يسعى العراق إلى اتباع مسارات عدة ومختلفة في مجال حركته الخارجية، حيث بدأ الأمر بزيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى طهران والأردن في أواخر شهر أكتوبر الماضي، وكذلك زيارة وزير الخارجية إبراهيم الجعفري إلى تركيا، وأخيراً زيارة الرئيس العراقي فؤاد معصوم للمملكة العربية السعودية، والتي تزامنت مع زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية العراقي نوري المالكي لإيران.
وجاء ذلك في الوقت الذي بدأ فيه الجيش العراقي تنفيذ عملية عسكرية واسعة في محافظة بابل، أدت إلى تحرير مدينة جرف الصخر، وتحرير مناطق العبدويس والحجير وصنديج والسعيدات والفاضلية ومركز الناحية والفارسية، مع استمرار توجيه أسهم الانتقاد إلى الحكومة الاتحادية في بغداد برئاسة حيدر العبادي لبطء عملية تسليح العشائر السنية في العراق من أجل مواجهة تنظيم "داعش" الذي يعمل على الثأر من تلك العشائر باغتياله للعديد من أبنائها حتى وصل عدد الضحايا من عشيرة البونمر إلى ما يزيد على 400 قتيل، ومازال العدد قابلاً للارتفاع مع زيادة الهجمات التي يقوم بها التنظيم على بعض المدن في محافظة الأنبار، خاصة قضاء هيت؛ وهو ما يفتح المجال للتساؤل حول إمكانية تنفيذ الحكومة العراقية تعهداتها الحالية بتسليح العشائر، وما هي أهم المعوقات أمام هذه الخطوة، وكيف يمكن للضغوطات الخارجية، سواءً كانت دولية أو إقليمية، أن تؤثر على هذا الأمر في المدى المنظور بالسلب أو الإيجاب.
"داعش" بين التقدم والانحسار
خسر تنظيم "داعش" أحد أهم المناطق الاستراتيجية في العراق، وهي منطقة جرف الصخر، التي تبلغ مساحتها 200 كيلومتر مربع، بعد أن تمكنت قوات الأمن العراقية بمساعدة مقاتلين من الحشد الشعبي- حسب المصادر الأمنية العراقية بلغ عددهم حوالي 4000 مقاتل- وقوات البشمركة الكردية من تحريرها في نهاية أكتوبر الماضي، حيث تكمن الأهمية الاستراتيجية لهذا المكان كونه يربط مناطق شمال محافظة بابل بمنطقة العامرية الفلوجة ومدن محافظة الأنبار، التي يسيطر التنظيم على بعض المناطق فيها، كما يمر بها أحد أهم طرق الزوار الشيعة المتوجهين إلى مدينة كربلاء (110 كم جنوب بغداد)، وهو ما يعد خطوة في طريق محاصرة التنظيم.
وهنا يمكن الإشارة إلى أهم الخسائر التي تعرض لها التنظيم جراء تحرير جرف الصخر:
- أدت عملية تحرير جرف الصخر إلى تكبد التنظيم خسائر واضحة في صفوف المقاتلين، علاوة على خسارة كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد، التي كان قد سبق واستحوذ عليها في المدن والمحافظات العراقية المختلفة.
- أفقدت استعادة منطقة جرف الصخر التنظيم أحد أهم الممرات الاستراتيجية لنقل المقاتلين والأسلحة والإمدادات من غرب العراق عبر الأنفاق الصحراوية إلى جرف الصخر، الذي يمثل حلقة وصل بين محافظات بغداد والأنبار وبابل.
- سمحت السيطرة الكاملة للقوات العراقية على مدينة جرف الصخر بمنع تقدم التنظيم من العاصمة بغداد، ومنعهم من التوغل نحو الجنوب ذي الأغلبية الشيعية.
- فتح المجال أمام قوات البشمركة لاستعادة السيطرة على ناحية زمار وعدد من القرى التابعة لها (70 كيلومتراً) شمال شرق مدينة الموصل مركز محافظة نينوي شمال العراق، حيث تعد زمار إحدى البلدات الخاضعة للأكراد، وكان يمثل سيطرة التنظيم عليها خطوة لتهديد أربيل، ولذا فإن استعادتها تمثل نقطة محورية في اتجاه التقدم نحو سنجار المحاصرة من قبل التنظيم، وهو ما يعني خسارة إضافية في قدرات التنظيم الميدانية.
