيتجاوز العقبات التقليدية إلى البحث عن المصالح المشتركة لأبناء هذه المنطقة، التي عانت من التيه السياسي طويلاً بسبب ارتباطها سابقاً بسياسات الدول الكبرى، فالحاصل حالياً أن الدور الخليجي بات منفتحاً على الجميع وفق الشراكات الاستراتيجية، أو ما يُعرف بمبدأ "الكل رابح".
دلالات ثلاث:
هناك دلالات ثلاث مهمة لذلك التقارب الأوروبي نحو الخليج العربي، وهي تُجسد أبعاداً أوسع من المسار الثنائي بين الخليج وأوروبا، ويمكن استعراضها فيما يلي:
1- توسيع التحالفات وتضييق الخلافات، وقد تأكد هذا التوجه في "قمة العُلا" عام 2021، حيث تمت المصالحة العربية مع قطر، وبدأ نوع من التنسيق الخليجي - الخليجي، والخليجي العربي. واستطاعت دول الخليج تحقيق أمرين، أولهما خلق نوع من التوازن في العلاقات بين دولها، والثاني تحفيز الدول العربية الأخرى وحتى الإفريقية على تجديد تحالفاتها وكسر طوق الاقتصار على علاقاتها مع الغرب، مما شجع الكثير من دول العالم وربما الصين والهند وفرنسا بشكل أوضح على أن تطور علاقاتها مع هذه الدول، وبالتأكيد أثار هذا قلقاً وتسبب في مراجعات لدى الأوروبيين.
وبخلاص دول المنطقة، إلى حد بعيد، من ضغوط الدول الكبرى وكسر طوق الحليف التقليدي الثابت، استطاعت هذه الدول أن تجبر الولايات المتحدة تحديداً على مراجعة سياستها في الشرق الأوسط، ما دفع الأوروبيين إلى أن يتجهوا بدورهم إلى فك الارتباط ولو نسبياً بالمواقف الأمريكية التي قد تضرهم، فقد زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في إبريل الماضي، الصين، طالباً وساطتها في الحرب الأوكرانية.
وتبلورت رؤية استراتيجية خليجية للتعامل مع مختلف الأطراف، فلم تعد دول الخليج معتمدة في علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية على الدول الأوروبية أو الغرب فقط، بل أصبح دورها وتأثيرها أكبر بكثير حتى من دور الدول الأوروبية نفسها. وبالتالي لم تعد هناك دول معينة هي الخيار الوحيد في ظل النهج الخليجي الجديد، بل إن بعض الملفات التي كانت تتقاطع بشأنها المواقف الخليجية الغربية تم اختراقها خليجياً، منها الأزمة الإيرانية، وكذلك الملف الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية.
2- مرونة الموقف الأمريكي، حيث إن تراجع العلاقات الخليجية الأمريكية لا يعني بالضرورة أن الاقتراب الأوروبي من الخليج جاء برغبة أوروبية منفردة، بل ربما جرى بتشجيع من الولايات المتحدة، كي توازن بهذه الخطوة الانفتاح الآسيوي على دول الخليج. وبالتالي فإن تعيين مبعوث أوروبي للخليج لا يعني بالضرورة اختلافاً أوروبياً في هذا السياق مع واشنطن. ومما يشير إلى عدم تعارض الخطوة الأوروبية مع المواقف الأمريكية، أن الدول الأوروبية باتت تنظر إلى الخليج كمصدر بديل للغاز الروسي، خاصة في ظل حالة الرفض الأمريكي بأن يستمر الأوروبيون في استيراد الغاز من موسكو.
كما أن ثمة تحركات أوروبية منفردة تجاه دول الخليج. فبالإضافة إلى فرنسا والاهتمام الواضح من جانب الرئيس ماكرون بالخليج، حرص المستشار الألماني، أولاف شولتس، على زيارة كل من دولة الإمارات والسعودية وقطر في سبتمبر 2022، ثم لحقته رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بزيارة خصصتها لدولة الإمارات في مارس 2023. وهاتان الزيارتان كانتا من أجل البحث في قضايا الطاقة وسُبل تنشيط التجارة.
