أجرى وفد حكومي عراقي برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين، في 8 فبراير 2023، زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وضم الوفد محافظ البنك المركزي الجديد، علي العلاق، ووزير المالية طيف سامي، ومسؤولين في مكتب رئيس الوزراء لشؤون الاستخبارات والأمن، وعدداً من المسؤولين الحكوميين. والتقى خلال الزيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وقيادات وزارة الخارجية الأمريكية. وتُعد هذه الزيارة هي الأولى من نوعها منذ تولي محمد شيّاع السوداني رئاسة الحكومة العراقية نهاية أكتوبر 2022.
زيارة عراقية لواشنطن
سعت بغداد من خلال تلك الزيارة إلى تحقيق عدد من الأهداف، والتي يأتي على رأسها:
1- بحث أزمة ارتفاع الدولار: جاءت زيارة الوفد العراقي إلى واشنطن في ظل أزمة اقتصادية خانقة يشهدها العراق بسبب ارتفاع عمليات تهريب الدولار إلى إيران من العراق، لدرجة أن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان العراق قامتا بتركيب أجهزة مسح بالأشعة السينية على الحدود لردع مهربي الدولار.
كما حرمت وزارة الخزانة الأمريكية 14 مصرفاً عراقياً من آلية التحويلات البنكية العالمية المعروف باسم "سويفت" في محاولة لمنع تهريب الدولار إلى إيران، كما فرض الاحتياطي الفدرالي قيوداً صارمة على المعاملات الدولارية من قبل البنوك التجارية العراقية، منذ نوفمبر 2022، وهو ما أدى إلى حظر أكثر من 80% من التحويلات اليومية بالدولار في العراق، ويرجع ذلك إلى أن البنوك العراقية لم تلتزم بتحويل الأموال باستخدام نظام "سويفت"، وهو ما أوجد ثغرة تمكنت طهران من خلالها من تغطية جانب من احتياجاتها من الدولار الأمريكي.
وفرضت الولايات المتحدة على العراق الالتزام بأحكام مكافحة غسيل الأموال العالمية، وأحكام مكافحة تمويل الإرهاب، فضلاً عن الالتزام بالعقوبات الأمريكية المطبّقة على إيران وروسيا، وذلك للوصول إلى احتياطات العراق من الدولار الموجودة في الولايات المتحدة، والبالغة 100 مليار دولار.
وتسببت الإجراءات الجديدة هذه وزيادة التدقيق الأمريكي في المتلقيين النهائيين للدولار في تراجع تداول الدولار في العراق، وهو ما تسبب في ارتفاع حاد في أسعار صرف الدولار أمام الدينار العراقي وفقدانه أكثر من 30% من قيمته خلال الشهرين الماضيين، الأمر الذي دفع الحكومة العراقية لاتخاذ جملة من الإجراءات، والتي كان من بينها التوصل إلى تفاهمات في مطلع فبراير 2023، بين البنك المركزي العراقي ووزارة الخزانة الأمريكية لتخفيف الاشتراطات الأمريكية، لحين إتمام زيارة وزير الخارجية العراقي إلى واشنطن، حيث كان هذا الملف على رأس المفاوضات هناك. وأسهمت هذه الإجراءات في تراجع سعر صرف الدولار في مقابل الدينار، إلى حوالي 1300 دينار للدولار الواحد، بعد أن ارتفع إلى حوالي 1700 دينار مقابل الدولار، فضلاً عن إعفاء محافظ البنك المركزي، مصطفى غالب مخيف، من منصبه، وتكليف علي محسن العلاق.
2- موازنة العلاقة بين واشنطن وموسكو: تأتي زيارة الوفد العراقي للولايات المتحدة عقب زيارة وزير الخارجية، الروسي، سيرجي لافروف، على رأس وفد رفيع المستوى للعراق، في 5 فبراير 2023، وهي الزيارة التي ناقشت أبعاداً اقتصادية وعسكرية بين البلدين، ويُنظر إليها على أنها موجهة ضد نفوذ واشنطن في العراق، لذا سعت الأخيرة إلى عدم إثارة غضب الأولى جراء تلك الزيارة، والتأكيد في الوقت ذاته أن بغداد ماضية لتنويع علاقاتها مع كل الأطراف المختلفة.
كما هدفت بغداد من زيارة وزير خارجيتها إلى واشنطن إلى بحث آلية تسديد مستحقات الشركات الروسية العاملة في العراق، في ظل فرض الولايات المتحدة ودول أوروبية عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
3- تقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران: بحث وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، مع المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إيران، روبرت مالي خلال الزيارة، آخر مستجدات مفاوضات فيينا مع الجانب الإيراني، وأسباب توقفها، والمواقف الأوروبية تجاه هذه التطورات، وهو ما يكشف عن محاولة بغداد أداء دور في التقريب بين وجهتي نظر واشنطن وطهران، خاصة في ضوء مساعي الأخيرة لإحياء المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، إذ سبقت زيارة وزير الخارجية العراقي، زيارة نظيره القطري إلى واشنطن ولقائه مالي، في إطار الدور الذي تؤديه الدوحة في نقل الرسائل بين الجانبين الأمريكي والإيراني.
