مائة يوم مرت على أداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليمين الدستورية أمام البرلمان، ليصبح الرئيس الثاني عشر يوم 8 أغسطس 2014، ويعزز موقفه كأقوى زعمائها في العقود الأخيرة.
صحيح أن أردوغان أغدق المديح على أتاتورك، أثناء توقيعه كتاب الشرف في ضريحه، متعهداً بـ"السير على خطاه وأن تنعم روحه بطمأنينة وفخر"، إلا أن ذلك لم يكن أكثر من مجرد تقليد بروتوكولي مفروض على كل رئيس جمهورية في يوم تنصيبه، إذ زار الرئيس الجديد ضريح مؤسس تركيا الحديثة.
فخطاب أردوغان كان يخفي أكثر مما يبدي، فلم يكن في جوهره إلا تكتيكاً لتهدئة توتر المؤسسة العسكرية، وتصاعد مخاوف التيارات العلمانية المتشككة في التوجهات الراديكالية لأردوغان، الذي يمتلك سيطرة شبه مطلقة على حزب العدالة والتنمية.
وعلى الرغم من تأكيد أردوغان أنه حاكم مسلم لدولة علمانية تقوم على المؤسسية والفصل بين السلطات، فإن سلوك أنقرة يوحي عكس ذلك، فقد أدت سياسة صاحب القصر الأبيض طوال المائة يوم الأولى من حكمه إلى تكريس الاستقطاب السياسي والمجتمعي، فضلاً عن اتساع الرتق مع المؤسسة العسكرية التي دخلت لأول مرة منذ ثلاثة عشراً عاماً في سجال علني مع أردوغان وحكومته.
الداخل التركي.. تكريس الاستقطاب
الأرجح أن ثمة جوانب تلمح إلى تكريس الاستقطاب وإصرار أردوغان على القفز والالتفاف على القيم العلمانية، و"أسلمة" المجتمع على طريقته، إذ أعلنت مديرية الشؤون الدينية التركية في 20 نوفمبر 2014 عن بناء مسجد داخل أكثر من 80 جامعة. وافتتح 15 منها للصلاة، وسيتم افتتاح 50 مسجداً آخر على الأقل في عام 2015، الأمر الذي زاد من مخاوف المنتقدين إزاء فرض مبادئ الإسلام على المجتمع التركي، خصوصاً أنه يتوقع أن تكون هذه المساجد أماكن لتجمعات أنصار العدالة والتنمية داخل الجامعات، علاوة على ما قد يثيره من صراعات بين الطلبة على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية.
وإذا ما أضيف لما سبق حديث أردوغان عن المرأة التركية، وتأكيده أنها ليست لها حقوق مثل الرجال، وحينما يتحدث عن أن اكتشاف الأمريكيتين هو يد على يد المسلمين وليس كريستوفر كولومبس (بغض الطرف عن صحة أم خطأ ذلك)، فإنه يجوز القول إن تركيا دخلت طوال المائة يوم الماضية في جدل عقيم حول الهوية بدلاً من العمل على ترسيخ البرنامج الانتخابي لأردوغان، خصوصاً بعد تصاعد الجدل حول تحفيز الدروس الدينية وتحفيظ القرآن واللغة العثمانية في المدارس التركية، ناهيك عن إقرار وزارة التعليم التركية في 5 ديسمبر الجاري مجموعة توصيات، أهمها فرض دروس دينية على التلاميذ من الصف الأول الابتدائي، بدلاً من الرابع الابتدائي، كما هو معمول به حالياً.
إن سلوك الرئيس أردوغان طوال الأيام التي خلت ربما فتح الباب واسعاً حول تساؤل رئيسي هو: ماذا تبقى من تجربة الإسلام السياسي في تركيا، التي طالما رُوج لها باعتبارها النموذج الإسلامي الجامع بين الإسلام والديمقراطية، وباعتباره أنموذجاً أكثر انفتاحاً على الآخر.
ولم يكن طرح التساؤل بعيداً عن السياقات السياسية والمجتمعية التي تعيشها أنقرة منذ وصول أردوغان إلى سدة السلطة في أغسطس الماضي، إذ يسعى أردوغان حثيثاً إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحاته السياسية، والإمساك بمفاصل الدولة وأعصابها الحساسة، وبدا ذلك في تهميش الحكومة التي يفترض أنها تتمتع بصلاحيات أوسع إذا ما قورنت باختصاصات رئيس الدولة، فضلاً عن إعادة أردوغان تشكيل خريطة القضاء التركي في أعقاب فوز المحسوبين عليه بنتائج انتخابات مجلس القضاء الأعلى، وانعكست ملامح هذا الفوز سريعاً في تبرئة القضاء قبل أيام لأردوغان ونجله وآخرين في قضايا الفساد التي كُشف النقاب عنها في 17 ديسمبر 2013.
