في أكتوبر 2021، قام قادة الجيش السوداني، بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان، بانقلاب أطاح بالحكومة التي تولت السلطة في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس عمر البشير وحكومته الإسلامية في إبريل 2019. ومنذ ذلك الحين، غرقت البلاد في حالة من الفوضى، مع نضوب المساعدات الدولية وأصبح نقص الخبز والوقود أمراً روتينياً. ولوضع حد للمشهد السياسي المضطرب في السودان، بعد شهور من المفاوضات، وقعت قوى سياسية مختلفة، ولاسيما كتلة المعارضة المدنية، وقوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي، والنظام العسكري، اتفاقية إطارية في 5 ديسمبر 2022.
وقد حاولت الصفقة تلبية مطالب المتظاهرين، مثل التخلص من دور الجيش في الحكومة والتجارة. كما طرحت الاتفاقية فترة انتقالية مدتها سنتان في ظل حكومة يقودها مدنيون قبل إجراء الانتخابات. وبالفعل بعد 3 أشهر من المفاوضات الشاقة حول تفاصيل هذه الصفقة وبرعاية دولية، توصل القادة العسكريون والجماعة الرئيسية المؤيدة للديمقراطية في البلاد إلى اتفاق لنقل السلطة تدريجياً إلى المدنيين.
ومن المقرر توقيع التسوية السياسية النهائية في 11 إبريل، مع تشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية في نفس اليوم. كما سيتم التوقيع على دستور انتقالي جديد في أوائل إبريل. وسوف تقوم لجنة مؤلفة من 11 عضواً بصياغة الاتفاقية النهائية، وستضم 9 ممثلين عن القوى المدنية الموقعة، وممثلاً واحداً عن الجيش، وممثلاً آخر عن قوات الدعم السريع. وفي هذا الإطار يستعرض هذا المقال آفاق التحول الديمقراطي في السودان.
مشهد سياسي معقد
يتسم المشهد السياسي في السودان بالتعقيد والتشابك الشديد، وتواجه البلاد تحديات كبيرة وهي تنتقل نحو الديمقراطية. في حين يُنظر إلى نقل السلطة إلى المدنيين على أنه تطور إيجابي، لا تزال العديد من الجهات السياسية الفاعلة الرئيسية والشبكات المؤيدة للديمقراطية تعارض الصفقة الجديدة، ولا تزال القضايا السياسية العاجلة من دون حل.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك ارتفاع في العنف الطائفي في السودان، حيث نُسب أكثر من 86% من الوفيات المبلغ عنها العام الماضي إلى المليشيات القائمة على الهوية القبلية. علاوة على ذلك، لا يزال الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا في منطقة الفشقة يخلق توترات بين البلدين. وتُظهر هذه التحديات أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لمعالجة الاضطرابات السياسية المستمرة في السودان. وتتمثل أهم تحديات الصفقة الإطارية فيما يلي:
1- غياب بعض الأطراف الفاعلة: رفضت العديد من الأطراف السياسية الفاعلة الصفقة الجديدة. ومن بين المعارضين للاتفاق: التيار الإسلامي العريض "تنظيم الإخوان المسلمين وواجهاته المختلفة"، والكتلة الديمقراطية، ورئيس تنسيقية شرق السودان، والحزب الشيوعي، وأغلبية لجان المقاومة، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وقوى الحركة الوطنية، والعديد من قادة المتمردين السابقين الذين وقعوا اتفاق جوبا للسلام. وأعرب البعض عن قلقهم من أن الاتفاقية الجديدة تسهل استمرار الجمود الحالي، لأنها لا تتناول قضايا مثل العدالة الانتقالية، والمساءلة، وإصلاح قطاع الأمن. كما تعتقد جماعة الإخوان المسلمين والتيارات المتحالفة معها أن الاتفاقية الجديدة تدفع باتجاه "علمنة الدولة".
