انعقدت أولى جلسات محاكمة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في 4 إبريل 2023، والتي تُعرف باسم جلسة الاستدعاء؛ حيث تُعد الخطوة التالية بعد تصويت هيئة المحلفين الكبرى في مانهاتن، في 30 مارس 2023 رسمياً على توجيه اتهامات جنائية ضد ترامب، تتعلق بدفع أموال خلال انتخابات عام 2016 لشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانيلز، وعارضة الأزياء، كارين ماكدوغال، بعد أن قالت التحقيقات إنهما كانتا على علاقة جنسية مع ترامب.
وأثارت المحاكمة الجدل داخل الأوساط السياسية، وكذلك الرأي العام الأمريكي، نظراً لأنها الحادثة الأولى من نوعها التي يواجه فيها رئيس أمريكي اتهامات جنائية، كما أنها عززت حالة الانقسام الذي تعيشه البلاد.
ملامح محاكمة مرشح رئاسي
يلاحظ أن محاكمة ترامب عززت الانقسام داخل النظام السياسي الأمريكي، ويمكن الإشارة إلى أبرز الملابسات التي تتعلق بمحاكمة ترامب في التالي:
1- توجيه 34 تهمة جنائية: وجهت المحكمة إلى ترامب 34 تهمة جنائية، من بينها اتهامات بالتآمر وتوجيه تهديدات، ومحاولة تقويض نزاهة انتخابات 2016، وتزوير سجلات تجارية، وإخفاء معلومات ونشاط غير قانوني عن الناخبين، حيث دفع ترامب مبلغاً قدره 130 ألف دولار لإخفاء معلومات سلبية عنه كانت ستضر بحملته الانتخابية.
وعادة ما تتم معاملة تزوير السجلات على أنه جنحة، غير أن المحكمة صنفت التهمة باعتبارها جريمة جنائية، وذلك على أساس أن السجلات التجارية المزيفة تهدف إلى التعتيم على جريمة ثانية، وهي استخدام الأموال بطريقة غير مشروعة لتمويل حملة ترامب الرئاسية.
2- نفي ترامب الاتهامات بهدوء: أكد ترامب في قاعة المحكمة في مانهاتن أنه غير مذنب، وجلس صامتاً وبوجه جامد طوال مداولات الجلسة التي استمرت قرابة الساعة أمام القاضي خوان ميرشان، ولم يتحدث إلا للرد على أسئلة القاضي وللدفع ببراءته، كما لم يدل ترامب بأي تصريحات للصحفيين لدى مغادرته مبنى المحكمة. وظهر ترامب، بصفة عامة، هادئاً جداً، وتصرف كرجل دولة يحترم القوانين والسلطات.
3- تأكيد ترامب تسييس المحاكمة: أطلق ترامب تصريحات على موقع "تروث سوشيال"، شبكة التواصل الاجتماعي المملوكة له، موجهة لأنصاره ومؤيديه، سعى خلالها لتصوير محاكمته على أنها تمثل تحدٍ للنظام الديمقراطي الأمريكي، في إشارة إلى أنها مسيسة وغير شرعية. وقبل تصويت هيئة المحلفين في مانهاتن على لائحة اتهام ترامب، دعا الأخير أنصاره، في 18 مارس 2023، للاحتجاج والنزول إلى الشارع.
وعلى الرغم من توصيات القاضي ميرشان أثناء محاكمة ترامب بعدم الإدلاء بتعليقات "تعرض سيادة القانون للخطر أو تخلق اضطرابات مدنية"، فإن ترامب عاد إلى فلوريدا بعد انتهاء الجلسة الأولى، وانتقد في تصريحات الإجراءات القضائية بحقه، حيث أدان التهم الجنائية التي واجهها في نيويورك، قائلاً لحشد من المؤيدين إن "الجريمة الوحيدة التي ارتكبتها هي الدفاع بلا خوف عن أمتنا من أولئك الذين يسعون إلى تدميرها"، معتبراً أن المحاكمة ما هي إلا "ملاحقة سياسية وتدخل في الانتخابات على أعلى مستوى في التاريخ" من قبل الرئيس جو بايدن، ومتوعداً إياه بارتداد هذه الملاحقة عكسياً عليه.
4- إجراءات أمنية مشددة: وضعت شرطة نيويورك خطة أمنية مُحكمة للحيلولة دون وقوع أعمال العنف أو اندلاع احتجاجات واسعة النطاق، وذلك تحسباً لتكرار شبح اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي، الكابيتول هيل، في 6 يناير 2021، وذلك على الرغم من تأكيد شرطة نيويورك أنه لا يوجد تهديد ذو مصداقية للولاية. ولم تشهد مانهاتن سوى تجمعات صغيرة من أنصار ترامب بالقرب من قاعة المحكمة، حيث فاق عدد المراسلين عدد المحتجين بنسبة كبيرة.
