علينا كمراقبين أن نقرأ مخرجات ورسائل القمة التشاورية التي عُقدت في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يوم 18 يناير 2023، واستضاف خلالها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، قادة الدول الشقيقة، عُمان والبحرين وقطر والأردن ومصر؛ بشيء من الموضوعية السياسية المقرونة بالخبرة التاريخية في تعامل صانع القرار العربي مع المتغيرات الاستراتيجية الحاصلة في إقليمنا والعالم. وهذا ما يجعلنا نعذر كل من أخذته المفاجأة والسرعة اللتان واكبتا القمة، وربما لم يستطع أن يستوعب رسالتها السياسية.
نقطة البداية في قراءة هذه القمة، هي إدراك قدرات الدبلوماسية الإماراتية التي أثبتت غير مرة نجاحها في استيعاب ما يحدث في الساحة الدولية من تحولات وتأثيراتها. وبفضل تلك القدرات، أُتيح لدولة الإمارات اتخاذ قرارات وصفها كثيرون بالجرأة السياسية العقلانية، ونالت بسببها القيادة الإماراتية احترام دوائر صُنع القرار في العالم.
ومن هذه الأرضية، تنطلق سياسة الإمارات تجاه الدول العربية وتمضي قُدماً في التنسيق المستمر مع الأشقاء والأصدقاء، والتركيز على النتائج والإنجازات، لتكوين رؤية لمواجهة الأزمات والمشاكل بعيداً عن الإعلام وعن البرتوكولات الرسمية، وهذا أحد أسباب التوافق المنطقي والخروج بأفكار وتوجهات موحدة.
التفاعل مع التحولات:
ربما كان التغافل السياسي من سمات القرار العربي حتى وقت قريب، وإن شئت الدقة حتى فترة أحداث ما كان يُعرف بـ "الثورات العربية"، لكل تقييمات المشهد الاستراتيجي العالمي، ولكن بعد ذلك تغيرت الحال. وكانت بعض تلك التقديرات تصدر عن شخصيات أو بيوت خبرة لها تقديرها العالمي، وكانت أهميتها ودقة المعلومات التي فيها إلى درجة أن ما يقولونه أو يتفوهون به وكأنهم يبوحون أو يسربون أسراراً عما تخطط له دولهم وبعض دوائر القرار العالمي في المنطقة العربية، التي كانت حتى ما قبل نحو عقد واحد هي الساحة السياسية التي تسعى كل الأطراف للعبث فيها.
لهذا فالقمة التي دعا إليها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، تحت عنوان "الازدهار والاستقرار في المنطقة"، فكرتها قائمة على رفض استمرار التجاهل العربي لتقييم التحركات الميدانية التي تتم في الساحة الدولية، وأنه ينبغي التشاور المستمر حولها بين قادة الدول العربية، بعيداً عن وضع أجندات وجدول أعمال مسبق لها، وبعيداً عن الإجراءات البروتوكولية التقليدية التي تتطلب استعدادات قد تفقد حيوية الفكرة الأساسية للقاء القادة.
وعلى غير عادة القمم العربية، خرجت القمة التشاورية في أبوظبي ببيان مقتضب، ركزت فيه على أن الهدف منها هو الحرص على ترسيخ التعاون وتعميقه لخدمة التنمية والازدهار والاستقرار في المنطقة، عبر المزيد من العمل المشترك والتعاون والتكامل.
وباستعراض الأهداف الاستراتيجية لدول العالم كلها في الوقت الحاضر، فلن تخرج عما جاء في البيان الختامي ولن تبتعد عن تلك الأفكار. وهي اليوم أكثر إلحاحاً في عدد من الدول العربية، وقد يؤدي الصمت عنها أو تجاهلها إلى أحد سيناريوهين؛ الأول أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سيؤدي إلى أن تفقد بعض الدول السيطرة على الموقف فيها وبالتالي تخسر استقرارها داخلياً. وقد شهدنا هذا السيناريو في عدد من الدول العربية سابقاً، ولا نريد استذكاره مرة ثانية.
السيناريو الثاني هو تهديد الاستقرار العربي بالكامل، من خلال ظهور مخربين أو تنظيمات إرهابية بعضها مدعوم من الخارج. وقد يتمثل هذا الخارج في دول إقليمية، ما يعني تعرض بعض الدول العربية إما إلى الاختطاف الأيديولوجي أو أن تكون مجتمعاتها مخترقة من خلال الانتماءات الجزئية. والنتيجة المؤكدة لهذين السيناريوهين هو السيناريو الثالث، وهو الاستبعاد التام للتنمية والتطور، فالقاعدة الأساسية هي أن الاستقرار يسبق التنمية والازدهار. وبالتالي فالترتيب المنطقي أن يتجه الجهد الأساسي إلى تصحيح وتقوية الوضع الداخلي أولاً، وربما العراق وليبيا وحتى اليمن أوضح مثال على ذلك، وعلى هذا الأساس كانت التنمية والازدهار هي مخرجات هذه القمة الاستشارية.
