تكهنت بعض وسائل الإعلام الإقليمية والدولية خلال الفترة السابقة على زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الأولى إلى منطقة الشرق الأوسط في الفترة من 13 إلى 16 يوليو 2022، بقرب إعلان قيام ما يُسمى بـ "ناتو شرق أوسطي" بقيادة الولايات المتحدة، حيث يُفترض أن يسعى هذا التحالف للحيلولة دون حصول إيران على سلاح نووي، واحتواء سياستها التوسعية في المنطقة؛ على أن يشمل وفقاً للطرح الأمريكي دول الخليج ومعها مصر والأردن والعراق، إضافة إلى إسرائيل.
وقد انتهت زيارة بايدن للمنطقة من دون الإعلان عن إنشاء هذا التحالف، ولم تتم الإشارة إلى أنه تمت مناقشته في "إعلان القدس" الصادر في ختام مباحثات الرئيس الأمريكي في إسرائيل، أو "إعلان قمة جدة للأمن والتنمية" في ختام مباحثاته مع قادة الدول العربية التسع.
وبغض النظر عن تلك التكهنات الإعلامية التي لم تصدق، فإن فكرة إنشاء "ناتو" في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة، هي مسألة صعبة من الأساس؛ لعدة أسباب، تشمل استمرار ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، بالإضافة إلى غياب دور أمريكي مُمهد لقيام مثل هذا التحالف، واختلاف رؤى دول الإقليم المُؤثرة حول مصادر التهديد وكيفية التعامل معها، وكذلك وجود بدائل، إما دولية أو إقليمية، لمواجهة إيران وتُعد أقل كُلفة سياسية من قيام ذلك التحالف.
وأيضاً على سبيل المقارنة، فإن ظروف قيام حلف شمال الأطلسي "الناتو" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تشير إلى وجود اختلافات استراتيجية كبرى بين أوضاع أوروبا الغربية آنذاك بعد الحرب، والأوضاع الحالية في الشرق الأوسط، الأمر الذي يُستبعد معه قيام تحالف جديد، ولو في هذه المرحلة على أقل تقدير.
ميل ميزان القوى لصالح واشنطن وحلفائها:
انتشرت فكرة خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وتضاؤل دورها السياسي والأمني في المنطقة خلال الأعوام السابقة؛ لكن حقيقة الأمر أن ما قامت به واشنطن هو إعادة ترتيب تواجدها وأولوياتها، حيث انصب اهتمامها على مصالحها التقليدية؛ وهي تأمين كلِ من إسرائيل ومصادر النفط في منطقة الخليج، ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي يهدد مصالح واشنطن التقليدية، وأيضاً استمرار دور الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب بمناطق مختلفة في الإقليم. وذلك كله يتم من خلال وجود عسكري أمريكي قائم ومستمر وذي ثقل في المنطقة، وهو كفيل بالتعامل مع إيران، لو تتطلب الأمر.
كما أن حلف "الناتو" الأطلسي الذي تقوده واشنطن قد وسّع من مسرح عملياته ليشمل الشرق الأوسط، وأصبح له وجود فعلي في الإقليم منذ وجوده في العراق، وقام كذلك بتدخلات عسكرية في المنطقة مثل تدخله في ليبيا عام 2011. أضف إلى ذلك أن 3 دول رئيسيه من أعضاء حلف "الناتو" - وهي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا - تشارك الولايات المتحدة في مفاوضاتها مع إيران حول برنامجها النووي.
علاوة على أن الولايات المتحدة تقود تحالفاً دولياً كبيراً ينفذ عملية "العزم الصلب" ضد تنظيم داعش في العراق والشام، وذلك في مناطق متاخمة لمناطق النفوذ الإيراني في العراق وسوريا؛ مما يوفر لواشنطن وجوداً جاهزاً وفعالاً لردع طهران أو التدخل ضدها إذا أرادت القيام بذلك، ومن دون أن يتطلب الأمر بناء تحالف إقليمي جديد في الشرق الأوسط، قد يقتضي دوراً أمريكياً دبلوماسياً مُعقداً ويستلزم - على سبيل المثال لا الحصر - حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. كما أن إسرائيل منشغلة مع إيران في صراع عسكري مُنخفض الكثافة لم يصل بعد إلى حد الحرب العلنية بسبب برنامج إيران النووي ووجودها في سوريا ونفوذ حليفها حزب الله في لبنان. واستطاعت إسرائيل أن تُكبد طهران خسائر مادية وبشرية، وعلى استعداد أن تُوسع من عملياتها ضدها.
