مع دخول الحرب الأوكرانية عامها الثاني، ما تزال الإدارة الأمريكية عازفة عن تحديد رؤيتها لكيفية وضع نهاية لهذه الحرب، موجهة تركيزها على فرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا وضخ المزيد من الأسلحة الحديثة لكييف، والضغط على الحلفاء لفعل ذلك. ولا يبدو أن أياً من الطرفين مستعد للتفاوض، بل يسعى كلاهما لشن هجمات كبيرة. ولم ينجح أي من الطرفين في تحقيق انفراجة كبيرة في الأشهر الأخيرة من شأنها أن تغير مسار هذه الحرب. وقد أدى إخفاق روسيا في الفوز بالحرب الخاطفة في البداية إلى إثارة العديد من التكهنات بشأن انتصار أوكراني وشيك، لم يتحقق حتى الآن. كما ظهرت مخاوف من دخول واشنطن وموسكو في مواجهات مباشرة بعد حادثة اصطدام مقاتلة روسية بطائرة مُسيّرة أمريكية فوق البحر الأسود يوم 14 مارس 2023.
رؤى أطراف الصراع:
منذ البداية، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في أوكرانيا على أنها صراع وجودي ضد ما يُسمى "قوى الشر"، وأن عدم مواجهة روسيا سيؤدي إلى عواقب وخيمة على واشنطن والعالم، خاصة أولئك المدافعين عن القيم الليبرالية. وجاءت زيارة الرئيس جو بايدن لكييف في 20 فبراير 2023 ودعوته قادة العالم خلالها إلى دعم أوكرانيا وتعهده بمواصلة إمدادها بمزيد من الأسلحة، لترسخ هذا التوجه الأمريكي بالمُضي قُدماً في تقديم أشكال الدعم كافة لكييف، مع إدارة مخاطر التصعيد والحرص على عدم توسيع ميدان الحرب، مما قد يقود في النهاية إلى قبول روسيا بالهزيمة واستعادة أوكرانيا كامل سيادتها على أراضيها بحدود عام 1991، وفقاً للتصور الأمريكي.
ومن جانبها، ما تزال النخبة الروسية ترى أن الحرب ضد أوكرانيا ليست توسعية، كما يدّعي الغرب، بل هي حرب وجودية من أجل بقاء الدولة ذاتها. وما تزال موسكو واثقة في الخروج من هذه المعركة منتصرة، خاصة في ضوء الدعم الشعبي داخل روسيا للحرب، ونتائج استطلاعات الرأي التي تظهر استمرار تمتع الرئيس فلاديمير بوتين بشعبية واضحة تزايدت مع تواصل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، مما جعل أغلبية المواطنين – والنخبة السياسية التي تحفظت على الحرب في البداية – تتماهى مع الخطاب السياسي للقيادة الروسية، خاصة مع تصاعد الخطاب العدائي الغربي ضد موسكو وفرض عقوبات شديدة عليها. وتشير العديد من التقديرات الغربية إلى أنه "لا يوجد في روسيا من يدعم أي شكل من أشكال التنازلات الإقليمية من خلال عملية تفاوضية، وأن النخب في البلاد لن تجرؤ على الانقلاب على بوتين، الذي يظل أفضل رهان لها للحفاظ على النظام والأمن، على الرغم من إخفاقاته". وتضيف التقديرات أنه لا يوجد أحد في النخبة الروسية يدعم الانسحاب إلى مواقع ما قبل بدء الحرب في 24 فبراير 2022، وأن أقصى ما يمكن قبوله هو تجميد الصراع من خلال اتفاق مؤقت مع الغرب.
وفي تقييمه لاستراتيجية وسياسة روسيا في الظروف الحالية، بعد أكثر من عام على بدء العملية العسكرية الخاصة، يقول ديميتري ترينين، مدير مركز كارنيغي موسكو الذي أُغلق مع بدء الحرب، إن نتيجة الصراع كانت بالفعل تغييراً جذرياً في البيئة الخارجية لروسيا، فقد أصبحت علاقاتها السياسية مع الغرب وحلفائه عدائية، مؤكداً أن الصراع المسلح في أوكرانيا هو حرب يقودها الغرب بالوكالة ضد روسيا. ويرى ترينين أن الحرب ليست مجرد أزمة عادية في علاقات موسكو بجيرانها الغربيين، كما كان الحال منذ روسيا القيصرية، لكنها "صراع عميق طويل الأمد له عواقب طويلة الأجل".