وبينما يُعد اتفاق نقل السلطة تدريجياً إلى المدنيين تطوراً إيجابياً، فإن بعض الفاعلين السياسيين الرئيسيين والشبكات الشعبية المؤيدة للديمقراطية لا يزالون يعارضون الصفقة، ولا تزال العديد من القضايا السياسية الأكثر إلحاحاً في السودان دون حل. ومع ذلك من المرجح أن يكون توقيع التسوية السياسية النهائية، وتشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية، وإصدار دستور انتقالي جديد بمثابة معالم مهمة وفارقة في انتقال السودان إلى الديمقراطية. ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لمواجهة التحديات المستمرة في البلاد.
2- تصاعد العنف العرقي: شهد عام 2022 تصاعداً في أعمال العنف الطائفي في السودان، حيث تسبب نشاط المليشيات القائم على الهوية العرقية والقبلية في أكثر من 86% من الوفيات المبلغ عنها. وعانت منطقة دارفور أكثر من غيرها حيث نفذت مليشيات الرزيقات هجمات انتقامية ضد الجماعات العرقية الأخرى، مما أدى إلى مقتل ما يقرب من 500 شخص في غرب دارفور وحدها. وعلى مستوى المجتمع المحلي، أدت ضغوط الموارد والأراضي إلى زيادة العنف المرتبط بملكية الأراضي والوصول إليها.
ومن جهة أخرى فإنه على الرغم من توقيع الحكومة الانتقالية السودانية على اتفاق جوبا للسلام في السودان في أغسطس 2020 مع الجماعات المتمردة الرئيسية، بما في ذلك وقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية في دارفور، فقد استمرت الاشتباكات الدامية في المنطقة.
وقد تضاعفت أحداث العنف السياسي في ولاية غرب كردفان المجاورة، حيث قتلت مليشيات المسيرية العرقية المدعومة من قوات الدعم السريع مليشيات النوبة والداجو العرقية في لقاوة وذلك بسبب الأراضي المتنازع عليها، مما أسفر عن مقتل العشرات وإصابة الآلاف. وشهدت ولاية النيل الأزرق أيضاً ارتفاعاً ملحوظاً في أحداث العنف السياسي والقتلى حيث تنازعت المليشيات العرقية المسلحة من أجل الوصول إلى الأراضي وملكيتها، مما أدى إلى سقوط مئات الضحايا ونزوح عشرات الآلاف من الأشخاص. ولم يؤد فراغ السلطة الناتج عن الانقلاب العسكري في عام 2021 ووجود العديد من الجماعات المسلحة في مناطق الأطراف إلى تصعيد العنف بين الطوائف فحسب، بل سهّل أيضاً الزيادة السريعة في عدد المليشيات العرقية.
3- نزاع الفشقة الحدودي: لا يزال الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا يمثل مصدر توتر بين البلدين. وتقع المنطقة المتنازع عليها في الجزء الشرقي من ولاية القضارف بالسودان والحدود الغربية لمنطقتي أمهرة وتيجراي في إثيوبيا. ويدعي كلا البلدين ملكية الأرض التي تبلغ مساحتها 260 كيلومتراً مربعاً، والتي تُعرف بمنطقة ميزيجا في إثيوبيا.
وقد أسهم عدم وجود ترسيم سياسي للحدود منذ عهد الاستعمار في استمرار الصراع. وفي يونيو 2022، تصاعد الموقف عندما اتهم الجيش السوداني القوات الإثيوبية باختطاف وإعدام 7 جنود سودانيين بالإضافة إلى مدني واحد. وأدى ذلك كله إلى قصف الجيش السوداني لمناطق عبر الحدود. وعلى الرغم من الحادث، انخفض العدد الإجمالي لأحداث العنف السياسي والوفيات المبلغ عنها في المنطقة في عام 2022 مقارنة بعام 2021. وفي يناير 2023، زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد السودان، مما قد يكون علامة ومؤشراً على انخفاض التوترات الحدودية بين البلدين.