وكل ما سبق يجعل ميزان القوى يصب في صالح الولايات المتحدة وحلفائها من دون احتياج واقعي لقيام تحالف جديد على غرار "الناتو" في الشرق الأوسط لمواجهة إيران. ولعل عدم قدرة طهران على فرض كامل سيطرتها، وبسط نفوذها المُطلق على مواقع تدخلها في دول مثل سوريا والعراق، يدلل على ضعف قدراتها، ومقاومة نفوذها في هذه الدول، سواء من قوى داخلية أو إقليمية تسعى هي الأخرى لبسط نفوذها ومنافسة النفوذ الإيراني. كما أن الدول التي تتدخل فيها إيران لا تزال ضعيفة وهشة، ولم تُضف إلى ميزان القوة الإيراني إمكانيات استراتيجية جديدة تُمكن طهران من مجابهة الولايات المتحدة وحلفائها؛ بل إن مناطق نفوذ إيران هي دول تستنزف مواردها، خصوصاً أن طهران لا تزال تقبع تحت حصار اقتصادي دولي. وتفشل إيران في تحويل نفوذها في تلك الدول إلى زيادة في قدراتها الاستراتيجية، مما يخلص معه في النهاية إلى عدم وجود ضرورة حقيقية لقيام هذا النوع من التحالف.
تباين الرؤى بشأن مواجهة إيران:
مما لا شك فيه أن دول مجلس التعاون الخليجي ومعها الأردن ومصر وبعض القوى السياسية في العراق، يرون في سلوكيات إيران الإقليمية، خاصةً تدخلاتها العسكرية في بعض الدول العربية اعتماداً على حرسها الثوري ووكلائها المسلحين، تهديداً لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، وإثارة للنعرات الطائفية فيها. وعلى الرغم من اتفاق تلك الدول فيما بينها على ضرورة احتواء السياسات الإيرانية، وربما تشجيع النظام الإيراني على تغيير سلوكه الإقليمي؛ فإن كل دولة منها قد تتبنى سياسة مستقلة عن الأخرى في التعامل مع طهران، كل حسب رؤيته لطبيعة ودرجة التهديد.
فالبعض يعتمد على الاستعداد داخلياً لمواجهة إيران، اعتماداً على موارده الذاتية وتنويع علاقاته الدولية، وبما يسمح له بتوازن ضدها. والبعض الآخر يتبع أسلوب الحوار الدبلوماسي مع طهران للوصول إلى تفاهمات إقليمية اعتماداً على علاقاته بالدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة. ومن ناحية ثالثة، فإن ثمة دولاً ترفض سلوك طهران، إلا أن لها أولويات وتهديدات أخرى تسبق التهديد الإيراني.
وبالتالي يخلص من كل ذلك أن كل دولة تعتمد على نهج مختلف نسبياً في التعامل مع إيران، ما يعكس تفاوت الرؤى حول خطورة السياسات الإيرانية، ويُظهر أيضاً عدم الاحتياج لقيام ما يُسمى بـ "ناتو شرق أوسطي"، وما يتطلبه ذلك من تجانس قوي بين الدول العربية والتزامات مادية وعسكرية، قد تكون الأوضاع الحالية في المنطقة لا تتطلبه.
إضافة إلى كل ما سبق، فإن الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة ترى في برنامج إيران النووي خطراً وجودياً على مستقبل إسرائيل، وتهدد الأخيرة من وقت إلى آخر بتوجيه ضربة عسكرية ضد طهران، وهي تستغل علاقاتها القوية مع واشنطن واتفاقهما على الحيلولة دون حصول إيران على سلاح نووي في مزيد من تنسيق السياسات وتوزيع الأدوار، مما يتيح لبعض الدول العربية الاستغناء عن فكرة وجود "تحالف شرق أوسطي".
