أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

ملك الإصلاحات:

الملك عبدالله في ميزان الداخل والخارج

24 يناير، 2015


سوف يقف التاريخ طويلاً، ويذكر الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، باعتباره الملك الذي عبر ببلاده مرحلة شديدة الدقة في التاريخ السعودي الحديث، لا تعود فقط إلى مدة حكمه الرسمية التي استمرت منذ عام 2005، بل تعود إلى عام 1995، حينما كانت يتولى المسؤولية الفعلية لشؤون المملكة، وهو ولي للعهد، وذلك بعد تعرض الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز لمشاكل صحية شديدة.

لقد مرت المملكة منذ تسعينيات القرن الماضي بالعديد من التحديات الداخلية والخارجية التي كانت تتطلب حلولاً غير تقليدية، حيث تعامل الملك الراحل مع ملفات وقضايا مستمرة وشائكة وسط أجواء إقليمية ودولية عاصفة، علاوة على مشكلات جديدة لم يسبق أن مرت بها المملكة والمنطقة من قبل، وتمكن بحنكته من المرور بالمملكة، بل وبالمنطقة، من الحد من تداعيات الغزو العراقي للكويت عام 1990، ومن التعامل بموضوعية حقيقية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، وما أعقبها من غزو أمريكي للعراق، ثم استطاع بحكمة بالغة وبقدر كبير من السلاسة واتخاذ القرارات الصحيحة أن يمر بالمملكة من تلك الأجواء العاصفة التي هزت منطقة الشرق الأوسط بعد "الثورات" العربية في عام 2011، وجنب بلاده التعرض إلى هزات كبيرة خلال هذه الأزمات الكبرى كافة؛ ليكون بالفعل واحداً من أكثر ملوك السعودية شعبية، ليس لدى السعوديين فقط، وإنما لدى شعوب العالمين العربي والإسلامي.

وإذا كان انتقال السلطة من الملك عبدالله وتولي أخيه الملك سلمان موقع القيادة الأول بالمملكة، وتعيين ولي العهد وولي ولي العهد من قبل الملك سلمان، قد تم بسلاسة وهدوء وفي أقصر وقت ممكن ومن دون تكلف؛ فإن هذا الانتقال السلس للسلطة يعتبر من أهم منجزات الملك الراحل عبدالله الذي أسس هيئة البيعة، وأقر تعيين ولياً لولي العهد.

الملك الراحل.. وملفات الداخل والخارج

تولى الملك الراحل عبدالله الحكم الفعلي للبلاد منذ عام 1995، وكان عليه وقتها التعامل مع ملفات وقضايا شديدة التعقيد داخلياً وخارجياً، منها تراجع مداخيل النفط في أعقاب حرب الخليج الثانية، ونمو الحركات الإسلامية المتشددة، بل وتعرض المملكة إلى عمليات إرهابية داخل أراضيها في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ثم مجدداً عادت الأزمات بشدة في عام 2003، مع عودة التيارات المتشددة على الساحة الإقليمية بقوة، هذا علاوة على تصاعد المطالب الداخلية والخارجية المطالبة بالإصلاحات السياسية في دول منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى بروز ظاهرة مذكرات وعرائض الإصلاح ممن يطلق عليهم داخل المملكة "الإصلاحيون"، حيث تم رفع هذه العرائض للملك فهد ثم للملك عبدالله، كما برزت بعض التوترات الداخلية في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية، على خلفية تنامي التوترات والصراعات المذهبية في عموم المنطقة، لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وما أعقبه من تصاعد التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية.

وخارجياً كان على الملك الراحل التعامل مع اضطرابات إقليمية لا تهدأ واتهامات لسعوديين بالضلوع في هجمات 11 سبتمبر 2001، ثم الحرب الأمريكية ضد العراق، ثم العاصفة الكبرى التي تمثلت في "الثورات العربية" وما تبعها من أزمات طاحنة في اليمن وسوريا ومصر وغيرها.

لقد قدم الملك الراحل عبدالله طوال فترة حكمه آليات جديدة للتعامل مع مشكلات مزمنة، كان بدايتها نهوضه بالكثير من الإصلاحات السياسية، فتعامل مع المطالب الإصلاحية بقدر كبير من الحكمة، حيث نظم الحوار الوطني في عام 2003 (وكان وقتها لايزال ولياً للعهد)، وسمح في هذا الحوار بإشراك شخصيات شيعية؛ ما اعتبر آلية مهمة لامتصاص الاعتراضات.

كما قام بالعديد من الإصلاحات في مجلس الشورى بزيادة عدد الأعضاء من 60 عضواً في عام 1997 وقت تأسيسه إلى 150 عضواً في عام 2005، وأدخل تعيين المرأة في المجلس. وفي هذا الصدد، يعتبر الملك الراحل أول من أدخل فكرة الانتخابات إلى المملكة، حيث نظمت أول انتخابات بلدية في عام 2005.

من جانب آخر وافق الملك الراحل (وكان وقتها ولياً للعهد) على إنشاء أول منظمة مستقلة لحقوق الإنسان في عام 2004، ثم تأسيس هيئة حقوق الإنسان في عام 2005. وبعد توليه الحكم، قام بتأسيس هيئة البيعة لضمان الانتقال السلس للحكم في المملكة، حيث هدف الملك عبدالله إلى اتخاذ خطوة تثبيت اختيار ولي العهد وولي ولي العهد في حياته ليضمن أكبر قدر من الاستقرار الداخلي للمملكة، وبما يضمن مشاركة الجيل الثاني بشكل أكبر ومتسلسل، أي أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز.

