يتفق الباحثون في العلاقات الدولية على أن تعرض الدول لكوارث طبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير، يمكن أن يؤدي إلى تغير في سياساتها الخارجية. وبالطبع، فإن هذا التغير يتوقف على حجم الكارثة ونطاقها الجغرافي وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً على حجم عناصر قوة الدولة من موارد طبيعية وبشرية، واستقرار سياسي واجتماعي. وظهرت في هذا السياق، مفاهيم مثل "دبلوماسية الكوارث" وإدارة حالات الطوارئ في الظروف الاستثنائية، و"دبلوماسية إعادة الإعمار". وتشير هذه المفاهيم إلى السياسات التي تتبعها الدولة لحشد أكبر قدر من المساعدات الخارجية لمواجهة الآثار المباشرة للكارثة ابتداءً ثم لإعادة التعمير والبناء تالياً.
وينطبق هذا التحليل على كارثة الزلزال الذي أصاب تركيا في 6 فبراير 2023، وما أعقبه من مئات الارتدادات العكسية وصولاً إلى زلزالين آخرين في العشرين من نفس الشهر. فقد أعلنت تركيا حالة الطوارئ من الدرجة الرابعة، والتي تعني طلب المساعدة الخارجية، وهو ما تحقق وشاركت فرق بحث وإنقاذ ورفع أنقاض من أكثر من 100 دولة، إضافة إلى المساعدات الإغاثية وتخصيص الأموال لدعم جهود إعادة البناء.
ووجهت هذه الكارثة ضربة قاسية لاقتصاد تركيا واستقرارها الاجتماعي، حيث أصابت عشر ولايات يسكنها 13.5 مليون ساكن أي نسبة 16% من إجمالي عدد السكان، وتسهم بنسبة 9% من إجمالي الناتج المحلي، و15% من حجم الإنتاج الزراعي، و9% من الناتج الصناعي. كما أدت الكارثة إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين من قراهم وديارهم، وإلحاق تدمير بالغ بالمباني والطرق ومظاهر البنية التحتية الأخرى، وهو ما وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 14 فبراير 2023 بأنه "أسوء كارثة طبيعية في القرن 21".
تغيرات خارجية:
يُثار في هذا الشأن تأثير الكوارث الطبيعية المُدمرة في سلوك الدولة المُتضررة، وعما إذا كان من شأن هذه الكوارث أن تؤدي إلى تغير في سلوكها الخارجي؟ وهل يكون من شأن ذلك التغير إعادة تحديد السياسة الخارجية للدولة أم مجرد إعادة ترتيب أولويات توظيفها لأدوات هذه السياسة؟ وبصفة عامة، يتفق المتابعون على أن الدول المتضررة عادة ما تعطي الأولوية في المرحلة الزمنية التالية لحدوث الكارثة لشؤونها الداخلية، وذلك على حساب اهتماماتها الخارجية، ويطرحون أيضاً أن هذه الكوارث تُقلل من قدرات الدولة المُتضررة اقتصادياً لفترة بسبب توجيهها للجزء الأكبر من مواردها لإعادة التعمير. ويترتب على ذلك انخفاض الموارد المُخصصة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. فماذا عن سياسة تركيا تجاه الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وما هي التغيرات المُحتملة في توجهاتها نحوها؟
فقد سارع الإعلام التركي المؤيد لحزب العدالة والتنمية الحاكم إلى إبراز صورة الرئيس أردوغان وهو يتصدر مشهد جهود الإنقاذ، ويدير الجهود الحكومية لمواجهة الكارثة، مؤكداً أن التضامن الدولي الهائل مع تركيا وخصوصاً من الدول العربية جاء ثمرة سياسات التهدئة التي تبناها أردوغان في السنوات القليلة الماضية.
تعزيز التهدئة:
على الأرجح أن التوجهات الرئيسية لسياسة تركيا الإقليمية سوف تستمر على حالها بحكم تعبيرها عن مفهوم الأمن القومي لتركيا لدى الرئيس أردوغان ونخبة حزبه الحاكم، وأن التغيرات التي يمكن أن تحدث سوف تكون على مستوى الأدوات والأساليب، وليس الأهداف. فعلى سبيل المثال، اتبعت تركيا سياسة مصالحة وتعاون تجاه دول الخليج العربية، وقام أردوغان بزيارات إلى السعودية والإمارات وقطر والكويت، وذلك لتحقيق هدفين؛ الأول فتح أسواق هذه الدول للسلع والبضائع التركية وتوسيع نطاق عمل الشركات التركية فيها، والثاني هو زيادة الاستثمارات الخليجية في تركيا.