- فقد التنظيم بفقدان جرف الصخر - تقع على طريق كربلاء - عنصر ضغط إضافياً على الحكومة العراقية من خلال منع أو ملاحقة مئات الآلاف من الشيعة لزيارة مرقد الإمام الحسين في كربلاء، أو القيام بعمليات إرهابية ضدهم، والتي قام ببعض منها أثناء إحياء ذكرى عاشوراء.
تسليح العشائر السنية: الفرص والإمكانيات
دفعت هذه الخسائر التي لحقت بالتنظيم على مدار الأيام الماضية في العراق إلى القيام بعمليات قتل انتقامية من بعض العشائر السنية في العراق، التي ساعدت القوات العراقية في التصدي للتنظيم، وكان على رأس هذه العشائر عشيرة البونمر في مناطق هيت وحديثة بمحافظة الأنبار غرب العراق؛ حيث تعرض المئات من أهلها لعمليات قتل جماعية على يد مقاتلي التنظيم خلال الأيام الماضية، مما أدى إلى تصاعد الدعوات الداخلية والدولية لدفع الحكومة العراقية لتسليح العشائر السنية.
وهنا تجدر الإشارة إلى النقاط التالية:
- سعى رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي إلى اتباع ما يسمي إجراءات بناء الثقة مع مختلف القوى السياسية العراقية خاصة مع المكون السني، لذلك تعهد العبادي خلال زيارته إلى الأردن بضرورة تسليح العشائر السنية، وجاء ذلك أثناء لقائه مع عدد من زعماء العشائر السنية العراقية الذين أكدوا بدورهم على مساندة الدولة العراقية في محاربة "داعش"، مقابل تسليح وتدريب أبنائهم، بالإضافة إلى لقاءات مكثفة أجراها رئيس الوزراء العبادي مع شيوخ ووجهاء مسؤولين في محافظات صلاح الدين والأنبار ونينوى وديالى، بهدف عقد مؤتمر مصالحة وطني بحضور عدد من المنظمات الدولية والإقليمية مثل جامعة الدور العربية والأمم المتحدة ومنظمة العمل الإسلامي، على أن يتزامن هذا مع تفعيل قانون العفو العام، وهو ما أكده أيضاً نائب رئيس الجمهورية لشؤون المصالحة الوطنية إياد علاوي.
وسوف يكون لذلك انعكاس إيجابي على محاربة الإرهاب في المناطق الغربية، علاوة على إمكانية قيام العبادي بإلغاء لجنة المصالحة الوطنية الحالية واستبدالها بهيئة عليا للمصالحة الوطنية، على أن يكون أعضاؤها من الشخصيات الوطنية، نظراً لفشل اللجنة الحالية وعدم قدرتها على إيجاد مناخ حقيقي للمصالحة، علاوة على عجزها في تهيئة الأجواء الإيجابية لذلك.
- طرح سليم الجبوري رئيس مجلس النواب إمكانية إقرار البرلمان العراقي قانون المجلس الأعلى لشؤون العشائر من أجل تأطير عمل العشائر في إطار مؤسسات الدولة، حيث تعد العشائر مكوناً أساسياً في الحراك السياسي العراقي، علاوة على فاعلية دورها في مواجهة تحديات تنظيم داعش، وهو ما يمكن أن يعتبر إحدى الدعائم أمام تسليح العشائر السنية في المرحلة المقبلة.
- محاولات المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني توحيد الصف العراقي في مواجهة الإرهاب، حيث دعا السيستاني إلى ضرورة تسليح العشائر السنية من أجل مد جسور الثقة مع أهالي العشائر في المناطق التي ينتشر فيها التنظيم، كما حث السيستاني الحكومة العراقية على الإسراع بنقل المعدات العسكرية والأسلحة المتطورة. وفي الوقت نفسه طالب قوات الحشد الشعبي بمساندة السنة في تلك المحافظات، وهو ما يعني قبول المرجع الشيعي بدور قوات الحشد الشعبي في مواجهة تنظيم "داعش"، لكنه يدعو في المقابل الأطراف كافة إلى الابتعاد عن الطائفية من أجل الوصول إلى الهدف المشترك للطوائف كافة في العراق، وهو القضاء على "داعش".