4- التمهيد لزيارة السوداني إلى واشنطن: جاءت زيارة فؤاد حسين إلى واشنطن في إطار التمهيد للزيارة المرتقبة لمحمد شيّاع السوداني إلى الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، والتي تأتي في ضوء التوازن الذي تسعى حكومة السوداني لتحقيقه في علاقتها مع الولايات المتحدة وإيران.
ويأتي في سياق ذلك، إعلان السوداني، في منتصف يناير 2023، تأييده بقاء القوات الأمريكية في العراق لمساعدته على مكافحة الإرهاب، كما أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن، اتصالاً هاتفياً معه، في 3 فبراير 2023، أكد فيه التزام واشنطن باتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين، والعمل معاً على مواجهة التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي يُدلل على حرص السوداني على تأكيد أنه على الرغم من أن حكومته مدعومة من الإطار التنسيقي الموالي لإيران، فإنه، في النهاية، سيعمل على تبني سياسات براغماتية تعزز مصالح بغداد، وليس طهران.
تعزيز استقلالية بغداد
ثمّة عدد من النتائج، أسفرت عنها تلك الزيارة، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1 - منح العراق مهلة لتوفيق أوضاع الدولار: كشفت بعض المصادر أن البنك الفدرالي الأمريكي منح العراق مهلة ثلاثة أشهر فقط، على أن يتم خلال هذه المدة ملاحظة مدى التزام العراق بالمعايير الدولية والابتعاد عن غسل الأموال والتحويلات غير الرسمية، وهو ما يكشف عن إخفاق الوفد العراقي في تغيير موقف الاحتياطي الفدرالي الأمريكي الذي شدد على ضرورة وقف ممرات التهريب وغسيل الأموال ومنع وصولها إلى الدول المفروضة عليها عقوبات اقتصادية، خاصة إيران وسوريا وحزب الله اللبناني. وتشير تقديرات إلى أن الوفد العراقي كان يسعي من وراء تلك الزيارة إلى تخفيف تلك القيود، أو تأجيل العمل بها على الأقل لفترة أطول، وهو ما لم يحدث.
2- الدفع بتقليص الاعتماد على الجانب الإيراني: تمت الإشارة إلى ضغط إدارة بايدن على الوفد العراقي الذي زار واشنطن، من أجل دفع بغداد لإعادة توجيه قطاع الطاقة العراقي بعيداً عن إيران، وهو ما يعني أن على حكومة بغداد أن تجد بدائل لواردات الغاز والكهرباء الإيرانية.
وفي هذا الصدد، تمت الإشارة إلى تأييد بايدن خلال اتصاله بالسوداني، والذي كان بحضور العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، دعمه لمشاريع عراقية أردنية مشتركة لربط الكهرباء بين البلدين، والتي من شأنها أن تقلل من طلب العراق على الواردات الإيرانية من الكهرباء والغاز الطبيعي، إلى جانب مناقشة الجانبين الأمريكي والعراقي مساعدة الشركات الأمريكية والشركات الخاصة للعراق في تطوير قطاعه النفطي، وتشجيع بغداد للمضي قدماً في الاتفاقيات التي تم عقدها مع بعض دول الخليج، لاسيما ما يتعلق منها بالربط الكهربائي، وهي الجهود التي سوف تسهم في مساعدة العراق على الخروج من أزمة الطاقة، خاصة في فصل الصيف، والذي يصل فيه نقص الطاقة إلى حوالي 60% من إجمالي الطاقة المستهلكة.
3- الضغط على مسؤولين موالين لإيران: تسربت وثائق أثناء زيارة الوفد العراقي إلى واشنطن، تفيد بمطالبة نواب الكونغرس الأمريكي بالكشف عن الموقف القانوني لبعض السياسيين العراقيين، ومنهم مسؤولون في مراكز ومؤسسات مالية مهمة، متهمة بتهريب الدولار، وأن وجود تلك الشخصيات هو أحد أسباب التشدد الأمريكي بشأن تدفق الدولار إلى العراق، وذلك في ضوء إدراك الجانب الأمريكي أن أي تخفيف في ذلك التدفق، سيصب في صالح إيران وسوريا ودول أخرى يتم تهريب الدولار من العراق إليها، وهو ما يفرض مزيداً من الضغوط على حكومة السوداني لاتخاذ إجراءات ضد هؤلاء المسؤولين، وهو ما تجاوبت معه حكومة السوداني بالفعل بدليل إقالة محافظ البنك المركزي العراقي السابق.
ولا يتوقع أن تتجه واشنطن إلى فرض ضغوط أكبر على حكومة السوداني لإقالة مسؤوليين إضافيين، حتى لا يتسبب ذلك في أزمة حكومية، والاكتفاء بالضغط على العراق للامتثال للإجراءات المالية الجديدة، والتي من شأنها أن تحد من تهريب الدولار إلى إيران.
وفي التقدير، يمكن القول أن أحد أبرز النتائج التي توصل إليها الوفد العراقي في واشنطن هو الاتفاق على منع تهريب الدولار إلى إيران وأذرعها في المنطقة، وتقليص اعتماد بغداد على واردات الكهرباء والغاز الطبيعي من إيران، الأمر الذي يرجح ممارسة واشنطن مزيداً من الضغوط على حكومة السوداني من أجل تقليص ارتباطها بالجانب الإيراني مع التلويح بإمكانية تفعيل سلاح العقوبات من خلال فرضها على بعض الشخصيات والكيانات العراقية.