الرهان على "حميدتي"
بينما يجد السودان نفسه على أعتاب انتقال جديد من الحكم العسكري، ظهر الجنرال محمد حمدان دقلو "حميدتي" في طليعة الانتقال المخطط نحو الديمقراطية. ويقود "حميدتي" عشرات الآلاف من المقاتلين في قوات الدعم السريع شبه العسكرية، ويُعد شخصية رئيسية ذات بأس شديد في الجيش والحكومة السودانية لعدة سنوات. ولقد أظهر الرجل مهارات قيادية قوية وخبرة في الحكم، مما قد يكون مفيداً في تحقيق الاستقرار في السودان وفقاً لتقاليد وثقافة الرجل الكبير كما تعرفها التقاليد الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
ومع ذلك، فإن ماضي "حميدتي" مثير للجدل، كما أن مشاركته في قوات الدعم السريع، التي اتُهمت بقيادة عمليات قتل المتظاهرين، أثارت مخاوف الحركة المؤيدة للديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، قد تصعب خلفيته العسكرية إمكانية تبنيه المبادئ الديمقراطية بشكل كامل، والعمل بفعالية مع القادة المدنيين. كما تثير تعبئة "حميدتي" الأخيرة للقوات التابعة له وحشدها في بعض معسكرات الخرطوم مخاوف بشأن نياته، وما إذا كان يسعى إلى تعزيز سلطته. حيث يشعر الكثيرون في الحركة المؤيدة للديمقراطية في السودان بعدم الارتياح بشأن مكانته البارزة في الحملة الانتقالية الجديدة، وقد يتردد بعض أعضاء المجتمع الدولي في دعمه بسبب ماضيه المثير للجدل وخلفيته العسكرية.
وعلى الرغم من كل هذه المخاوف، أظهر "حميدتي" قدرته على توجيه اتفاق سلام مع العديد من المتمردين الذين حاربهم في دارفور، وتولي زمام المبادرة في القضايا الاقتصادية في السودان. كما عزز العلاقات الخارجية مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، والتي يمكن أن تجلب الاستثمار الأجنبي والمساعدات التي تشتد الحاجة إليها في السودان.
وعليه، في حين أن دور "حميدتي" المستقبلي في السودان غير مؤكد، فمن الواضح أن ماضيه المثير للجدل وخلفيته العسكرية مدعاة للقلق. ومع ذلك، لا يمكن التغاضي عن خبرته في الحكم ومهاراته القيادية القوية وقدرته على تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في السودان. يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكانه تبني المبادئ الديمقراطية بشكل كامل والعمل بفعالية مع القادة المدنيين. وربما تبشر جهوده نحو توجيه اتفاق سلام وإقامة علاقات خارجية بمستقبل واعد لمستقبل السودان.
تأثير الرباعية الدولية
في أعقاب انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، ابتكرت قوى تحالف الحرية والتغيير 3 مسارات متزامنة لمواجهة هذا العمل الانقلابي: (1) القيام بانتفاضات شعبية جماهيرية واحتجاجات في الشوارع، (2) محاولة الحصول على الدعم الدولي والتضامن الإقليمي، (3) العمل على نقل السلطة إلى المدنيين من خلال اتجاه ديمقراطي جديد.
ومن المعروف أن الوساطة هي أداة قيمة لحل الصراعات والنزاعات بين الأطراف، ودور الطرف الثالث يعد أمراً حاسماً في نجاح عملية الوساطة. ويقوم الطرف الثالث، الذي يشار إليه غالباً باسم الوسيط، بدور مهم في تسهيل التواصل وبناء الثقة وإيجاد أرضية مشتركة بين الطرفين. كما تساعد حيادية الوسيط ونزاهته وخبرته في خلق بيئة آمنة وبناءة للمفاوضات.