- عملت الولايات المتحدة على فرض مزيد من الضغوط على الحكومة الاتحادية العراقية في اتجاه دفع الأخيرة لتسليح المعارضة، حيث عبرت الولايات المتحدة عن تحفظها من التباطؤ في تسليح العشائر السنية في الأنبار، مما يقلل من إمكانيات محاصرة التنظيم في تلك الأماكن خاصة مع عجز القوات العراقية بمفردها عن تحقيق تقدم ملحوظ على الأرض، علاوة على ربط الولايات المتحدة بين إرسال مستشارين عسكرين لتقديم المشورة والمساعدة وبين عملية تسليح العشائر السنية، خاصة في محافظة الأنبار، وفقاً لما أعلنه مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية في مطلع شهر نوفمبر الجاري. كما أكد جون آلن مبعوث الرئاسة الأمريكية في التحالف الدولي ضد "داعش" أن الولايات المتحدة ستعمل مع المؤسسات الأمنية العراقية في موضوع دور العشائر، كما أشار إلى استعداد الولايات المتحدة لتدريب العشائر، نافياً وجود قرار بتسليح العشائر السنية العراقية.
تحديات تواجه تسليح العشائر السنية
على الرغم من أهمية تسليح العشائر السنية في العراق نظراً للعوامل والدوافع سابقة الذكر، فإن هذه العملية مازال يشوبها العديد من أوجه الغموض، خاصة في ظل وجود عدد من المعوقات، والتي يمكن الإشارة إليها في النقاط التالية:
- وجود خلاف بين وزير الدفاع خالد العبيدي وبين رئيس الوزراء حيدر العبادي، بشأن فرص تسليح وتدريب العشائر السنية في الأنبار لمواجهة التنظيم الإرهابي، حيث اقترح العبيدي خلال زيارته قاعدة عين الأسد الجوية بالقرب من قضاء هيت في 31 أكتوبر الماضي تدريب 2000 من أبناء العشائر وتزويدهم بالأسلحة الثقيلة وتدريبهم على قيادة المروحيات القتالية، حيث وجد العبيدي سهولة تدريبهم وتأهيلهم نظراً لأن معظمهم من العسكريين السابقين، وفي المقابل عارض حيدر العبادي هذا التوجه وطلب المزيد من الوقت لدراسة الخطوة.
- التخوف من تحول العشائر السنية إلى قوة عسكرية ضد الحكومة الاتحادية في بغداد في حال حدوث خلاف سياسي، كما كان الوضع في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، مع بداية الصدام في ديسمبر 2013 إثر قرار الحكومة باعتقال النائب السابق أحمد العلواني، مما أدى إلى اشتباكات واسعة بين ثوار العشائر والحكومة في عدد من المحافظات الغربية، مثل محافظة الأنبار وعدد من المناطق في الفلوجة وجرف الصخر، وهو ما هيأ المناخ لوجود بيئة حاضنة للجماعات المتطرفة، وفي مقدمتهم تنظيم "داعش".
- تبادل الاتهامات بين عدد من شيوخ العشائر السنية في العراق، فيما يتعلق بعلاقات بعض هؤلاء الشيوخ بالحكومة الاتحادية في بغداد، وهو ما يعني عدم توحد موقف شيوخ هؤلاء العشائر في كيفية التعامل مع الحكومة، مما يصعب عملية توحيد صف العشائر كخطوة أولية لمحاربة تنظيم "داعش".
