أول ما يلفت النظر في تعامل حركة النهضة التونسية مع الانتخابات التشريعية المقررة في 26 أكتوبر الجاري، هو تلك الثقة المفرطة التي تلف تصريحات قادتها، ليس فقط فيما يخص فوزها بأغلبية برلمانية، وإنما أيضاً بنجاحها في قيادة البلاد خلال المرحلة المقبلة، غير أن المدقق في حواشي هذه التصريحات سيجد أن للأمر أبعاداً أخرى من بينها الرغبة في إحباط همم القوى المنافسة، وسد النوافذ أمام محاولات تخويف الناخبين من خطر وقوع البلاد ضحية لفشل سياسي، كالذي طبع حكم الإخوان المسلمين في مصر.
وتحظى الانتخابات التشريعية بأهمية بالغة كونها تمثل جسر الانتقال إلى مرحلة الدوام المؤسسي بعد وضع انتقالي استمر نحو 4 سنوات، ولذلك تسعى جميع القوى السياسية إلى تحقيق نتائج تضمن لها وجوداً مؤثراً في قلب التفاعلات المقبلة، والتي يمثل البرلمان ساحتها الأساسية بحكم طبيعة النظام شبه البرلماني المنصوص عليه في الدستور التونسي الجديد، في حين تمثل هذه الانتخابات اختباراً مزدوجاً لحركة النهضة على وجه الخصوص؛ فهي تأمل – من جهة أولى – في تجديد النجاح الذي حققته في انتخابات المجلس التأسيسي (أكتوبر 2011)، عندما فازت بـ 89 مقعداً، بينما حصل أقرب منافسيها (المؤتمر من أجل الجمهورية) على 29 مقعداً بالكاد، ثم إنها تتمنى - من جهة ثانية – أن تبعدها هذه الانتخابات عن منازعة مستقبلية محتملة على الشرعية الدستورية والشعبية.
ويزيد من صعوبة هذا الاختبار أنه يأتي في وقت تواجه فيه الحركة ضغطاً ثلاثياً: اتهامات مناوئيها لها بالفشل الاقتصادي والأمني، والتغاضي عن نشاطات الجماعات التكفيرية داخل البلاد، وتخوفات إقليمية من تحويلها تونس إلى حاضنة للإخوان المسلمين الفارين من دول عربية أخرى، ومن ثم جر تونس إلى دائرة التوتر المحيطة بها، وهواجس دولية بإمكانية انقلابها على قيم الحداثة، وفي مقدمتها الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من إدراك الحركة الواضح لصعوبة الاختبار، وكذا لكثافة الضغوط الملقاة عليها، فإنها بدأت حملتها الانتخابية بهدوء لم تقطعه إلا لتأكيد ثقتها في المستقبل ويقينها بأن مسألة بقائها في صدارة المشهد السياسي محسومة سلفاً، الأمر الذي يثير كثيراً من التساؤلات مثل: هل تقوم هذه الثقة على تقديرات سليمة؟، وما الذي تريده "النهضة" بتركيزها الواضح على هذه الزاوية؟ ثم ما هي الآثار المتوقعة لمثل هذا السلوك، سواءً على المكاسب الانتخابية المتاحة للنهضة أو على الفرص الممكنة لمنافسيها؟
أسباب ثقة "النهضة" في الفوز
تتعامل "النهضة" مع الانتخابات البرلمانية باعتبارها "موعداً لتجديد البيعة" لا كمنافسة متعددة الاحتمالات؛ ولذلك يجد المتابع للخطاب الصادر عنها تركيزاً واضحاً على ثلاثة أبعاد رئيسة، أولها: محورية دورها في حماية مسار الثورة خلال المرحلة القادمة. وثانيها: ضرورة استمرارها في الحكم كي لا يتمكن النظام السابق من إعادة إنتاج نفسه. أما البعد الثالث فيتمثل في أن فوزها بالأغلبية سيوفر لغيرها من القوى السياسية، خاصة الثورية منها، فرصة لشراكة لن تجدها إذا تمكن غيرها من قيادة البلاد.
من هذه الزاوية، تعتقد النهضة أن برنامجها الانتخابي هو "الخلاصة الشافية" للأمراض التونسية، وليس مجرد مشروع للحكم، بحسبان أنه يجمع – حسب قول القيادي بها الوزير السابق رضا السعيدي - بين الواقعية والطموح، فضلاً عن أنه يعكس تمكن الحركة من الإلمام بتفاصيل البلاد ومقتضيات إصلاح أوضاعها، وهو نفس ما ذهب إليه وزير الفلاحة (الزراعة) السابق محمد بن سالم عندما ذكر أن حزبه "صاحب التجربة القصيرة في الحكم يستطيع التعامل مع مشاكل تونس على نحو صحيح بعد أن حقق الكثير، لاسيما على مستوى النمو الاقتصادي".