5- تهديدات بالقتل للقضاة: تلقى قاضي المحكمة العليا في مانهاتن، خوان ميرشان، تهديدات بالقتل، ولذلك تم تعيين فريق أمني له. وبالمثل، تعرض المدعي العام في مقاطعة مانهاتن، ألفين براغ، الذي رأس التحقيق الذي أدى إلى توجيه الاتهام إلى ترامب إلى تهديدات بالقتل منذ منتصف مارس 2023.
6- استثمار بايدن محاكمة ترامب: تبنى بايدن وفريقه في البيت الأبيض استراتيجية "الصمت المتعمد"، لتعزيز شعبية الحزب الديمقراطي، إذ أنه في حين هاجم ترامب المؤسسات الأمريكية، ووصف الرئيس بايدن بالمجرم، فضل الأخير عدم التعليق على المحاكمة، إلى جانب تأكيده في كل مرحلة من مراحلها، بشكل غير مباشر، انشغاله بتحسين الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
وقد وضح ذلك في عدة مؤشرات، منها إعلان البيت الأبيض أن الرئيس بايدن على دراية باستدعاء سلفه للمحاكمة وسوف يتابع الأخبار، لكنه شدد على أنها "ليست محور اهتمامه"، وأضاف أن الرئيس سوف يركز على خفض الأسعار للشعب الأمريكي، في مؤشر على محاولة بايدن توظيف المحاكمة لتعزيز شعبيته.
وبينما كان ترامب يستعد لتسليم نفسه للسلطات في نيويورك، سافر بايدن، في 4 إبريل، إلى منشأة تصنيع في مينيسوتا، في إشارة إلى تركيز الإدارة الديمقراطية على تعزيز الصناعة الأمريكية والقضاء على البطالة، في الوقت الذي ينشغل فيه الجمهوريون بمهاجمة النظام القضائي الأمريكي. كما تجنب الرئيس بايدن، في 31 مارس 2023، التعليق على سؤال وجه له حول تأثير لائحة اتهام ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية.
7- قدرة ترامب على الترشح رغم الاتهامات: تشير تقديرات إلى أن الاتهامات الموجهة لترامب لن تعوقه عن الترشح للسباق الانتخابي لعام 2024، إذ لا يوجد ما يمنع في الدستور الأمريكي من خوض مرشح للانتخابات أثناء تأديته سنوات العقوبة. فقد أطلق المرشح الاشتراكي يوجين عام 1920، حملة انتخابية للرئاسة، وحصل على ما يقرب من مليون صوت، وذلك أثناء وجوده في السجن الفدرالي في أتلانتا. وخلال عامي 2002 و2004، حاول النائب عن ولاية أوهايو، جيمس ترافيكانت، الترشح لمنصبه القديم على الرغم من إدانته في محكمة اتحادية بالابتزاز والرشوة والتهرب الضريبي.
استقطاب ثنائي حاد
يلاحظ أن المحاكمة عززت الاستقطابات الحزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- اصطفاف الجمهوريين خلف ترامب: اصطف أغلب الجمهوريين خلف ترامب، وشككوا في نزاهة القضاء، ومن أبرز الدلالات على ذلك ما يلي:
أ- دعم أعضاء بمجلس النواب: حشد ترامب دعم 37 جمهورياً في مجلس النواب، وأغلبهم أعضاء باللجنة القضائية ولجنة الرقابة بالمجلس، ولذلك من المتوقع أن يسعى ترامب إلى دفع اللجنتين للتحقيق مع بايدن وبراغ، ولاسيما وأن المجلس يتمتع بسلطات تحقيق واسعة النطاق؛ حيث يمنح التعديل الرابع عشر الكونغرس سلطة التحقيق فيما إذا كانت الدول تنتهك حقوق مواطنيها.
وفي هذا الإطار، أكد رئيس مجلس النواب الجمهوري، كيفن مكارثي، أنه سيدفع الكونغرس لمساءلة مكتب ادعاء مانهاتن؛ حيث إن رئيسه براغ استخدم نظام العدالة كسلاح ضد ترامب، وأن الديمقراطي براغ استغل سلطاته للتحقيق مع ترامب والتدخل في الانتخابات الرئاسية، أي محاولة التأثير في شعبية ترامب قبل الانتخابات القادمة.