القلق بين الجيش وأردوغان
منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض دولة "الخلافة" والجيش التركي في قلب الجمهورية ومؤسسها الحقيقي، فقد كفل الدستور التركي صلاحيات واسعة للجيش في صنع القرار السياسي عن طريق مجلس الأمن القومي التركي، والذي يهيمن عليه قادة الجيش.
لكن منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ظل القلق هو العنوان الأبرز للعلاقة بين الجيش والإسلاميين، إذ نجح حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان في تقليص زخم المؤسسة العسكرية، وكانت البداية في 20 أكتوبر 2008 حين المحاكمة الأولى لتنظيم "أرجنيكون" للجنرالات المتقاعدين والمتهمين بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم.
وفي 9 يوليو 2009 أجريت تغييرات قانونية تسمح بمحاكمة الضباط الموجودين بالخدمة أمام محاكم مدنية في حالات الجريمة المنظمة والتدخلات العسكرية في السياسية، وهو ما حدث بالفعل حيث جرى في يناير 2010 استجواب بعض الضباط المتقاعدين وآخرين في الخدمة أمام محكمة مدنية للتحقيق في محاولات الإطاحة بحكومة العدالة والتنمية.
سلوك العدالة والتنمية باتجاه تهميش المؤسسة العسكرية زاد من انعدام الثقة بين الجنرالات والإسلاميين، والتي تصاعدت مع التصريحات الرسمية الخشنة التي يطلقها الجيش منذ وصول أردوغان إلى مقعد الرئاسة، وآخرها تصريح الجنرال نجدت أوزيل، الذي انتقد فيه سلوك أردوغان وحكومة أوغلو بشأن الأزمة في كوباني، وطالب باتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة خطر التمرد الداخلي بعد تصاعد احتجاجات الأكراد التي يصر أردوغان على إنجاز تسوية سياسية معهم لإنهاء الصراع الكردي الدائر منذ أكثر من ثلاثة عقود، وراح ضحيته عشرات الآلاف والجرحى بينما تعتبر المؤسسة العسكرية منظمة حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية ينبغي وأدها.
وأصبحت العلاقة بين الجيش وأردوغان أكثر سوءاً مع إيعاز الأخير لحكومة أوغلو بتعديل قانون الأمن الداخلي المثير للجدل، والذي بموجبه يتم توسيع صلاحيات الشرطة في التوقيف والاعتقال، ما يعني انتزاع قوة الدرك من يد الجيش التركي، وربطها بالكامل بوزارة الداخلية التي ستكون مسؤولة عن التعيينات والترقيات وتوجيه هذه القوة العسكرية.
ويهدف أردوغان من وراء هذه الخطوة استخدام عناصر الدرك في العمليات السرية التي يقوم بها جهاز الاستخبارات التركي فيما يتعلق بالشأن السوري، من دون اطلاع الجيش الذي يعارض سياسة أردوغان تجاه الصراع السوري ويعتبرها تشكل تهديداً للأمن القومي التركي.
وعلى الرغم من أن قوة الدرك تعمل على الحدود، وفي مناطق تخرج عن سيطرة الشرطة، فإنها خطوة تأتي في سياق رغبة أردوغان في إدارة الملفات الساخنة بعيداً عن الجيش.
والواقع أن الأزمة السورية كشفت عن عمق الهوة بين الجيش التركي وحزب العدالة والتنمية، ففي الوقت الذي ألمح فيه أردوغان إلى احتمالات التدخل عسكرياً في سوريا، رفض قادة القوات المسلحة التدخل بأي شكل من الأشكال في المستنقع السوري، لعدة أسباب أولها تأزم الوضع في سوريا وتصاعد الجماعات الراديكالية، فضلاً عن تعاظم الدعم الذي تقدمه إيران ومن ورائها حزب الله لقوات الأسد. وثانيها، خشية الجنرالات من أن يكونوا كبش فداء لأردوغان في حال ساءت الأوضاع في سوريا، إذ يدرك الجنرالات أن أردوغان قد يقدمهم كبش فداء حال فشل المهمة في سوريا.