أما فيما يتعلق بأوكرانيا، فما يزال الرئيس فولوديمير زيلينسكي يرى طريقين ممكنين للخروج من الوضع الحالي؛ الأول هو التعجيل بالانضمام إلى حلف "الناتو"، وهو ما حدث من الناحية الفعلية في ضوء ما نراه من حماس الحلف ووحدته حول هدف دعم أوكرانيا، ومع ذلك، لا يبدو أن الحلف في عجلة من أمره لضم أوكرانيا رسمياً. أما الطريق الثاني الممكن للخروج فهو أن تصبح أوكرانيا "إسرائيل أخرى"، كما أشار زيلينسكي في العام الماضي، بمعنى أن تكون مُسلحة بكثافة بأسلحتها الخاصة والغربية، وفي حالة جاهزية كاملة لحرب واسعة النطاق. ويقتضي ذلك أن يكون لدى كييف قوة جوية قوية للغاية، وأنظمة دفاع صاروخي، ومجمعات صواريخ بعيدة المدى، وهو ما يلح عليه الرئيس الأوكراني في مناشداته للحلفاء. وكان لافتاً أن يصرح أمين عام حلف "الناتو" لإحدى محطات التلفزة الألمانية، على هامش مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن في 20 فبراير 2023، بأن الحلف رفض طلباً لأوكرانيا لإمدادها بقنابل عنقودية وأسلحة فسفورية، مضيفاً أن هذين النوعين من الأسلحة محل جدل كبير وأن القنابل العنقودية محظورة بموجب القانون الدولي.
على أية حال، وبحسب تحليلات غربية، نجحت حكومة زيلينسكي في الحصول على "كميات تاريخية من المساعدات الغربية"، بجانب معلومات استخباراتية "حيوية" و"متطورة "، وصفها مدير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية بأنها "ثورية" و"غير مسبوقة"، وأنها كانت ذات أهمية في عدة نقاط محورية في الحرب، وأعطت كييف الوقت الكافي للإعداد للدفاع وشن هجمات مضادة.
تقييم الأداء الروسي:
منذ بدء الحرب الأوكرانية وحتى الآن، حظي الأداء العسكري الروسي باهتمام العديد من المحللين الغربيين الذين أكد بعضهم ضعف هذا الأداء، خاصة التحليلات المبكرة حول الحرب. ومع ذلك ذهبت تحليلات أخرى غربية أيضاً إلى تأكيد أن روسيا ما تزال قوة صناعية كبرى وتمتلك جيشاً قوياً، وإمكانات عسكرية كبيرة، وأنه على الرغم من إخفاقاتها في أوكرانيا، لا تزال روسيا خصماً هائلاً، يمتلك أراضي شاسعة، وموارد طبيعية هائلة، وثقافة قوية وسليمة وشعباً مثقفاً ووطنياً مفتوناً بمكانة بلده التاريخية كقوة عظمى، ولا تزال روسيا تمتلك أقوى ترسانة نووية في العالم.
وتضيف تقديرات الخبراء أن القوات المسلحة الروسية تتعلم من أخطائها، وقد أمكنها تنفيذ بعض أنواع العمليات المعقدة، مثل الضربات التي تعطل البنية التحتية الحيوية لأوكرانيا، وهو ما تجنبته خلال المرحلة الأولى من الحرب. كذلك أجرى الجيش الروسي تعديلات كبيرة على استراتيجيته مثل تقليص أهدافه، وتعبئة أفراد جدد، بالإضافة إلى التعديلات التكتيكية، مثل استخدام أدوات الحرب الإلكترونية التي تشوش الاتصالات العسكرية الأوكرانية. ويمكن للقوات الروسية أيضاً الحفاظ على كثافة قتالية أعلى من معظم الجيوش الأخرى، كما تعمل بمزيد الاتساق والاستقرار منذ التحول إلى الدفاع في أواخر عام 2022، مما جعل من الصعب على القوات الأوكرانية التقدم. ولعل ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 أدى إلى تحويل البحر الأسود فعلياً إلى بحيرة روسية. ومع وجود 28 ألف جندي في شبة الجزيرة، بدعم من نظام الدفاع الجوي "S-400" وبطاريات صواريخ "كروز" المضادة للسفن، فإن روسيا في وضع جيد للهيمنة على منطقة البحر الأسود.