وفي الحالة السودانية تم تشكيل "اللجنة الرباعية من أجل السودان" من قبل كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد سعت هذه المجموعة منذ نشأتها إلى تنسيق الضغط لإعادة السلطة إلى المدنيين وإنهاء حالة الطوارئ والتفاوض مع الجيش لإلغاء الإجراءات الاستثنائية التي فرضت بعد الانقلاب.
ومن أجل الضغط على المكون العسكري، قادت الولايات المتحدة على وجه الخصوص حملة دولية لعزل عناصر الحكم العسكري، ومنع الاعتراف بهم كقادة للبلاد. وشمل ذلك تجميد جميع المساعدات والقروض التي كان السودان قد استفاد منها في الماضي. وسرعان ما اتضحت عواقب الضغط الدولي على قادة الانقلاب.
لقد أفضى الوضع الاقتصادي المزري الذي عاشته البلاد نتيجة الانقلاب والاستنكار الشعبي المتزايد للانقلابيين الذي تم التعبير عنه في الشوارع إلى تضييق الخناق على النخبة العسكرية الحاكمة. وقد أجبر ذلك كله السلطات على الرد بإيجابية على مبادرة قادها فريق وساطة، تألف من فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان، ومحمد بلعيش مبعوث الاتحاد الإفريقي، وإسماعيل وايس رئيس بعثة الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" في السودان.
ومع تقدم المفاوضات، بدأ العسكريون تدريجياً في تقليص مطالبهم، مما أدى إلى محاصرتهم داخلياً ودولياً. ويعزو البعض هذا التراجع التدريجي إلى فشل النخبة العسكرية في إدارة شؤون الدولة بسبب افتقارها للخبرة السياسية وغياب الدعم السياسي الذي يساعدها في إدارة الشؤون العامة. وسرعان ما أدرك العسكريون أن الحفاظ على سلطتهم سيستمر في التأثير سلباً في المجتمع بسبب تدهور أداء الإدارات العامة وعدم قدرتها على السيطرة على الأزمة المالية، والتي قد تؤدي في النهاية إلى إسقاطهم في الشارع.
أجبرهم ذلك كله على التنازل عن العديد من مطالبهم طوال فترة المفاوضات. وقد استخدمت الرباعية الدولية من أجل السودان نهج العصا والجزرة مع العسكريين طوال هذه العملية. فقد قدمت العديد من الوعود إلى السودان باستئناف المساعدات والقروض والاستثمارات الأجنبية إذا تم التوصل إلى اتفاق لإعادة تنصيب حكومة مدنية، على الرغم من تشديد إجراءات العزلة الدولية المفروضة على السودان كما ظهر في قرار مجلس الأمن الدولي بتمديد العقوبات الدولية المفروضة على السودان عاماً واحداً وذلك أوائل مارس 2023. في المقابل وعدت الرباعية بتنظيم "دعم اقتصادي كبير" للإدارة الانتقالية بمجرد توقيع وتنفيذ المسار المنصوص عليه في الاتفاقية الإطارية.
وفي الختام، فإنه بصرف النظر عن التحديات المستمرة التي تواجه السودان في مساره نحو الديمقراطية، فإن البعض يرى في الجنرال "حميدتي" قوة تؤمن بالانتقال الديمقراطي في السودان. لقد قاد الجنرال حميدتي جهوداً للتحول إلى دولة مدنية وله دور مهم في تحقيق السلام والتفاوض مع العديد من الجماعات المختلفة. كما أن دور الطرف الثالث والرباعية الدولية، المتمثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يُعد أيضاً أمراً حاسماً في دعم عملية الانتقال الديمقراطي في السودان وتعزيز الاستقرار في المنطقة. لذلك، يجب على السودان وشركائه الدوليين العمل بجد لتجاوز التحديات المستمرة والاستمرار في دعم العملية الديمقراطية في السودان، حتى يتمكن البلد من تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.