ومن الزاوية ذاتها أيضاً، تعتبر النهضة ناخبيها كتلة واحدة، هدفها الأساسي هو منع عودة نظام ابن علي للحكم، ولذلك فهي تراهن على ولائهم لهذا الهدف، وتعتبر نفسها الضامن الوحيد لتحقيقه. مثل هذا الاعتقاد عبر عنه القيادي بالنهضة محمد بن سالم حين قال "إن عدم تصويت نواب الحركة لصالح مادة العزل السياسي (التي كانت مقترحة في مشروع قانون الانتخابات) إنما يعود لثقتها في دعم الشعب لها ضد التجمعيين"، كما أكده الأمين العام للحركة رئيس الحكومة السابق على العريض بقوله: "إن النهضة ستبقى الحزب الأول، وستكون في الصدارة في الانتخابات القادمة"، ثم كرره رئيس مجلس شورى الحركة فتحي العيادي بجزمه إن "النهضة هي الأقرب إلى ضمير الشعب".
وقد شدد على الأمر ذاته مسؤول الانتخابات بالحركة عبدالحميد الجلاصي، بتأكيده أن انتصار "النهضة" يمثل انتصاراً للثورة وللمسار الديمقراطي في مواجهة من يراهنون على إرباك الوضع السياسي، علما بأن رئيس الحركة السيد راشد الغنوشي لم يبتعد عن ذلك كثيراً، فهو يربط فوز الإسلاميين في الانتخابات باستمرار الثورة، ويؤكد أن النهضة ستبقى الرقم الأول في البلاد، وأن امتناعها عن خوض الانتخابات الرئاسية إنما يعود لرفضها مبدأ الانفراد بالسلطة.
"النهضة".. دواعي الثقة وتداعياتها
لدى قادة النهضة؛ تبدو هذه الثقة أمراً طبيعياً كونها تقوم على بعض السوابق والتقديرات، ومن أهمها -كما يبرز من تصريحات قيادات الحركة- شعبيتها في الشارع التونسي مقارنة بغيرها من القوى السياسية، إذ تكرر الحركة تفوقها الكاسح في انتخابات 2011 وحصولها على أكثر مما جمعته القوى الثلاث التالية لها، وعلى أكثر مما حصلت عليه كل القوائم الأخرى بتنوعاتها السياسية والاجتماعية. هذا علاوة على نجاح الحركة في قيادة المرحلة الانتقالية على الرغم من الصعوبات التي واجهتها، سواءً بسبب الاستقطاب السياسي الحاد أو نتيجة تفاقم الصعويات الاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن عهد ابن علي، وتمكن الحركة من كسب ثقة بعض القوى العلمانية الرئيسة، وكذا نجاحها النسبي في تفادي الصدام مع القوى الأخرى، بما في ذلك من طالبوا بـ "التمرد" على سلطتها في صيف/خريف 2013.
أما لدى معارضي النهضة؛ فلا تمثل هذه الثقة سوى تكتيك انتخابي هدفه تثبيط همم المنافسين، بل إنها تعد - في تقدير البعض - دليلاً على وعيها بالخطر المحدق بها، وبالذات من جانب حزب "حركة نداء تونس"، بحسبان أنه يقدم نفسه بديلاً وطنياً قادراً على كسب أصوات التونسيين الرافضين لـ "مشروع التمكين الإخواني" أولاً، وكونه قادراً على تعويض عجز القوى اليسارية والليبرالية في بناء تحالفات قادرة على كبح الجموح الأصولي.
هذا المنطق عبر عنه القيادي في "نداء تونس" ناجي جلول عندما ذكر أن النهضة تجيد الحرب النفسية للتأثير على عزيمة خصومها. وبقوله إن ثقة النهضة تعتمد - في جانب منها - على ما سماه قدرتها على التلاعب في مسار العملية الانتخابية من خلال إعاقة عملية تسجيل الناخبين الجدد، مستفيدة من وجود عناصر تابعة لها داخل أفرع الهيئة المستقلة للانتخابات.
هل تصبح "النهضة" ضحية ثقتها المفرطة؟
مع ما توفره الثقة من قوة معنوية لأصحابها خلال المنافسات الانتخابية، إلا أنها قد تؤدي إلى تداعيات سلبية، لاسيما إذا قامت على تقديرات غير موضوعية أو إذا تسببت في إساءة تقدير قوة المنافسين، على غرار ما حدث في كثير من المنافسات الانتخابية حول العالم، ومنها انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1992 التي انتهت بهزيمة الرئيس الجمهوري جورج بوش (الأب) رغم أن ولايته شهدت الانتصار النهائي للرأسمالية على الشيوعية، وانتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 1996 التي هُزم فيها مرشح حزب العمل شيمون بيريز المدعوم وقتها بأجواء الحزن على اغتيال سلفه إسحق رابين، وكذلك الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 التي أسفرت عن هزيمة حركة "فتح" بعد أن ركنت إلى ماضيها وسيطرتها على مؤسسات السلطة الفلسطينية، وتجاهلت توجهات الشارع ومطالبه المتجددة.