رسائل عميقة:
تنطوي القمة التشاورية في أبوظبي، على العديد من الرسائل الإيجابية، ومن أهمها الآتي:
1- حيوية الدبلوماسية الإماراتية عربياً: يبدو واضحاً من دعوة دولة الإمارات للقمة التشاورية أن الشأن الخليجي والعربي كان وما يزال الموضوع الرئيسي للقيادة الإماراتية ويحتل الأولوية في استراتيجيتها، بالرغم من النشاط الدبلوماسي والحضور السياسي العالمي لدولة الإمارات، وذلك انطلاقاً من فهم العمق الاستراتيجي للأمن الوطني للدولة.
فالإمارات وهي توسع شراكاتها الدولية وتقدم تصوراً لعلاقتها مع العالم، فإنها تحرص أولاً على أن تنعم الدول العربية بسلام واستقرار وعلاقات أكثر من طبيعية وفق مفهوم العلاقات الدولية. فالعلاقات العربية - العربية جديرة بالأولوية سواءً من منظور تحقيق مصالح الدول العربية كافة، أو من منظور منع والحد من التهديدات القائمة أو المُحتملة ضد الدول العربية أيضاً. ومن هذا المنطلق، تبلورت محددات أو حدود للاختلاف العربي - العربي، أخذاً في الاعتبار كيفية تعامل الدول الإقليمية المحيطة بالعرب. لهذا يمثل تمتين العلاقات - العربية ثابتاً إماراتياً، يقوم على مرتكزات جوهرها فيما يتعلق بالمصير الواحد الذي يستلزم حتماً عملاً مُنسقاً وجهداً مشتركاً فيما يخص مصالح الشعوب، حتى لو كانت هناك اختلافات سياسية.
2- ترسيخ التشاور المستمر: على الرغم من أن لكل دولة عربية تصورها الخاص في اختيار ما تراه مناسباً لقرارها الاستراتيجي وفق منطق سيادتها الوطنية، فإن هناك أهمية لإيجاد تنسيق مستمر بين القادة العرب في التعامل مع المتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية لمواجهة أي طارئ إذا استشعروا أن بعض هذه التحولات من شأنها أن تحدث انقلاباً على الوضع القائم. وهي التحولات التي وقعت أو كادت قبل نحو عقد من الزمان، ويفترض أن العرب تعلموا منها دروساً لا تُنسى. لهذا فإن عدم حضور دولة عربية أو خليجية لا يعني غيابها عن التنسيق، لأن هناك فهماً استراتيجياً مشتركاً لقضايا الأمة لا يؤثر على القرارات الاستراتيجية، فالتوجه العام العربي هو العمل المشترك من أجل مصلحة الشعوب، مع الاحتفاظ بأولوية المصالح الوطنية كحق طبيعي وترتيب منطقي بات الجميع يتفق عليه خاصةً في ظل ترتيب الأولويات.
3- الاستقرار العربي أولاً: الواضح أن هناك لاعبين سياسيين كثر من داخل الإقليم وخارجه، يسعون جميعاً ليس فقط للوجود في الساحة العربية وإنما كذلك تخريب جهود دولة الإمارات وغيرها من الدول العربية نحو لملمة الوضع العربي، بعد تداعيات "الثورات العربية" في عام 2011، حيث تم سد المنافذ وتعبئة الفراغات المجتمعية التي كانوا يتسللون منها، والتي أدت إلى وجود دول عربية مختطفة أو مخترقة. وأمام هذه الدائرة من العمل والعمل المضاد، يبدو المشهد العربي معقداً ويحتاج إلى رؤية متماسكة عندما يرصد تحركات تستهدف استقراره.
وقد جاءت قمة أبوظبي الأخوية التشاورية بعد تحركات سياسية مهمة في المنطقة، نذكر منها القمة الثلاثية في القاهرة يوم 17 يناير 2023 والتي جمعت بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس. وعقب زيارة وزير الخارجية الإيراني، أمير عبداللهيان، لكل من سوريا وتركيا يومي 14 و17 يناير على الترتيب. وبعد زيارة وفد أمريكي برئاسة نائب مساعد الرئيس الأمريكي ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بريت ماكغورك، لبغداد، يوم 16 يناير الجاري.
وبالتالي فإن التواصل والتشاور العربي - العربي في ظل تلك التحركات والاتصالات بالإقليم، يعتبر خطوة ضرورية بل وحتمية حفاظاً على الاستقرار العربي، من خلال الوقوف على خطوات الأطراف الأخرى واستيعاب أبعادها وإدراك أهدافها.
ختاماً، تعد الرسالة الأهم التي خرج بها اللقاء التشاوري الأخوي في أبوظبي، أنه من المهم عدم إغفال التحركات الإقليمية والدولية حتى لو كانت عادية، خاصةً أن الخبرة التاريخية تؤكد أن تلك التحركات كانت دائماً ضد الساحة العربية، وأغلبها أضر بالاستقرار الأمني والتنموي العربي. وعليه فإن الأمر يحتاج إلى الاستعداد حتى لو لم تحدث السيناريوهات السيئة، فليس شرطاً إذا تشاور العرب أن تحدث تحولات، وإنما المنطق والمسؤولية يدفعان إلى عدم تجاهل المؤشرات الحاصلة على الأرض.