هل ستملأ روسيا أو الصين الفراغ الجيوسياسي الناجم عما يسمى بـ"الانسحاب" أو "الانفصال" الأمريكي عن الشرق الأوسط؟ في التاريخ المعاصر، كانت روسيا دائماً هي المنافس الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فهي تمثل البديل المحتمل إذا ما انسحبت أو انفصلت أمريكا عن الإقليم. ولكن أخيراً انضمت الصين أيضاً إلى المعركة، بل وربما تكون قد تجاوزت القوى الأوروبية الآسيوية.
بعد نهاية الحرب الباردة لصالح الجانب الأمريكي، وظهور تقنيات جديدة تجعل هذا الجانب أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط، أصبحت الولايات المتحدة أقل حماساً لتحمل العواصف السياسية القاسية والمشاكل المعقدة والمستعصية بالمنطقة. وأصبحت هذه السياسة أكثر حضوراً على أرض الواقع بعد ما وجدت الولايات المتحدة أن تدخلها بالمنطقة سيلازمه التضحية بالدم والثروة، كما اتضح من النزاعات الأخيرة في العراق وأفغانستان، الأمر الذي جعلها تُعيد النظر في سياستها بالمنطقة خاصة وأنها لا تريد المزيد من الخسائر.
على الرغم من وجاهة هذا التحليل من وجهات نظر عديدة، إلا أنه لا يأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ الإرث التاريخي للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا وبين الشرق الأوسط، كما أنه لا يأخذ بالاعتبار أيضاً المصالح والاحتياجات المعاصرة لكلا الجانبين. فمن الملاحظ أن الصين وروسيا موجودتان بالفعل في منطقة الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، وأن سياستيهما لا تركزان حصرياً على المنافسة مع أمريكا.
روسيا.. روابط تاريخية وحديثة
إن لروسيا تاريخ طويل ومعقد في إقليم الشرق الأوسط الكبير، الذي يشمل تركيا أيضاً طبقاً لتصور الأمم المتحدة للمنطقة. فلقد وقعت اثنتا عشرة حرباً بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية بين القرنين السادس عشر والعشرين، وانتهت معظم هذه الحروب لصالح روسيا، باستثناء حرب القرم 1710-1711. غير أن الأوضاع تغيرت في المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى، حيث تآمرت كل من فرنسا وبريطانيا العظمى ضد الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وقامتا برسم وتقسيم خريطة بلاد الشام لخدمة مصالحهما، واستبعدتا الإمبراطورية الروسية عن المنطقة.
وبعد سقوط الإمبراطورية الروسية وقيام الاتحاد السوفيتي، أسس الأخير خلال الحرب الباردة في الخمسينيات من القرن الماضي نموذجاً جديداً للمنافسة بينه وبين الولايات المتحدة، يتضمن عنصراً جديداً شديد القوة ألا وهو "الاستراتيجيات الجيوسياسية". فقد قام الاتحاد السوفيتي ببناء صداقات استراتيجية بينه وبين عدة دول في إقليم الشرق الأوسط في منتصف القرن الماضي، اشتملت في البداية على الجمهوريات العربية اليسارية التي تخلصت من الاستعمار الأوروبي مثل سوريا والعراق، ثم انضم إلى هذه الصداقات الاستراتيجية كل من مصر والجزائر فيما بعد.
أما فيما يخص العلاقات بين روسيا وإيران، فقد كانت العلاقات بين الجانبين متوترة تاريخياً، ولاسيما من المنظور الفارسي بعد قيام عدة صراعات في القوقاز مع أران (أذربيجان حالياً) وجورجيا وأرمينيا وكذلك داغستان. وقد امتد هذا التوتر في العلاقات بين الجانبين إلى عصر الشاه بهلوي، حيث كان من الواضح أن إيران تقف إلى جانب الغرب.