مواقف "الجنوب العالمي":
بعيداً عن مواقف الأطراف المباشرة للصراع الأوكراني، بقيت الأغلبية الساحقة من الدول النامية، أو ما يُسمى بـ"الجنوب العالمي"، على الهامش، مقّدرة أن هذه الحرب ليست معركتها، بالرغم من آثارها الواسعة على قضايا مثل الأمن الغذائي وأسعار الطاقة وارتفاع معدلات التضخم. وقد فضلت هذه الدول عدم مقاطعة موسكو وتعريض مصالحها معها للخطر.
وحسب تقديرات غربية، فإنه بعد مرور أكثر من عام على الحرب الأوكرانية، لا يمكن الادعاء بأن روسيا معزولة دولياً، بالرغم من ضغوط الغرب الهائلة. فقد فرضت 34 دولة فقط عقوبات على موسكو منذ بدء الحرب، وما تزال روسيا تتمتع بنفوذ في جوارها المباشر مع العديد من دول الفضاء السوفيتي السابق، على الرغم من رغبة هذه الدول في الحفاظ على مسافة من موسكو والحرب. وتواصل روسيا بناء علاقات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. وامتنعت الصين، إلى جانب الهند ودول رئيسية أخرى في جنوب الكرة الأرضية، عن التصويت لصالح أوكرانيا في الأمم المتحدة. كما أن التجارة بين روسيا وبعض هذه الدول ازدادت - وبشكل كبير في بعض الحالات – منذ بداية الصراع الأوكراني، وبالمثل ما تزال هناك 87 دولة يدخلها المواطنون الروس بدون تأشيرة أو بتأشيرة عند الوصول، بما فيها تركيا ومصر وإسرائيل وتايلاند والأرجنتين والمكسيك وفنزويلا.
ومع ذلك، يجب أن يكون واضحاً أن غالبية هذه الدول التي حافظت على شراكتها مع روسيا، ليست تكتلاً داعماً أو حليفة لموسكو، حيث تسترشد في علاقاتها بها بمصالحها الوطنية في المقام الأول، وهي مندمجة بعمق في الاقتصاد العالمي والمؤسسات الدولية التي تتمحور حول الغرب، والتي تخدمها، وهو ما يشكل قيداً لا يُستهان به على تفاعل تلك الأغلبية مع روسيا بسبب الحرب الاقتصادية والسياسية من قِبل الغرب.
من ناحية أخرى، اكتسبت الروايات الروسية حول الحرب الأوكرانية، زخماً في الجنوب العالمي، حيث يتمتع بوتين بنفوذ أكثر من الغرب. وتبرر التقديرات النجاح "المحدود" للغرب في مواجهة الرسائل الروسية المؤثرة خارج أوروبا، بأنه لم يقم بصياغة رواية متماسكة حول الحرب وسبب دعمه العسكري المكثف لكييف، والحديث دائماً عن سردية "الديمقراطيات" و"الأنظمة الاستبدادية". وقد شدد القادة وكبار المسؤولين الغربيين على هذه السردية في مداخلاتهم في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير الماضي.
ماذا بعد؟
بالنظر إلى المعطيات الحالية والحقائق على الأرض، يخلص العديد من الكتّاب، ومنهم الأمريكيون وغيرهم، إلى القول إن الأمر يتعلق بحرب طويلة الأمد، تتركز في شرق وجنوب أوكرانيا، بالرغم من أن روسيا ستحتفظ بالقدرة على مهاجمة أهداف أخرى. ووفقاً لهؤلاء، يتعين على صُناع السياسة الغربيين أن يُعدوا أنفسهم لذلك، وأن أدوات السياسة المتاحة لديهم مثل المساعدات العسكرية والعقوبات، لن تتغير بغض النظر عن أمد الحرب. وفي تقدير بعض هؤلاء الكتّاب، ومنهم ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، يجب على الولايات المتحدة وشركائها في حلف "الناتو" التشاور حول أهداف الحرب، وأنه في المدى القريب من غير المرجح أن ينطوي النجاح الغربي في المعركة على معاهدة سلام، أو وضع نهاية حقيقية للصراع أو تغيير النظام في روسيا.