وفي المُقابل، قام زعماء وقادة دول الخليج بزيارات لتركيا وضخ استثمارات كبيرة في اقتصادها. وسوف يستمر هذا الاتجاه؛ بسبب حاجة تركيا إلى الدعم المالي الخليجي في هذه الظروف من ناحية، وتطلع السعودية والإمارات إلى إقامة علاقات استراتيجية مع تركيا من ناحية ثانية. وكذلك قطر التي سوف تنتهج نهجاً مماثلاً لتوثيق أواصر التحالف مع أنقرة من ناحية ثالثة.
وأكد أردوغان أهمية العلاقات التركية الخليجية، في رسالته المُسجلة إلى مؤتمر القمة العالمية للحكومات في دبي يوم 14 فبراير 2023، والتي بدأها بتعبير "شُكراً محمد بن زايد.. شُكراً محمد بن راشد"، في إشارة إلى توجيهه الشكر والتحية إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، وإلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على الدعم الذي قدمته دولة الإمارات لتركيا في أعقاب كارثة الزلزال. وأضاف أردوغان: "في تركيا دائماً ما نقول إن استقرارنا وأمننا مرتبطان بشكل وثيق باستقرار وأمن منطقة الخليج". وجدير بالذكر أن الرئيس التركي كان قد سبق له توجيه الشُكر للسعودية على دعمها.
وتستمر أيضاً السياسة التركية تجاه مصر التي اتسمت بالرغبة في إنهاء الخلافات السياسية المُعلقة أو على الأقل تجميدها، مع العمل في نفس الوقت على زيادة المصالح الاقتصادية المشتركة، وهو الأمر الذي ظهر في المُحادثة الهاتفية بين الرئيسين المصري، عبدالفتاح السيسي، والتركي، أردوغان، في أعقاب الكارثة، وفي اجتماع رئيس الوزراء المصري، د. مصطفى مدبولي، في 15 فبراير 2023، مع وفد من الشركات التركية العاملة في مصر والراغبة في الاستثمار فيها.
وتجاوبت تركيا مع مبادرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سبتمبر 2022، لتحسين العلاقات مع النظام السوري، وعُقدت عدة لقاءات بين رئيسي جهاز المخابرات في البلدين أفضت إلى اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث في موسكو يوم 28 ديسمبر 2022. وربما يمكن تفسير هذا التغير التركي تجاه سوريا بالرغبة في استخدام دمشق لضبط حركة الأكراد على الحدود مع تركيا، خاصة بعد تأكدها من رفض كل من موسكو وواشنطن للقيام بعملية عسكرية برية ضخمة في الشمال السوري.
ومن أسباب التقارب التركي مع سوريا بعد كارثة الزلزال أيضاً، الرغبة في الإسراع بإعادة أكبر عدد من اللاجئين السوريين في تركيا والتراجع عن فكرة توطين مليون لاجئ سوري والتي تبناها حزب العدالة والتنمية سابقاً. وظهر هذا التقارب في موافقة أنقرة على فتح معبرين إضافيين هما باب السلامة، والراعي، وذلك إضافة إلى معبر باب الهوى؛ وذلك لتيسير دخول المعونات الإغاثية إلى سوريا. وتعهدت تركيا بفتح مجالها الجوي للطائرات التي تنقل المساعدات إلى سوريا، وذلك لأول مرة منذ عام 2012.
ولكن هذا الاتجاه نحو التقارب بين تركيا وسوريا يتطلب ضرورة الاتفاق بين البلدين على ترتيب الأوضاع في المناطق الخاضعة للنفوذ التركي في إدلب وحلب. ويتطلب أيضاً موافقة إيران، صاحبة النفوذ القوي على دمشق، على هذا التقارب، وأن تضمن ألا يكون ذلك على حساب نفوذها. وفي هذا الإطار، سعت طهران للاستفادة من كارثة الزلزال في سوريا، وقام قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، إسماعيل قاآني، بزيارة استعراضية لمدينة حلب، وكانت المعدات الإيرانية التي أُرسلت لرفع الأنقاض تحمل صور قاسم سليماني، والأرجح أن تركيا لم تُرحب كثيراً بهذا السلوك الإيراني.