ومؤخراً ظهرت حدة الخلافات بين الجيش وأردوغان على الملأ بعد أن سجلت رئاسة الأركان اعتراضاتها رسمياً أمام وسائل الإعلام والرأي العام التركي، خاصة فيما يتعلق بقانون "البدل النقدي" للإعفاء من الخدمة العسكرية.
وبشيء من الإيجاز، يمكن القول إن سلوك أردوغان باتجاه إقصاء المؤسسة العسكرية زاد من الاحتقان بين الطرفين، لاسيما بعد إعادة صياغة المادة 35 في قانون عمل الجيش الذي صدر عام 1960، حيث نزعت الصياغة الجديدة ما تبقى من سلطة سياسية للجيش التركي، وحددت مجال تدخل القوات المسلحة بـ"الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان".
في هذا السياق العام، فإن الباب يفتح واسعاً أمام سيناريوهات عدة حول مستقبل العلاقة بين الجيش التركي وأردوغان ربما تصل إلى المواجهة المباشرة، أو حدوث حالة من المراوحة بين الطرفين، ومحاولة المؤسسة العسكرية النفاذ تدريجياً إلى صدارة المشهد، واستعادة زخمها الشعبي مستغلين تعثر أداء الاقتصاد التركي، حيث أبقت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني على تقييمها السلبي لتركيا، جنباً إلى جنب تسخين قضايا الفساد واقتراب لجنة تقصي الحقائق البرلمانية من الانتهاء من عملها بشأن قضايا الفساد التي تلاحق أردوغان وعائلته ورموز حكمه.
أردوغان والتراجع الإقليمي
أما على المستوى الإقليمي، فدخلت تركيا حتى قبل ترؤس أردوغان تركيا في مناخ من التوتر مع عدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، كما كشفته حسابات تركيا المختلفة لدخول الحرب ضد "داعش"، ورفض أنقرة اللحاق بالتحالف الدولي لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي، ورهن مشاركتها في التحالف أو السماح باستخدام قاعدة أنجرليك العسكرية بإسقاط نظام الأسد وإقامة منطقة عازلة بعمق 40 كم على الحدود السورية، فضلاً عن إقامة مناطق حظر جوي فوق الأراضي السورية؛ وهو الأمر الذي يتعارض مع استراتيجية واشنطن التي تعطي أولوية لمواجهة المتشددين في العراق وعزل معاقل "داعش" في سوريا.
توتر أردوغان لم يقتصر على الإدارة الأمريكية التي وصفها بأنها "وقحة"، إثر زيارة نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن أنقرة طالباً دعمها في الحرب على تنظيم "داعش"، حيث وجه أردوغان سهامه إلى العالم الغربي، واتهم في كلمته أمام اللجنة الاقتصادية لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول في 27 نوفمبر الماضي الغرب بأنه يكره المسلمين، وقال "أي شخص يأتي من الغرب إلى أرضنا يكون هدفه ثرواتنا ونفطنا واليد العاملة الرخيصة والحروب النزاعات القائمة.. يظهرون لنا وداً، لكنهم يتشفون بموت أبنائنا".
والواقع أن هجوم أردوغان على الغرب يمكن فهمه في سياق تردد الاتحاد الأوروبي قبول أنقرة عضواً بالعائلة الأوروبية وتوبيخ الاتحاد لأنقرة بعد دعمها التنظيمات المتشددة ورفضها تمرير المساعدات اللوجستية والعسكرية لأكراد كوباني، فضلاً عن النزعة الاستبدادية لأردوغان والبعد عن قيم الديمقراطية المدنية.
في المقابل واصل أردوغان تحديه لنظام الحكم الذي أفرزته ثورة 30 يونيو في مصر، إذ مازال يصر على وصف ما حدث في مصر بأنه "انقلاب"، وتستضيف أنقرة اجتماعات التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، منوط بها دراسة الموقف على الأرض ووضع البدائل والاستراتيجيات المتعلقة بإدارة الصراع مع السلطة الجديدة في مصر.
والأرجح أن السلوك التركي تجاه الثورات العربية وتطوراتها وتداعياتها طوال السنوات التي خلت أدى إلى توتر علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، وتراجع صورتها الذهنية في قطاع كبير لدى دول وشعوب المنطقة العربية.