وفي هذا السياق، يُشار إلى أن طول أمد الحرب الأوكرانية هو سيناريو قد يناسب روسيا، التي تستفيد في ذلك من المزايا التي توفرها لها مساحتها الهائلة، واقتصادها المرن، وصعوبة تعرضها لضربات انتقامية من الخصم. ومن وجهة نظر الرئيس بوتين، فإن مثل هذه الاستراتيجية قابلة للتطبيق في المرحلة القادمة من الحرب، حيث لا يواجه ضغوطاً تُذكر في الداخل الروسي. وربما يراهن بوتين على أن أوكرانيا لن تكون قادرة في النهاية على تحمل حرب استنزاف حقيقية، وأن الغرب سيفقد صبره ويحد من دعمه لكييف.
وعلى الجانب الآخر، لا يبدو أن الولايات المتحدة أو حلفاءها في "الناتو" مستعدون للانخراط مباشرة في الحرب الحالية. ويترك ذلك واشنطن والحلفاء دون أي خيارات جديدة مع دخول الحرب عامها الثاني، وذلك باستثناء المزيد من الدعم العسكري والأمني في أفضل الأحوال. ولكن ثمة مخاوف من أن تتعدى هذه الحرب النطاق الأوكراني، وخاصة بعد أن ازداد التوتر في منطقة البحر الأسود منذ اندلاع الحرب، حيث تستخدم الولايات المتحدة طائرات مُسيّرة للمراقبة في هذه المنطقة. وشهد يوم 14 مارس 2023 أعنف احتكاك بين الجانبين الروسي والأمريكي منذ بداية الحرب، حيث أفادت القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي بأن مقاتلة روسية من طراز "Su-27" اصطدمت بطائرة أمريكية مُسيّرة من نوع "MQ-9 Reaper" فوق البحر الأسود، ووصف الجيش الأمريكي هذا الحادث بـ"المتهور". وفي أعقاب ذلك، أعلنت واشنطن استدعاء السفير الروسي. بينما ذكر الجيش الروسي أن اثنتين من مقاتلاته اعترضتا طائرة مُسيّرة أمريكية بالفعل، لكنه أكد أنهما لم تصطدما بها ولم تتسببا في سقوطها، خلافاً لما أعلنته واشنطن.
ويعتقد كتّاب أمريكيون كُثر أن الحرب في أوكرانيا أكثر من مجرد الحرص على سيادة هذه الدولة ضمن حدودها الدولية، حيث يتعلق الأمر أيضاً بالقواعد والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية من المنظور الأمريكي. ويضيف هؤلاء أن ما فعله الرئيس بوتين في أوكرانيا وضع الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية في أوروبا وأماكن أخرى في موقف دفاعي، إلا أنه يعطي واشنطن أيضاً فرصة لإعادة صياغة رؤيتها بشأن نظام عالمي يتوافق ومصالحها، والسعي إلى توسيع تحالفاتها، وتقديم رؤية لنظام دولي معّدل يسعى إلى استيعاب أكبر عدد ممكن من الدول والشعوب معاً في أشكال جديدة من التعاون تخدم تلك المصالح.
ومع ذلك، يُغفل هؤلاء حقيقة أنه كثيراً ما انتهكت الولايات المتحدة النظام الذي أنشأته وتقوده منذ عام 1945، وأن حرب العراق مثال مرير وكارثي على تقويض واشنطن لهذا النظام. كذلك كثيراً ما استخدمت الولايات المتحدة مكانتها المتميزة لتفسير القواعد المتعددة الأطراف لصالحها والتصرف بالإرادة المنفردة لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية ضيقة. والواقع أن دفاع روسيا عن موقفها من الحرب في أروقة الأمم المتحدة وغيرها، يتركز أساساً حول هذه المسألة، وبصفة خاصة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والحروب في أفغانستان والعراق، وعملية "الناتو" في ليبيا، والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتغاضي الولايات المتحدة عنها، حيث تثير هذه السياسة مفهوم ازدواجية المعايير التي يتبعها الغرب في ملفات وقضايا عديدة.