وفتحت تركيا بوابات سد أتاتورك خوفاً من تأثير الاهتزازات الارتدادية في السد، وانطلقت المياه إلى نهر الفرات عند محافظة دهوك العراقية. ولا شك أن ذلك يمثل تطوراً بالغ الإيجابية للعراق الذي عانى في السنوات الأخيرة من شُح المياه ونقص منسوبها في النهر. ويمكن أن يكون ذلك بداية لتخفيف التوتر في العلاقات بين البلدين. وبالنسبة إلى ليبيا، فالأرجح أن تركيا لا تستطيع في الظروف الراهنة زيادة التزاماتها العسكرية فيها، ومن ثم سيكون من مصلحتها التهدئة السياسية واستمرار وقف إطلاق النار بين القوى المُتصارعة فيها.
وهناك ما يشير إلى اتجاه نحو تحسن العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وذلك في ضوء سرعة وصول المساعدات الإسرائيلية إلى المناطق المنكوبة والتي نوه إليها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، وتقدم بالشُكر لتل أبيب، وكذلك في ضوء زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، إلى أنقرة يوم 14 فبراير 2023، حيث التقى الرئيس أردوغان، وأعرب عن تضامن بلاده الكامل مع تركيا، وأن الطائرات المدنية الإسرائيلية سوف تُعاود رحلاتها المنظمة إلى تركيا بعد يومين من هذه الزيارة.
وكرد فعل لمبادرة رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، بالاتصال الهاتفي بأردوغان، وزيارة وزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، لأنقرة وتقديم مساعدات؛ من الأرجح أن تتبع تركيا سياسة التسكين أيضاً في النزاع مع اليونان وقبرص فيما يتعلق بالاستكشاف والتنقيب في شرق المتوسط، وكذا النزاع مع الأولى بشأن جزر بحر إيجه.
مُحدد الانتخابات:
إن هذا التحليل يفترض استمرار الرئيس أردوغان وحزبه في الحكم ونجاحه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها في 14 مايو 2023. ويتوقع أغلب المحللين أن أردوغان سيواجه أصعب انتخابات في مسيرته السياسية، حيث تزايدت المصاعب المترتبة على سياساته الاقتصادية التوسعية. وسوف تزداد هذه المشاكل إذا تبين أن حجم الدمار الهائل الذي أوجده الزلزال نتج عن ممارسات فساد وانحرافات إدارية وموافقة السلطات المحلية على بناء مساكن مخالفة لمعايير الأمان ومقاومة الزلازل، وهو الاتهام الذي لم يتأخر زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كليجدار أوغلو، في توجيهه للحكومة التي حمّلها المسؤولية الكاملة عما حدث. ويبدو أن هذه الاتهامات لها أساس من الصحة، فقد أوقفت الحكومة عدداً من المقاولين ومسؤولي شركات البناء، وبدأت في التحقيق معهم، وتم اعتقال بعضهم.
وإذا نجحت أحزاب المعارضة في توحيد صفوفها والاتفاق على مرشح واحد لمنازلة أردوغان في الانتخابات، فإن ذلك سوف يُمثل ضغطاً إضافياً عليه. ولذلك، رجح البعض أنه إذا تبين لأردوغان ضعف كفته، فقد يبحث عن مخرج دستوري لتأجيل الانتخابات. وقد يكون هذا المخرج في تفسير المادة 78 من الدستور التركي الصادر عام 1982 والمُعدل عام 2017، والتي تنص على أنه: "إذا ما اعتبر أنه من المستحيل إجراء انتخابات جديدة بسبب ظروف الحرب، يجوز للجمعية الوطنية الكبرى لتركيا أن تؤجل الانتخابات لمدة عام. وفي حال عدم زوال السبب، يجوز تكرار التأجيل وفقاً للإجراءات المتبَّعة لذلك". وقد تكون الذريعة هي اعتبار أن حالة استحالة إجراء الانتخابات قائمة بسبب تداعيات الزلزال التي تماثل حالة الحرب، خاصة وأن الدستور أوكل اختصاص تأجيل الانتخابات للبرلمان. ولن يكون ذلك صعباً على أردوغان بحكم سيطرة أغلبية مؤيدة له على البرلمان، وإن كان سوف يُعرضه لانتقادات واسعة في الداخل والخارج.