وقد تكون المرأة السعودية هي الفائز الأكبر في فترة حكم الملك عبدالله، فقد شهدت فترة حكمه فتح العديد من الأبواب أمامها؛ إذ دخلت المرأة السعودية مجلس الشورى للمرة الأولى في التاريخ في يناير 2013، بعدما قام الملك الراحل بإعادة تشكيل المجلس وتعيين 30 سيدة به، من خلال تخصيص 20% من مقاعد المجلس البالغة 150 مقعداً. كما كان الملك قد قرر أن تشارك المرأة في الانتخابات البلدية التي سوف تجرى في عام 2015.

وفي عهده عُينت سيدات للمرة الأولى في مناصب حكومية بارزة، حيث تولت نورة الفايز منصب نائبة وزير التربية والتعليم لشؤون البنات في عام 2009. كما صدر قرار وزارة العدل بالسماح للمرأة بدخول ومزاولة مهنة المحاماة والترافع بناء على توجيهات الملك عبدالله، وحازت المرأة السعودية نصيباً مهماً من "برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي"، الذي بدأ في عام 2004، حيث تجاوز العدد 200 ألف مبتعث ومبتعثة خلال تسعة أعوام. وكان افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) في عام 2009، وهي أول جامعة مختلطة في المملكة، من الإشارات المهمة للإصلاحات الملكية.

وتمكن الملك الراحل عبدالله من تحقيق إنجازات مهمة على الصعيد الاقتصادي والتنموي طوال فترة حكمه، وهو ما جعل المملكة تحقق فائضاً قياسياً في موازنتها بلغ 265 مليار ريال عام 2006، وهو ما أدى من إمكانية تنفيذ خطط الملك الراحل للنهوض بالعديد من المشروعات التنموية، وسمحت هذه الفوائض المستمرة في عام 2011 بإعلان الملك عن حزمة قرارات إصلاحية وتنموية بقيمة 35 مليار دولار، منها زيادة الأجور في القطاع العام بنسبة 15%، وتنفيذ برامج تحسين الرعاية الصحية، وزيادة القروض السكنية المقدمة للمواطنين، واستحداث 60 ألف فرصة عمل. وعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط في النصف الثاني من العام الماضي 2014، فإن الملك الراحل أمر بالإبقاء على مستويات إنفاق مرتفعة في ميزانية عام 2015 من أجل الحفاظ على السلم والأمن الاجتماعي.

من جانب آخر تميزت سياسات الملك عبدالله الإقليمية بالحكمة والموضوعية والتوازن، فكانت القرارات الملكية في التعامل مع ملفات شديدة التعقيد، مثل قرار انضمام المملكة إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، ووقوف المملكة إلى جانب البحرين وقت تعرضها لأزمات الداخلية، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي لعبه الملك في لم شمل الصف الخليجي، وتحقيق المصالحة بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في أواخر العام الماضي، وسعيه إلى رأب الصدع بين القاهرة والدوحة.

الملك سلمان.. وإكمال المسيرة

لقد ودع الملك عبدالله المملكة التي حباها بالرعاية والتنمية والحكمة، وسط ظروف لا تقل صعوبة وتعقيداً عن تلك التي صادفت فترة حكمه القصيرة. ويدرك الملك سلمان ذلك، خصوصاً أنه شارك الملك الراحل في معالجة الكثير من القضايا الداخلية والخارجية، وله إسهامات مهمة وخبرات متراكمة وشعبية كبيرة تسمح له بإكمال مسيرة استقرار المملكة العربية السعودية والنهوض بها اقتصادياً واجتماعياً.

ويعرف عن الملك سلمان بن عبدالعزيز أنه من الشخصيات ذات التوجه الإصلاحي مثل الملك الراحل عبدالله، وهو يفضل تبني نهجاً تدرجياً  في الإصلاح الاجتماعي والثقافي، فهو يجب أن يستمر بوتيرة محددة ووفق خطوات مدروسة بعناية من أجل إحداث التوازن بين مكونات المجتمع السعودي وفئاته التعليمية والاجتماعية والثقافية والدينية كافة.

وبوجه عام، سوف يكون على الملك سلمان التعامل مع تحديات كبرى تواجه المملكة والمنطقة في اللحظة الراهنة بذات الحنكة والحكمة التي ميزت أداءه مع الملك الراحل، فالتطورات الأخيرة في اليمن وسيطرة الحوثيين واستقالة الرئيس اليمني، وتراجع أسعار النفط، وتفاقم الخطر الداعشي والقاعدي بالمنطقة، وتعرض حدود المملكة في الفترة الماضية لمحاولات تسلل لعدد من الإرهابيين شمالاً وجنوباً، والأوضاع في سوريا، والعلاقات مع دول الجوار وتحديداً إيران وتركيا.. كلها قضايا وملفات شائكة تحتاج مواصلة تقوية الجبهة الداخلية لتأمين حدود المملكة.

ويمكن القول إن كلاً من سهولة وسلاسة انتقال السلطة بالمملكة، وتراكم الخبرات الطويلة للملك سلمان، يعززان الاستمرار على نهج الملك عبدالله في الداخل والخارج، فقد تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز مناصب مختلفة في المملكة، لاسيما عمله مستشاراً لعدد من ملوك المملكة؛ وهو ما جعله يلقب بـ "أمين سر" الأسرة السعودية، بالإضافة إلى توليه إدارة المملكة فعلياً في الأشهر الأخيرة مع مرض الملك الراحل عبدالله. كما أنه تولى إمارة منطقة الرياض لسنوات طويلة وأحدث بها طفرات تنموية وتحديثية كبرى قبل توليه ولاية العهد، وهو ما جعله شخصية تحظى باحترام وتأييد قطاعات واسعة في صفوف المواطنين.