أما عن العلاقات بين الجانب الروسي من ناحية وبين إسرائيل كإحدى دول الشرق الأوسط من ناحية أخرى، فغالباً ما يُنسى أن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة تعترف بدولة إسرائيل في 17 مايو 1948. وقد مرت العلاقات بين الجانبين بعدة مراحل متوترة مع اندلاع الحروب العربية الإسرائيلية، ولكن نمو حجم الجاليات الديمغرافية الروسية المتمركزة في إسرائيل، مع تعاظم حجم التعاون الأمني والتكنولوجي بين الجانبين، قد أثر في العلاقات بشكل إيجابي ملحوظ.
لقد ذكرت هذه الخلفية التاريخية لتأكيد أن انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة عام 1990 كان حياداً بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي. ولا يقتصر وجود روسيا واهتمامها بالشرق الأوسط حصرياً على حضور الولايات المتحدة الأمريكية بالإقليم من عدمه. فبناءً على التقارير التحليلية للأوضاع، ومناقشاتي الشخصية مع كبار مسؤولي الأمن القومي، يمكن الإشارة إلى أن أهم دوافع روسيا في الشرق الأوسط تنبعث من رؤيتها لحضارتها، وتتماشى مع تصورها لدورها العالمي، كما أنها تُعد انعكاساً لتكوينها الديمغرافي، فضلاً عن قراءتها للتحديات وفرص النظام العالمي.
أعتقد أنه يمكننا القول إن ما تأمل روسيا تحقيقه بمنطقة الشرق الأوسط، ليس أن تصبح بديلاً للولايات المتحدة بالإقليم، ولكن بالأحرى خلق مستوى من التكافؤ الجيوسياسي بالمنطقة دون إفراط. وهذا يتطلب في الأساس الحفاظ على المرافق العسكرية والأمنية الموجودة بالمنطقة، وضمان الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، وتأمين الإبحار في الممرات المائية الأخرى.
هذا ويُعد منع العناصر المتطرفة من الوجود بالقرب من الحدود الروسية دافعاً أساسياً لاهتمام الجانب الروسي بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة مع كثرة المناطق الآوية للتطرف بالفعل والموجودة قريباً من روسيا مثل الشيشان وداغستان وشمال القوقاز وباشكورتوستان في حوض نهر الفولجا. أضف إلى ذلك أن الدفاع عن المسيحيين الأرثوذكس بالشرق الأوسط يحتل مكانة بارزة على جدول أعمال واهتمامات الجانب الروسي أيضاً. كما أن الوصول إلى التقنيات الإسرائيلية، والاستثمارات الخليجية أمر مهم للغاية بالنسبة للروس، فضلاً عن تسهيل الوصول إلى أسواق الأسلحة والتكنولوجيا النووية الروسية، والنفط والغاز الروسيين، والمنتجات الغذائية الروسية، وكل هذا يُعد من أسباب ودوافع اهتمام الجانب الروسي بمنطقة الشرق الأوسط.
الصين.. علاقات اقتصادية متنامية
شهدت العلاقات الصينية مع العالم العربي أربع نقاط تحول رئيسية. فعقب مؤتمر باندونغ عام 1956، قادت مصر وسوريا واليمن الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية مع الصين. وقد ساعد دعم الصين لإنهاء الاستعمار بالعالم العربي على توسيع العلاقات الرسمية بين الجانبين، كما ظهر في توطيد العلاقات بين الصين والمغرب والجزائر والسودان.
وعلى الجانب الآخر، ساعد تخفيف الصين لسياسات ثورتها الثقافية في إقامة علاقات بينها وبين الكويت ولبنان والأردن وعُمان، وأخيراً مع المملكة العربية السعودية. هذا وأدت الزيادة في الشراكات الاقتصادية متعددة التخصصات إلى إقامة علاقات بين الصين والإمارات العربية المتحدة وقطر وفلسطين والبحرين. وقد نتج عن كل هذا التعاون زيادة عدد الزيارات الرسمية بين الدول العربية والصين في السنوات الأخيرة، ويلاحظ أن منتديات الحوار بين الجانبين هي التي توجه خطط عمل الشراكة العربية الصينية الجديدة، مثل المنتدى الذي استضافته المملكة العربية السعودية أخيراً.
