كثّفت إيران وتركيا هجماتهما على مواقع كردية في شمال العراق بصورة متزامنة تقريباً، إذ أعلنت تركيا عبر ضربات جوية مكثفة، في 20 نوفمبر 2022، بدء عمليتها العسكرية "المخلب – السيف" في شمالي العراق وسوريا لاستهداف مواقع حزب العمال الكردستاني وتحييدها، فيما كثّفت في الفترة نفسها إيران هجماتها المتواصلة بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد مواقع تقول إنها لأحزاب كردية إيرانية تتخذ من شمال العراق ملاذاً لها، وتقدم من خلاله الدعم للتظاهرات الجارية على أراضيها منذ سبتمبر 2022. وطرح هذا التزامن بين العمليات الإيرانية والتركية في شمال العراق تساؤلاً حول وجود تنسيق بين البلدين.
مظاهر التنسيق المشترك:
اعتادت طهران وأنقرة على التنسيق فيما بينهما في المسارح العملياتية الشرق أوسطية التي تشهد وجود قواتهما أو مصالح لكليهما كما هي الحال في الساحتين العراقية والسورية، بما يحول في المحصلة من دون أن يقف البلدان وجهاً لوجه أو خروج الأمور عن السيطرة، وتحولها إلى مواجهة بينهما قد تمتد إلى مواجهة عسكرية شاملة لا يريدها كلاهما. وبالنظر إلى إقليم كردستان العراق، فإن للبلدين وجوداً عسكرياً قديماً في الإقليم بحكم الجوار الجغرافي ومخططات ومشروعات التوسع الجيوسياسي، علاوة على أن المكون الكردي يمثل مهدداً استراتيجياً لهما. ويمكن رصد مؤشرين على وجود مثل هذا التنسيق المشترك، وهما كالتالي:
1- تبادل أدوار: يُلاحظ في التصعيد الأخير أن عملية أشبه بتبادل للأدوار قد جرت بين إيران وتركيا فيما يتعلق بشمال العراق. فقد اعتادت تركيا خلال السنوات الأخيرة على اجتياح الحدود العراقية وتنفيذ عمليات عسكرية برية داخل إقليم كردستان العراق ونشر قوات لها، وبناء قواعد عسكرية متفرقة لمحاربة نشاط حزب العمال الكردستاني، غير أن تركيا اكتفت هذه المرة بالهجمات الجوية ضد شمال العراق.
وفي المقابل، لوّحت إيران بشن عملية برية، وحشدت وحدات مدرعة وقوات خاصة في المناطق الكردية بهدف "منع تسلل إرهابيين" حسبما أعلن قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني محمد باكبور، بالإضافة إلى ما ذكرته وسائل إعلام أمريكية عن تهديد قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، خلال زيارته إلى بغداد، في 18 نوفمبر 2022، بشن عملية برية في شمال العراق إذا لم يتم نزع سلاح الجماعات الكردية الإيرانية في كردستان ولم تتمركز قوات الجيش العراقي على الحدود بين إيران وكردستان.
2- تنسيق سابق: يلاحظ أنه كان هناك تنسيق بين البلدين خلال عمليات عسكرية سابقة كما في عملية "مخلب النسر 1"، التي نفذتها تركيا في شمال العراق في يونيو 2020؛ إذ تم خلالها تنفيذ قصف جوي ومدفعي إيراني – تركي مشترك لنقاط حدودية ومواقع عسكرية تابعة لحزب العمال الكردستاني داخل إقليم كردستان والأحزاب الكردية الإيرانية الناشطة في الإقليم.
وقبل ذلك في يونيو 2007 قصفت قوات إيرانية وتركية من أراضيهما بشكل متزامن مخابئ لحزب العمال الكردستاني، فيما يبدو بتنسيق بينهما، وذلك على الرغم من أن هذا التنسيق ليس السمة الدائمة لمسار العلاقة بين إيران وتركيا داخل كردستان العراق، والتي شهدت عدة مظاهر لتعارض المصالح والاشتباك من أبرزها استهداف فصائل عراقية موالية لإيران لمواقع عسكرية تركية في كردستان العراق، وهو ما يمكن تفسيره على أساس أن لكلا الدولتين مشروعاً متعارضاً مع الآخر.