وعلى الرغم من أن المعروف عن أوروبا التدرج أو عدم المبادرة بأي تحرك جديد تجاه الشرق الأوسط والخليج، جاءت مبادرة تعيين مبعوث أوروبي خاص بالخليج لتشير إلى رغبة الأوروبيين في التحرر من وضعية "رد الفعل" التالي لأفعال واشنطن. وبغض النظر عن توافق التحرك الأوروبي أو تعارضه مع حسابات الولايات المتحدة، فإن الحاصل هو اتجاه أوروبا إلى التعامل بشكل مستقل يستجيب للسياسات الخليجية الجديدة.
3- النجاح الذي حققته القاطرة السياسية والاقتصادية الخليجية ممثلة في دولة الإمارات والسعودية، والتي تبلورت في عام 2018 بتأسيس المجلس التنسيقي السعودي الإماراتي. إذ نجحت هذه القيادة في توجيه دول الخليج إلى إعادة تشكيل علاقاتها بالعالم، واستطاعت الحصول على اعتراف عالمي وأمريكي بأن هذه الدول أصبح دورها في منطقة الشرق الأوسط مركزياً.
ومن ثم جاءت المرحلة الثانية لهذه الاستراتيجية بتفعيل أدوار دول عربية قريبة من السياسة الخليجية مثل مصر والعراق والأردن، وكان لها مبادرات ومواقف في قضايا مهمة، منها بلورة موقف عربي موحد من الحرب الأوكرانية، وكذلك إزاء المحاولات الأمريكية لتشتيت مواقف دول "أوبك" التي رفضت تعويض نقص الإنتاج الروسي من النفط.
ولم يقتصر النجاح الخليجي في العلاقات الخارجية على الجوانب الدبلوماسية، وإنما توازى معه نجاح في الجوانب الاقتصادية. فعلى الرغم من كل الأزمات والمصاعب المالية التي مرت على العالم، حافظت دول الخليج على مؤشراتها التنموية، ما جعلها نموذجا دولياً يسعى الآخرون إلى الاقتداء به والاستفادة منه والتفاعل الإيجابي معه.
وفي الحقيقة إن المعسكر الغربي، المُكبل بالتبعية الأمريكية، ينظر بدهشة للخطوات الدبلوماسية الكبيرة لدول الخليج، ليس فقط إعجاباً بالنجاحات ولكن تقديراً للتمكن من "الاستغناء" أو بالأحرى "تقليل الاعتماد" على الحلفاء التقليديين الذين أخذت مواقفهم منعطفات حادة في لحظات خطرة على المشهد الخليجي والعربي، بدءاً بما كان يُعرف بـ"الربيع العربي"، ثم الحرب اليمنية لإعادة الشرعية، وكذلك التعاطي السلبي مع التحركات الإيرانية في المنطقة.
لهذا تأتي الخطوة الأوروبية الجديدة كنوع من الاستجابة للتحرر الخليجي من أسر تحالفات سابقة أضرت أكثر مما أفادت، بتحرر أوروبي أيضاً من أسر التبعية التقليدية لواشنطن، والنأي بالقارة الأوروبية عن المآزق التي تقع فيها بسبب المغامرات الأمريكية، والتمسك بالحفاظ على علاقات تاريخية جيدة مع الخليج، مع إدراك ضرورة بناء مستقبل أكثر قوة، وشراكة أكثر عمقاً وثباتاً، بما يتسق ويتوافق مع التحولات التي قامت بها دول الخليج والقواعد الجديدة التي وضعتها لتدير من خلالها علاقاتها الخارجية مع مختلف دول العالم.
ختاماً، إن النقطة المهمة التي ينبغي لدول الخليج وضعها في الاعتبار هي أن ترى إمكانية أن يصبح هذا المبعوث الأوروبي مبعوثاً خليجياً أيضاً وقناة تواصل مستمرة من خلال إحاطته بالتحركات والمواقف الخليجية المسبقة من أجل تفهم أوروبا لوجهة النظر الخليجية في القضايا المختلفة وخلق تنسيق مشترك بين أقوى تكتلين إقليميين عالمياً.