ب- لائحة اتهام زائفة ومُسيسة: اصطف العديد من الجمهوريين للدفاع عن ترامب، فقد اعتبرت الجمهورية، كيم رينولدز، حاكمة ولاية أيوا، والنائب الجمهوري، ستيف سكاليس، أن "لائحة اتهام دونالد ترامب زائفة"، وأضاف الأخير أن الديمقراطيين المتطرفين يقومون بتسليح الحكومة لمهاجمة خصومهم السياسيين. وأكدت النائبة الجمهورية، مارجوري تايلور جرين "أن ترامب هو الرجل الوحيد الذي يقف في طريق الديمقراطيين الذين يقاتلون للاستيلاء على السلطة"، في إشارة إلى أن بايدن يسعى للتأثير في شعبية ترامب قبل الانتخابات الرئاسية القادمة إدراكاً منه بأنه سيخسر أمامه، ولذلك عمد إلى تحريك هذه المحاكمة ضده.
2- دعم الديمقراطيين لنزاهة القضاء: تجنب الديمقراطيون مهاجمة ترامب حتى لا تزداد شعبيته، وركزوا دفاعهم على تأكيد نزاهة القضاء الأمريكي وعدالته، ومن أبرز المؤشرات على ذلك ما يلي:
أ- الدفاع عن مصداقية القضاء: أكد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، أن ترامب سيحظى بمحاكمة عادلة تتبع الحقائق والقانون، مضيفاً: "إنه لا مكان في نظام العدالة لدينا لأي تأثير خارجي أو ترهيب في العملية القانونية"، في إشارة إلى احتجاجات مناصري ترامب.
ب- اتهام الجمهوريين بالتسييس: رد الديمقراطيون على اتهام الجمهوريين لهم بتسييس القضاء، بالتأكيد أنهم يستخدمون مناصبهم في مجلس النواب لصالح ترامب، وليس لصالح الشعب، وذلك بدعمهم لترامب بشكل غير مسؤول دون مراعاة خطورة التشكيك في النظام القضائي الأمريكي المستقل.
تداعيات عكسية للديمقراطيين
لم تؤد محاكمة ترامب، حتى الآن، إلى الإضرار بشعبيته، بل إن المحاكمة أدت إلى نتائج عكسية، فقد قدم أنصار ترامب الدعم له بطرق أخرى، يمكن أن تتلخص فيما يلي:
1- حملة تبرعات كبرى: سعت حملة ترامب الانتخابية لاستثمار الملاحقة الجنائية لترامب؛ حيث كشف الأخير بعد ساعات قليلة من مثوله أمام محكمة مانهاتن عن أن حملته نجحت في جمع أكثر من 10 ملايين دولار، وذلك خلال خمسة أيام انقضت منذ إدانة دونالد ترامب من قبل هيئة محلفين كبرى في نيويورك.
2- دعم الجمهوريين لترامب: كشفت استطلاعات الرأي الأسبوع الماضي عن زيادة شعبية ترامب، فقد أظهر استطلاع "تي جي" (TG) للناخبين الجمهوريين حول مرشح الحزب للرئاسة في العام 2024 بأن شعبية ترامب زادت بنحو 11% لتصل إلى 56%. وكشف استطلاع شركة "يوجاف" (YouGov) مطلع إبريل 2023 عن أن 52% من الجمهوريين مستعدون لدعم ترشيح ترامب، يليه حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، بنسبة دعم بلغت 21% فقط. ويعكس ما سبق وجود اقنتاع لدى الجمهوريين بأن محاكمة ترامب مسيسة.
وفي التقدير، يلاحظ أن قرار هيئة المحلفين في مانهاتن بتوجيه اتهامات جنائية إلى ترامب تتعلق جميعها بدفع أموال حول الصمت الانتخابي هو أمر أكد صحة مزاعم الجمهوريين بأن مقاضاة ترامب ما هي إلا اضطهاد سياسي وتدخل انتخابي لاستبعاده من السباق الانتخابي لعام 2024. كما أن هذه الاتهامات زادت الاحتقان السياسي في الولايات المتحدة، ففي حين يؤمن الديمقراطيون بأن استدعاء ترامب للقضاء يحقق مبدأ "الجميع سواسية أمام القانون" بما فيهم الرؤساء السابقون، فإن الجمهوريين باتوا ينظرون إلى محاكمته باعتبارها مؤامرة من المدعي العام الديمقراطي براغ، لإحباط إمكانية عودة ترامب للسباق الرئاسي في 2024.