أهداف مشتركة للدولتين:
قد تمثل العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة إسطنبول التركية في 13 نوفمبر 2022، والتظاهرات التي تعم المحافظات الإيرانية احتجاجاً على مقتل الفتاة الإيرانية ذات الأصول الكردية، مهسا أميني، في 13 سبتمبر 2022، الأسباب المباشرة التي دفعت كلاً من إيران وتركيا إلى تصعيد عملياتهما العسكرية ضد الأكراد في شمال العراق، ارتباطاً باتهام السلطات التركية لحزب العمال الكردستاني بالوقوف وراء عملية إسطنبول، وباتهام النظام الإيراني لعناصر الأحزاب الكردية الإيرانية الموجودة في إقليم كردستان العراق بدعم الاحتجاجات في المحافظات الإيرانية وإمدادها بالسلاح، خاصة في محافظة كردستان الإيرانية. ولكن على الجانب الآخر، فإن استهداف نشاط وجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق تحكمه أهداف استراتيجية أبعد من هذه الحوادث الآنية، تشترك فيها إيران وتركيا، وهو ما يمكن إجماله في التالي:
1- منع إقامة دولة كردية: تمثل الحيلولة دون إقامة دولة كردية مستقلة هدفاً استراتيجياً لكل من تركيا وإيران ارتباطاً بالتكوين الديموجرافي الداخلي لكلا الدولتين؛ إذ يمثل الأكراد نسبة معتبرة من سكان كلا الدولتين، يتمتعون بارتباطات قومية وأيديولوجية مشتركة مع أقرانهم في كل من سوريا والعراق، ولذلك كثفت الدولتان عملهما مجتمعتين أو بشكل منفرد للحيلولة دون نجاح الأكراد في أي دولة مجاورة من إقامة دويلة كردية، خاصة بعد الاضطرابات التي يشهدها إقليم الشرق الأوسط منذ عام 2011. وبرز العمل الجماعي المشترك لأنقرة وطهران في هذا الإطار مع تنظيم إقليم كردستان العراق استفتاءً للاستقلال عن العراق في سبتمبر 2017، والذي أجبر البلدين على العمل المشترك بعد سنوات من التنافس وتبادل الاتهامات.
فقد شهدت هذه الفترة زيارات متبادلة بين مسؤولي البلدين وتعزيزاً للتعاون الأمني والاستخباري بينهما، ما دفع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي إلى التصريح، في 4 أكتوبر 2017، أثناء استقباله الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأنه على تركيا وإيران القيام بأي إجراء ممكن لمواجهة استقلال كردستان العراق، وأعلن أردوغان ونظيره الإيراني آنذاك، حسن روحاني، إنشاء آلية ثلاثية بين العراق وإيران وتركيا لمواجهة هذا الأمر. ومن ثم فإن التنسيق الراهن بين البلدين في استهداف إقليم كردستان لا يبدو بعيداً عن هذا الهدف الاستراتيجي لكليهما.
2- تكثيف الضغط على العمال الكردستاني: يُنظر إلى حزب العمال الكردستاني على أنه التنظيم الكردي الأم الذي انبثقت عنه مختلف التنظيمات الكردية على اختلاف انتماءاتها الوطنية، ولذلك يشكل استهداف مواقعه الأساسية ومواقع الوحدات والقوات والتنظيمات التابعة له هدفاً مشتركاً لإيران وتركيا، ومن هنا يأتي تكثيف الضغط المشترك على مواقع الحزب في شمال العراق، بالإضافة إلى الضربات التركية في شمال سوريا، والتلويح بشن عملية عسكرية برية قريباً.
ويلاحظ أن تلك العملية التي لطالما رفضتها إيران في السابق، توافق عليها حالياً من منطلق دعم الأهداف الاستراتيجية التركية الخاصة بالأكراد، خاصة حزب العمال الكردستاني والأذرع التابعة له، سواء في سوريا والمتمثلة في وحدات حماية الشعب الكردي، أو في العراق والمتمثلة في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب كوملة الكردستاني الإيراني واللذين تضغط إيران منذ فترة طويلة على حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية الاتحادية لوقف نشاطهما في كردستان العراق.
3- أهداف داخلية: يرتبط التصعيد الإيراني والتركي الأخير في كردستان العراق بمتغيرات داخلية مهمة لكلا البلدين جعلت هذا التصعيد ضرورياً لكليهما. وبالنسبة لإيران تتواصل الاحتجاجات ولم يفلح النظام في إخمادها بالوسائل كافة، خاصة في محافظة كردستان الإيرانية ذات الأغلبية الكردية، وتتهم طهران الأحزاب الكردية الإيرانية الناشطة في إقليم كردستان العراق بإشعال هذه الاحتجاجات وإمداد المتظاهرين بالأسلحة، ولذلك تركز في الوقت الراهن على استهداف مقارها وقواعدها في شمال العراق، وللضغط في الوقت ذاته على حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية في بغداد لطرد عناصرها.
وفي المقابل، يظل الملف الكردي هاجساً أساسياً لدى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومن ثم يهدف من خلال التصعيد ضد الأكراد في كل من سوريا والعراق إلى توحيد الشعب التركي ضد ما يمكن تسميته بالخطر الكردي المهدد لاستقرار البلاد ووحدتها، للاستفادة من ذلك في الانتخابات المزمع إجراؤها منتصف عام 2023.
وفي الختام، مثّلت ما يمكن تسميتها بالمخاطر الكردية عامل التقاء استراتيجي لكل من تركيا وإيران للعمل المتزامن والمنسق لاستهداف إقليم كردستان في شمال العراق، بما يحقق تقويضاً مأمولاً لنشاط حزب العمال الكردستاني والأفرع الكردية الإيرانية العاملة في العراق، ويُشكل عامل ضغط على العراق بحكومتيه في إقليم كردستان وبغداد لوقف نشاط هذه التنظيمات على أراضيه، بالإضافة إلى ضبط حدوده الشمالية مع إيران وتركيا، وهو ما تحقق مبدئياً من خلال قرار الحكومة العراقية بنشر قوات لضبط الحدود، والذي كان مطلباً إيرانياً متكرراً من العراق.