- وجود تحفظ إيراني على تسليح العشائر، خاصة في ظل الدور المتنامي لإيران في العراق منذ سيطرة "داعش" على المحافظات العراقية في يونيو الماضي، مع تقديمها مختلف أوجه الدعم للميليشيات المسلحة الشيعية، كما يمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى الموقف الإيراني من إعادة هيكلة الجيش العراقي وتحفظها على نقطة تشكيل الحرس الوطني العراقي في مختلف المحافظات، لما يمثله هذا من تقليص وتقييد لدور الميليشيات الشيعية المنتشرة في العراق، وهو ما ظهر جلياً بعدما أعلن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي تأجيل هذا الطرح بعد زيارته طهران.
- ظهور بوادر للخلاف بين الولايات المتحدة وحكومة حيدر العبادي حول كيفية تطهير المدن العراقية، خاصة الموصل من تنظيم "داعش"، نظراً لتركيز الإدارة الأمريكية على تأهيل قوات الشرطة المحلية والمتطوعين من أهالي المدينة لتولي هذه العملية، بينما ترفض الحكومة الاتحادية هذا التوجه، وتسعى لأن يتولى الجيش العراقي هذه العملية، وهو ما تتخوف منه الإدارة الأمريكية في ظل افتقاد الجيش العراقي العقيدة العسكرية والقدرات القتالية، وهو ما وضح في الانسحاب المتكرر للجيش من العديد من المدن العراقية أمام تنظيم "داعش".
- فقدان الثقة بين الحكومة العراقية والعشائر السنية، إلى جوار انتشار الفساد، وهو ما يتيح الفرصة لعودة حالة الاحتقان الطائفي والسياسي في العراق، خاصة مع إقدام حكومة العبادي بتسليح قوات البشمركة الكردية، وبتشكيل أفواج كبيرة من القوات الشعبية الشيعية وتسليحها، لذلك انتقد ائتلاف القوى السنية بشدة بعض أطراف التحالف السياسي الشيعي التي تقترح إرسال قوات الحشد الشيعية إلى الأنبار بدلاً من تدريب وتسليح العشائر السنية لمقاتلة "داعش"، وهو ما فسر على أنه امتداد لسياسة المالكي التي جلبت العنف إلى المحافظة وغيرها من مناطق العراق.
خاتمة
إذن، يعد تردد الحكومة العراقية بشأن تسليح العشائر السنية أحد أهم معوقات التي سوف تواجه العراق في مواجهة تنظيم "داعش"، لذلك سوف تعمل حكومة حيدر العبادي على تأجيل اتخاذ هذه الخطوة، ولكن مع زيادة الضغوط الداخلية، وازدياد عمليات الاضطهاد التي يتعرض لها أبناء العشائر السنية، وكذلك الضغوط الخارجية، سوف تلجأ الحكومة الحالية لاتخاذ هذا القرار، ولكن بقدر من التحفظ، مما يعني إمكانية العمل على تسليح العشائر بشكل تدريجي لكي تكون الأولوية للعشائر ذات الصلة الوثيقة بحكومة العبادي، والتي لا تمثل خطراً مستقبلياً على الحكومة.
وفي المقابل سوف تفتح هذه الخطوة الباب أمام إيران لتزيد من دعمها للميليشيات الشيعية في العراق من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية ونفوذها، وهو ما يعني استمرار حالة عدم الاستقرار في العراق باعتباره ساحة للتجاذبات الإقليمية والدولية.
وإجمالاً، يعني ما سبق استمرار الخلاف بين مكونات المجتمع العراقي خاصة مع رؤية بعض القوى السياسية العراقية، خصوصاً القوى السنية على وجه التحديد، بأن الإشكالية تكمن في أن كل مكون من مكونات الشعب العراقي أصبح يقاتل التنظيم وفق مصالحه واعتباراته المذهبية والعرقية، حيث يدافع المكون الكردي عن مناطق يعتبرها تابعة لإقليم كردستان، مثل كركوك وجلولاء وخانقين وقرة تبه ومناطق حول مدينة الموصل. أما المكون الشيعي فيدافع عن عدد من البلدات، مثل آمرلي بالقرب من كركوك شمالاً وبلدة جرف الصخر جنوباً، لأن الأمر يتعلق بوجود غالبية من السكان الشيعة، كما أن البلدتين تمثلان مناطق مهمة لتحكمهما بالطرق الخارجية المؤدية إلى بغداد.