غير أن تكرار ذلك مع حركة "النهضة" يبدو مستبعداً بعض الشيء، وذلك نتيجة لثلاثة عوامل؛ أولها: أن الحركة ستحصل في أقل تقدير على أصوات قطاعات مؤيدة بطبيعتها لما يسمى "المشروع الإسلامي" دون النظر في تفاصيله أو القائمين عليه.
وفي هذا المجال يمكن للحركة أن تستفيد من كونها القوة الإسلامية الوحيدة التي تخوض غمار المنافسة في مواجهة طيف عريض من العلمانيين (مع استثناء الحزب الاسلامي ذا الحضور الانتخابي الضعيف)، وتستفيد من تاريخها السابق في التصدي لما يسمى "سياسات التغريب" التي انتهجها الرئيسان بورقيبة وبن علي، ومن الدعم المعنوي الذي تتلقاه من القوى الإسلامية خارج تونس وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي سوف تحاول أن تضع ثقلاً كبيراً في إنجاح "النهضة" ولو من باب التعويض المعنوي للسقوط المدوي في مصر.
ويتصل العامل الثاني بطريقة إدارة الحركة لحملتها الانتخابية، والتي تتسم بالمزج بين الواقعية والبرجماتية. إذ تتجلى الواقعية في صياغة الحركة لبرنامج انتخابي يركز على قضايا الداخل التونسي مثل الفقر والبطالة والوضع الأمني.. إلخ، مع إبراز خصوصيتها كحركة تونسية صميمة هدفها الرئيسي هو صالح المواطنين بعيداً عن الأيديولوجيا الذي اعتادت التنظيمات الإسلامية على لإعلائها.
أما البرجماتية فتظهر على نحو واضح في اختيار المرشحين، إذ لم تقيد الحركة نفسها بمعيار الولاء التنظيمي، لكنها تعلي في المقابل من معايير التعليم والكفاءة والقدرة على تحقيق الأهداف، وكان ذلك سبباً في ابعاد أكثر من 65% من نوابها في المجلس التأسيسي عن قوائم الترشيحات، كما سمحت الحركة بترشيح عناصر من خارج أطرها التنظيمية خاصة من بين رجال الأعمال.
وظهر النزوع البرجماتي في المقدمات الهادئة للحملة الدعائية للحركة وفي شعاراتها الرئيسة ومنها "تونس للجميع وبالجميع" و"محبة تونس.. مش كلام".. فكلها شعارات تعكس انفتاح الحركة المبكر على كل السيناريوهات المتوقعة، بما في ذلك إمكانية العمل المشترك مع من تعتبرهم امتداداً للنظام السابق.
وفي مقابل ذلك، تمثل حالة التفتت التي تعانيها القوى العلمانية العامل الثالث الذي يحمي النهضة من التداعيات السلبية لثقتها الطاغية، ذلك أن هذه القوى تتباين من حيث التوجه (وسطي، يساري، قومي). ويتوزع كل منها على عدة أحزاب يصعب أن تجتمع لأسباب تاريخية وشخصية وفكرية تحت مظلة واحدة. وحتى حزب "نداء تونس" تبدو فرصه صعبة في الحصول على أغلبية برلمانية نظراً لأن نصيبه المحتمل من الأصوات سيقتطع –في الغالب– من الكتل التصويتية الخاصة بالقوى التي تشبهه وليس من الحصة المضمونة للإسلاميين، ومن ثم قد يكون وجوده في المنافسة خادماً للنهضة لا خصماً منها.
بيد أن كافة هذه العوامل لا تعني أن تلك الثقة المفرطة لحركة النهضة لا تخلو من توقع مفاجآت قد تربك حساباتها، أولها: أنه من غير الواضح ما إذا كان الناخب التونسي سيفاضل مجدداً ما بين الدولة وقوة مؤسساتها في وقت ينتشر فيه الإرهاب هنا وهناك، وبين الحديث المزعوم عن هوية الدولة، وثانيها: أن حزب "نداء تونس" تقدم شعبياً خلال العام الماضي وأن عدم التنسيق الكبير بين القوى غير "الإسلامية" لا يعني بالضرورة أن الناخبين لن يعطوها أصواتهم بثقل كبير، وثالثها أن حركة النهضة، وإن بدت من أكثر التيارات "الإسلامية" اعتدالاً وانفتاحاً مقارنة بإخوان مصر على سبيل المثال، فإنها قد تتأثر سلبياً بتداعيات تراجع الإسلاميين في أكثر من دولة عربية.