اختلافات عن "الناتو" الأطلسي:
قد تتشابه المُسميات بين حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تأسس في عام 1949 في بدايات الحرب الباردة، وبين ما يروج له البعض مؤخراً على أنه "ناتو شرق أوسطي"؛ بيد أن ثمة اختلافات جذرية في نشأة "الناتو" في أوروبا، تجعله بعيد كل البعد عن أوضاع الشرق الأوسط حالياً. ويرجع ذلك تحديداً إلى طبيعة الخطر السوفيتي السابق الذي استطاع آنذاك احتلال كامل لشرق أوروبا، بالإضافة إلى ألمانيا الشرقية، وكان يتقارب مع الولايات المتحدة في توازن القوة العسكرية وربما يفوقها في بعض القدرات. وبالتالي أجمعت القيادات السياسية لدول أوروبا الغربية والولايات المتحدة على طبيعة ذلك الخطر السوفيتي وسعيه للتوسع غرباً، وانسجموا فيما بينهم إلى حد كبير بسبب هذا التهديد. وحدث كل ذلك في ظل تنامي نفوذ الحركات السياسية الشيوعية في أوروبا الغربية والتي كانت تتمتع بعلاقات وثيقة مع موسكو في دول مثل ألمانيا الغربية وإيطاليا وفرنسا، الأمر الذي كان يهدد بتحول تلك الدول من نظم ديمقراطية ليبرالية إلى أخرى شيوعية.
ولا شك أن تلك الأوضاع كانت مخالفة لطبيعة التهديد الإيراني الحالي، والذي استطاعت القوى الدولية تحجيمه من خلال فرض عقوبات اقتصادية على طهران منذ سنوات، وهو ما منعها حتى الآن من الحصول على سلاح نووي. كما أن التهديد السوفيتي السابق دفع الدول الغربية إلى مطالبة واشنطن ببقاء وجودها في أوروبا بعد الحرب، وإقناعها بضرورة قيادتها لدول أوروبا الغربية لمواجهة النفوذ السوفيتي السابق، الأمر الذي تطلب مجهوداً دبلوماسياً كبيراً من واشنطن لإقامة حلف "الناتو"، واتخاذ إجراءات بناء ثقة وسلام تسمح بدخول ألمانيا الغربية ضمنه. فألمانيا هي الأخرى كانت قد احتلت دول أوروبا الغربية كلها ما عدا بريطانيا، وبالتالي كان على واشنطن إقناع بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا بضرورة انضمام ألمانيا الغربية إلى "الناتو" من أجل تعظيم استفادة الحلف من مواردها المادية وقدراتها العسكرية.
ويعنى ذلك أن الولايات المتحدة كان عليها أن تُعطي أولاً بعض الضمانات للدول الغربية من أجل الموافقة على شمول حلف "الناتو" ألمانيا الغربية، وإقناع الأخيرة بقبول بعض الشروط السيادية التي تحد من استقلالها السياسي كقبول قيادة "الناتو" لقواتها العسكرية، وقبولها أيضاً لإدارة أوروبية لبعض مواردها المادية الخاصة بصناعات الحرب مثل الحديد والفحم.
وتلك الجهود الضخمة التي سعت بها واشنطن لنجاح "الناتو" الأطلسي، لا تزال غائبة عن الشرق الأوسط، خصوصاً فيما يتعلق بعضوية إسرائيل في التحالف المُستهدف، وإقناع بعض الدول العربية بذلك. وبالتالي يصعب في غياب المكينة الدبلوماسية الأمريكية قيام مثل هذا التحالف من الأساس. وعلى ذلك، يمكن القول إن الظروف التي أدت إلى قيام "ناتو" أطلسي غير متوفرة في الفترة الحالية لقيام "ناتو شرق أوسطي"؛ بسبب اختلاف حجم التهديد السوفيتي السابق مقارنةً بالنفوذ الإيراني الحالي، وأيضاً بسبب اختلاف الدور الأمريكي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مقارنةً بدورها الراهن في المنطقة، وربما أيضاً لعدم ثقة بعض الدول العربية في مستقبل هذا الدور الأمريكي.