وعلى صعيد آخر، تطورت علاقات الصين مع إسرائيل بشكل ملحوظ منذ عام 1992. وفي الذكرى الخامسة والعشرين للعلاقات بين البلدين، ترأس رئيس الوزراء الإسرائيلي وفداً توجه إلى بكين لعمل شراكة شاملة بين البلدين فيما يخص التكنولوجيا ومشاريع البنية التحتية. وسرعان ما تصاعدت المخاوف الأمريكية من هذه الشراكة بسبب قلق أمريكا المستمر بشأن وصول التكنولوجيا الإسرائيلية للشركات الصينية خاصة المتعلقة بالأمن السيبراني والتجسس، وحتى المتعلقة بالمشاريع المدنية العادية. ومع وجود هذه الشراكة وهذا التعاون، لا يوجد دليل على أن الصين تحاول أن تحل محل الدور الأمريكي في إسرائيل أو أن إسرائيل تريد من الصين أن تفعل ذلك.
أما فيما يخص العلاقات الصينية الإيرانية، فقد كان لدى الإمبراطورية الصينية وبلاد فارس القديمة بُعد بحري قوي، خاصة خلال عهد أسرة مينغ، وكذلك علاقات تجارية طويلة الأمد. أما في العصر الحديث، فقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإيران في عام 1971، ومع فرض العقوبات الغربية على إيران عام 1979، أصبحت الصين مورداً قوياً للأسلحة بالنسبة لإيران وجيرانها من العرب.
وتهدف استراتيجية الصين تجاه إيران ومنطقة الشرق الأوسط إلى: منع أي قوة أحادية من السيطرة على المنطقة... كما تهدف إلى معارضة أي دعم يمكن أن يُقدم لتايوان... هذا وتعمل الصين أيضاً على ضمان تلبية أي احتياجات لها من مصادر الطاقة. ويُعد الوصول إلى السوق الإقليمية الشرق أوسطية هو العمود الفقري للعلاقات الاقتصادية بين الصين وغيرها من دول المنطقة.
وهكذا برزت الصين، على الرغم من أنها ليست جزءاً مباشراً من الحرب الباردة، كمنافس قوي وخصم محتمل لكل من الولايات المتحدة وروسيا بإقليم الشرق الأوسط. وإن كانت الصين، وحتى وقت قريب، مترددة في دخول المشهد السياسي خارج منطقتها. ومع ذلك، فقد قدمت أخيراً عرضاً لحل الأزمة الأوكرانية ولضمان السلام والأمن في الشرق الأوسط من خلال الحوار. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، يظل من غير المرجح أن تقدم الصين ضمانات أمنية كبيرة للشرق الأوسط مثلما تفعل كل من الولايات المتحدة وروسيا لحلفائهما بالمنطقة.
الملء المشترك للفراغ الأمريكي
لم يكن الفراغ الملحوظ الناجم عن سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بتقليل التزامها تجاه أصدقائها بالشرق الأوسط هو السبب وراء وجود روسيا والصين بالمنطقة، فقد كانت الدولتان بالفعل موجودتين هناك منذ فترة. ولن تملأ إحدى الدولتين مفردة الفراغ الذي يخلفه انسحاب الولايات المتحدة من الإقليم، بل ستملآنه معاً، فضلاً عن أن النشاط الإقليمي المتزايد لدول المنطقة والسعي لوجود تعددية قطبية في العلاقات مع القوى الأجنبية سيكونان من الأسباب القوية التي تدعو لاستمرار حضور روسيا والصين بالمنطقة. هذا فضلاً عن تمتع الصين ببصمة اقتصادية متنامية بشكل كبير، وهو من أسباب وجودها بالشرق الأوسط، وهي حقيقة يجب على أمريكا أن تبدأ في قبولها.
على الجانب الآخر، هناك العديد من مجالات التعاون المتنامي، المستمر والمحتمل، بين الصين وروسيا، مثل: التعاون بين البلدين لمكافحة التطرف، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وضمان الإبحار الآمن بالممرات المائية الدولية. إن اعتبار كل من القطبين الصيني والروسي خصوماً لبعضهما بعضاً والنظر إليهما كتهديد محتمل بالشرق الأوسط قد يؤدي إلى تقريبهما من بعضهما بعضاً في الواقع، بل وقد يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها.