إعداد: وفاء ريحان
تشهد الساحة السياسية الليبية أزمات مُعقدة تصاعدت حدتها في الشهور الأخيرة, حيث دخلت البلاد في أتون حرب أهلية ضارية. ولذا جاءت المفاوضات في مدينة الصخيرات المغربية برعاية الأمم المتحدة, كمحاولة لإيجاد مخرج سياسي لهذه الأزمات، وانتهت هذه المفاوضات بتوقيع الأطراف الليبية - باستثناء المؤتمر الوطني العام - بالأحرف الأولى يوم 11 يوليو 2015 على "اتفاق الصخيرات", والذي ينص على تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة يتكون من 120 عضواً؛ بحيث يتولى إبداء الرأي المُلزم بالأغلبية في مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التي تعتزم الحكومة إحالتها إلى مجلس النواب.
في هذا الإطار, نشر "المعهد الألماني للشئون الدولية والأمنية" دراسة أعدها "وولفرام لاشير" Wolfram Lacher - الباحث المشارك في برنامج الشرق الأوسط وأفريقيا بالمعهد الألماني - تحت عنوان: "دعم الاستقرار في ليبيا.. تحديات إنجاز وتطبيق اتفاق الصخيرات", يتناول فيها الباحث طبيعة ذلك الاتفاق الذي يصفه بالهش نظراً للمخاطر والتحديات المحيطة به، والتي تعيق تنفيذه، كما يوضح إلى أي مدى يستطيع الدعم الخارجي إنقاذ الاتفاق من محاولات إفشاله.
اتفاق هش
يرى الباحث أن تعقد الصراع في ليبيا يؤثر على نجاح جهود الوساطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل إنجاز "اتفاق الصخيرات", معتبراً أن هذا الاتفاق يُمثل إنجازاً كبيراً، ولكن به بعض جوانب الضعف التي تجعله هشاً. فمنذ البداية كان ضمان التمثيل الفعَّال للأطراف المتصارعة هو أمر مُلح على وسطاء الأمم المتحدة؛ فكل من المجلسين التشريعيين - سواء المؤتمر الوطني العام في طرابلس أو مجلس النواب في طبرق - ليس لديه تأييد شعبي واسع, فضلاً عن أن سيطرة المجلسين على التحالفات العسكرية التابعة لكل منهما غير كافية.
ويرى الكاتب أن عملية الكرامة - التي أطلقها الجنرال "خليفة حفتر" في مايو 2014 ويدعمها مجلس النواب في طبرق - ظلت القيادة العسكرية بها مفككة وخارجة عن سيطرة مجلس النواب أو الحكومة التابعة له.
من ناحية أخرى، فإن "ائتلاف فجر ليبيا" - الذي يضم مجموعة من الميليشيات المسلحة في غرب البلاد- يفتقر إلى القيادة الموحدة، بالإضافة إلى أنه موالٍ اسماً فقط للمؤتمر الوطني العام وحكومته. ومما يفاقم من هذه الصعوبات هو زيادة حدة التوترات الداخلية في المعسكرين.
ومع الوقت، بدأ "ائتلاف فجر ليبيا" يتلاشى, فعدد من فصائله ذهب في طريق التفاوض ووقف إطلاق النار, بالإضافة إلى أن المدن الأمازيغية مثل منطقة جبال نفوسة - والتي ساهمت منذ البداية في دعم قوة "فجر ليبيا" - بدأت مع حلول 2015 تنأى بنفسها عن الصراع.
وتوجد حالياً مجموعة من قادة "ائتلاف فجر ليبيا" السابق في طرابلس، والذين شكلوا ما يسمى بـ"جبهة الصمود"، وقاموا بالتأثير على المؤتمر الوطني العام لعدم التوقيع على "اتفاق الصخيرات".
وعلى الجانب الآخر، ظهرت انقسامات في صفوف أعضاء مجلس النواب الذين سيطرت عليهم المصالح الشخصية، ولم يتصرفوا كمجموعة واحدة؛ لذا في ظل كثرة جماعات المصالح المتنافسة وغياب القوى السياسية المنظمة, يرى الكاتب أن اتفاق تقاسم السلطة سوف يزيد من عدم التوافق بين الأطراف المختلفة.
أطراف إفشال "اتفاق الصخيرات"
يرى الباحث أنه على الرغم من ترحيب أغلبية الليبيين باتفاق الصخيرات, فإنه يوجد عدد من الفاعلين السياسيين لديهم مصلحة واضحة في إفشال الاتفاق, أو على الأقل منهم من يشعر بعدم الرضاء عن تمثيله فيه.
ويتمثل من له مصلحة في إفشال الاتفاق، في التالي:
- في معسكر مجلس النواب, ينطبق ذلك على الجنرال "حفتر" الذي يسعى إلى حكم البلاد, على الرغم من أن ما يقرب من نصف أعضاء مجلس النواب يعارضون تعيينه كقائد أعلى للجيش, ولذا يبدو أن المجلس الرئاسي سيدخل في صراع مع "حفتر" ربما ينتهي بإقالته من منصبه.
- في معسكر المؤتمر الوطني العام, ينطبق ذلك على السياسيين وقادة الميليشيات الذين كانوا بارزين في "ائتلاف فجر ليبيا", والذين رفضوا الحديث باستمرار عن أي حل وسط, فهم يخشون ليس فقط التهميش السياسي، ولكن أيضاً المحاكمات المحتملة إذا تأسست حكومة وحدة وطنية.
وإلى جانب الجماعات التي تسعى لإفشال الاتفاق, يشير الكاتب إلى الجماعات غير الراضية عن تمثيلها في المفاوضات، وهي الأقليات كالأمازيغ والتبو، فكلاهما شكا مراراً من ضعف تمثيله في المفاوضات.
ويُضاف إلى ذلك، المناطق ذات القدرات العسكرية المحدودة, والتي نأت بنفسها عن الصراعات التي شهدتها البلاد العام الماضي. وأخيراً، فإن المجموعة المعارضة الأكثر وضوحاً، والتي تعارض أي اتفاق بين القوى السياسية الليبية، هي تنظيم "داعش" الذي يسعى إلى التوسع في مناطق كثيرة بالبلاد.
إمكانية تطبيق الاتفاق
يشير "لاشير" إلى أن تطبيق "اتفاق الصخيرات" عملية صعبة، وستواجه الكثير من التحديات؛ فبالإضافة إلى الأطراف التي لها مصلحة في إفشاله، يعتبر التحدي الأكثر إلحاحاً هو ذلك الخاص باتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لإعادة الأمن في العاصمة الليبية وجميع أنحاء البلاد. فهذه الإجراءات ستؤدي إلى الانتقال من احتكار الميليشيات للقوة المسلحة إلى إنشاء قوة متكاملة ومحايدة في طرابلس تكون نواة لجيش نظامي يتوسع تدريجياً. ومع ذلك، فإن أحد أوجه القصور في "اتفاق الصخيرات" هو أنه لم يحدد بشكل دقيق ما المقصود بمصطلحات مثل "وقف إطلاق النار" و"الإجراءات الأمنية".
ولكن حتى إذا استطاعت حكومة الوفاق الوطني التخلص من بعض التحديات السياسية التي تواجهها كالجماعات المسلحة والصراع على السلطة, فإن الاقتصاد سيُمثل بالنسبة لها تحدياً إضافياً, حيث انخفض إنتاج النفط بسبب الصراع الدائر بالبلاد, ومن المتوقع في ضوء انخفاض أسعار النفط العالمية أن تواجه الحكومة خطر الإفلاس بحلول عام 2016.
كما تحتاج الحكومة من أجل زيادة إنتاجها من النفط، أن تقوم ببسط سيطرتها على حقول النفط التي تقع محطات تصديرها بيد الجماعات المسلحة. ولهذا يؤكد الكاتب أن حكومة الوفاق لا تواجه فقط خطر محاكاة الحكومات السابقة في فشلها في إعادة الاستثمار العام, ولكن تواجه أيضاً احتمال قيام أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية قاتلة إذا اضطرت لتخفيض الرواتب والإعانات.
دور الدعم الدولي في إنقاذ الاتفاق
في ضوء التحديات والعقبات المشار إليها، يطرح الكاتب تساؤلاً عما إذا كان الدعم الدولي قادراً على إنقاذ "اتفاق الصخيرات" في حالة الفشل؟
ويؤكد في هذا الصدد أن الحكومات الغربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لديها الرغبة في القيام بدور كبير لدعم تنفيذ الاتفاق, حيث أدركوا خطأ النهج المتحفظ الذي تبنوه بعد حرب 2011, على الرغم أن فشل التحول في ليبيا لم يكن فقط بفعل قلة الدعم الغربي, فمثل هذا الدعم أثبت عدم فاعليته بسبب الصراع على السلطة في الحكومة الانتقالية.
ويؤكد الباحث أنه على الرغم من الحاجة المُلحة في هذا الوقت إلى الدور الخارجي كضمان لتنفيذ "اتفاق الصخيرات" والتحكيم بين أطرافه, فإن الأطراف الخارجية يجب أن تعي أن ذلك الدعم يُلقي عليها مسؤولية كبرى, كما ستكون هذه القوات الأجنبية عُرضة للميليشيات والجماعات المتطرفة، ما يتطلب ألا تكون فقط مجرد قوات حفظ سلام عادية، ولكن مجهزة للمشاركة في القتال العنيف.
ويشير الباحث إلى تحدي إضافي ذات صلة بتقديم الدعم الدولي في ليبيا، ويتمثل في تحديد البلدان المساهمة في هذا الدعم, فبينما يُنظر إلى مشاركة الدول الأوروبية على أن لديها مشروع استعماري جديد تسعى إلى تحقيقه, فإنه يُنظر كذلك إلى بلدان في المنطقة مثل المغرب على أنها لا يجب أن تتدخل في الصراع الليبي. وينطبق الأمر نفسه على الجنود من باكستان وبنجلاديش الذين يُنظر إليهم في ليبيا على أنهم أقل احتراماً، حيث يقدمون إلى ليبيا كعمال مهاجرين.
ومما سبق، يتضح محدودية قدرة الفاعلين الخارجيين على فرض الإجراءات الأمنية بالبلاد, ومن ثم يصبح عبء هذه الإجراءات مُنصباً على توازن القوى بين الأطراف الليبية ذاتها, وهذا يستلزم تشكيل قوات بقيادة شخصيات عسكرية يحترمها جميع الأطراف, تعتمد على التكامل بين القوات التي كانت تتحارب من قبل.
كما يؤكد الباحث على أهمية المساعدات الخارجية في مجال الأمن, لكنها تُواجه قيوداً شديدة متعلقة بتجنب إلحاق الضرر بالاتفاق الهش بالأساس. فالحكومات الأوروبية حريصة على الحفاظ على التزامها السياسي للوصول لاتفاق نهائي ودعم تنفيذه بالتنسيق مع الأمم المتحدة, وهذا يتطلب التنسيق المُستمر مع الأطراف في الاتفاق، وأيضاً مع العناصر التي تسعى إلى إفشاله، كما أن على عاتقها التزام آخر يتمثل في بذل الجهود الدبلوماسية المستمرة لمنع الأطراف الاقليمية المتنافسة من إفساد الاتفاق, بالإضافة إلى التزام لا يقل أهمية عن سابقيه يتمثل في بناء الثقة بين الأطراف الليبية المتصارعة عن طريق تهدئة الخصومات فيما بينهم, خصوصاً تلك الخصومات على الأموال والأصول المملوكة للدولة، والتي ازداد الصراع عليها في الفترة الماضية. ويرى الكاتب أن العقوبات الموجهة كحظر السفر وتجميد الأموال، تعد من بين الأدوات القليلة المتاحة للفاعلين الدوليين لضمان تحقيق هذه الالتزامات.
ماذا لو فشل الاتفاق؟
يحذر الباحث من أنه في حالة فشل "اتفاق الصخيرات" سوف تنزلق ليبيا إلى الفوضى أو حرب أخرى، حيث لا توجد خطة بديلة في هذه الحالة. كما أن أي عملية عسكرية دولية ستتم لدعم حكومة الوفاق أو للفصل بين الأطراف المتحاربة، من الممكن أن تفشل بالنظر إلى تعدد الجهات المتصارعة وردود الفعل السلبية من وجود قوات أجنبية بالبلاد.
ويعني ذلك أن تركيز الفاعلين الدوليين يجب أن ينصب على "استراتيجية الاحتواء"؛ بمعنى زيادة الجهود الدولية لفرض حظر على الأسلحة, وردع القوى الإقليمية التي تسعى إلى تأجيج الصراع.
ويرى الكاتب أن الضغط على الحكومات الغربية والإقليمية للتعامل مع التهديدات الموجودة في ليبيا مثل وجود الجهاديين، من شأنه أن يزيد من احتمال تدخلها في الصراع, الأمر الذي يُرجح شن عمليات عسكرية مؤقتة تقوم بها الأطراف الخارجية, ما يُضعف بدوره من فرص تسوية النزاع سياسياً. لذا، ينتهي الكاتب إلى أن هذه النظرة القاتمة للأوضاع الليبية الحالية تدفع إلى البحث عن أفضل السبل المُمكنة لدعم تطبيق "اتفاق الصخيرات".
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "دعم الاستقرار في ليبيا.. تحديات إنجاز وتطبيق اتفاق الصخيرات", والمنشورة في يوليو 2015 عن "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية".
المصدر:
Wolfram Lacher, Supporting Stabilization in Libya: The Challenges of Finalizing and Implementing the Skhirat Agreement (Berlin, German Institute for International and Security Affairs, July 2015).