أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المقالة، عبدالحميد الدبيبة، في 22 يوليو 2022، إقالة وزير داخليته، اللواء خالد المازن، وتكليف وزير الحكم المحلي، بدر الدين التومي، بتسيير مهام وزارة الداخلية بشكل مؤقت، وذلك بعد الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها طرابلس ومصراتة بين عدد من الميليشيات المسلحة المنتشرة هناك.
سياق مضطرب:
يأتي قرار الدبيبة بإقالة وزير داخليته، خالد المازن، في إطار جملة من المتغيرات التي شهدها الملف الليبي خلال الأيام الأخيرة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تجدد الاشتباكات بين الميليشيات: شهدت طرابلس اشتباكات مسلحة عنيفة بين مجموعتين من أكبر الميليشيات المنتشرة في المدينة، هما جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بقيادة عبد الرؤوف كارة، والحرس الرئاسي (كتيبة ثوار طرابلس)، بقيادة أيوب أبوراس، تضمنت استخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة مع اتساع رقعة الاشتباكات لتشمل مناطق واسعة بالعاصمة، الأمر الذي أسفر عن وقوع نحو 16 قتيلاً، و52 مصاباً. وأدى إلى إدانة داخلية وخارجية واسعة.
وعلى الجانب الآخر، شهدت مصراتة اشتباكات محدودة بين مجموعتين إحداهما موالية للدبيبة، والأخرى تابعة لرئيس حكومة الاستقرار، فتحي باشاغا، وجاءت هذه الاشتباكات خلال وجود الأخير في منزله بمدينة مصراته، حيث حاصرت القوة المشتركة التابعة للدبيبة مقر إقامة باشاغا وطالبته بتسليم نفسه، قبل أن تتدخل عناصر من كتيبة حطين ولواء المحجوب لحماية باشاغا، الأمر الذي أدى إلى مناوشات محدودة، فيما تدخلت قوات أخرى لفض الاشتباكات. الأمر الذي دفع السفير الأمريكي، ريتشارد نورلاند، في ليبيا للتحذير من عواقب تصاعد العنف، وبمحاسبة المسؤولين عنه.
2- زيارة الناظوري المفاجئة لطرابلس: قام رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، الفريق أول عبد الرازق الناظوري، في 19 يوليو الجاري، بزيارة إلى العاصمة طرابلس، هي الأولى لأي مسؤول عسكري من الشرق الليبي منذ 2014، حيث عقد اجتماعاً مع رئيس أركان القوات المسلحة التابعة لغرب ليبيا، الفريق أول محمد الحداد، وحضور أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.
وتمخض عنه إصدار بيان مشترك للمرة الأولى عن الجيش الليبي، أشار إلى أن اجتماع الناظوري – الحداد قد استكمل مباحثات توحيد المؤسسة العسكرية، ومناقشة تسمية رئيس أركان موحد، فضلاً عن الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لإدارة ملف المفقودين والمحتجزين، بالإضافة إلى الاتفاق على تفعيل القوة المشتركة المنصوص عليها في اتفاقية وقف إطلاق النار.
وتعكس هذه الخطوة مؤشرات مهمة بشأن احتمالات حدوث تقدم نسبي في المسار العسكري خلال الفترة المقبلة، وربما يدعم ذلك إعلان اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 استعداد رئيسي أركان الجيش في شرق وغرب ليبيا للاجتماع مرة أخرى في بنغازي نهاية الأسبوع الجاري.
استمرار التوافق:
عكست هذه التطورات التي شهدها الملف الليبي عن جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تنفيذ اتفاق الدبيبة – حفتر: تعددت التفسيرات بشأن دوافع إقالة الدبيبة لوزير داخليته. وأرجعتها بعض التقديرات إلى فشل وزارة الداخلية تحت رئاسة خالد المازن من السيطرة على الميليشيات التابعة لها، فضلاً عن قربه من باشاغا فترة تولي الأخير وزارة الداخلية، ومن ثم الشك في ولاءاته.
وفي المقابل، أشارت تقديرات أخرى إلى أن قرار إقالة المازن جاء كأحد أبعاد الصفقة التي تم التوصل إليها بين الدبيبة وقائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، والتي جاءت خطوة إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، كأحد أبعادها، وبالتالي رجحت هذه التقديرات أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التعديلات الوزارية.
2- قلق الدبيبة من تفكك تحالفاته: يبدو أن هناك تخوفات لدى الدبيبة من ارتداد تفاهماته مع حفتر على تحالفاته الداخلية، سواء فيما يتعلق بالميليشيات المسلحة الموالية له في غرب ليبيا، أو بالنسبة لتيار مفتي ليبيا المعزول، الصادق الغرياني.
وربما يفسر ذلك النفي المتكرر من قبل الدبيبة لوجود أي صفقات مع حفتر، لاسيما أن باشاغا ذاته كانت له تجربة مماثلة في هذا الشأن، حيث كان الأخير يحظى بدعم غالبية المجموعات المسلحة في غرب ليبيا، لكنه خسر كثيراً منها بمجرد تقاربه مع حفتر.
3- دعم دولي للتوافق: استضافت مدينة إسطنبول التركية، في 21 يوليو الجاري، اجتماعاً دولياً لبحث الملف الليبي، حضره مسؤولون من مصر والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى المستشارة الأممية، ستيفاني ويليامز.
وشهدت هذه الاجتماعات دعماً من قبل القوى الحاضرة للتوافقات بين حفتر والدبيبة، وهو ما عكسته تصريحات ستيفاني ويليامز بأن الحاضرين أبدوا ترحيبهم بالتقدم الراهن في المسار العسكري، بعد الاجتماع الأخير بين الفريق أول عبد الرازق الناظوري، والفريق أول محمد الحداد، بالعاصمة طرابلس.
4- تحركات باشاغا المقابلة: عمد رئيس حكومة الاستقرار، فتحي باشاغا، إلى محاولة فرض واقع جديد والتأكيد على استمراره في المشهد، بل ومحاولة تضييق الخناق على الدبيبة، وذلك عبر تعزيز حضوره في الغرب الليبي، واستقطاب دعم المدن الكبرى هناك، لاسيما مصراته والزاوية.
وعلى الجانب الآخر، شهدت مدينة الزاوية انعقاد ملتقى سياسي واجتماعي لعدد من القادة القبليين والسياسيين بغرب ليبيا، فضلاً عن حضور عدد من وزراء حكومة الاستقرار برئاسة فتحي باشاغا، حيث حذر البيان المشترك الصادر عن الملتقى من خطورة التمزق الاجتماعي وانعدام الاستقرار السياسي الراهن، وأكدوا دعمهم لحكومة باشاغا.
استقرار هش:
يلاحظ أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة تسعى لتأكيد دورها في الملف الليبي لضمان منع تجدد العنف، غير أن تغير الولاءات الميليشياوية قد تؤدي إلى تفجر المواجهات المسلحة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- استمرار الانخراط الأوروبي: شهدت الأيام الأخيرة عودة للانخراط الأوروبي في الملف الليبي، فقد عقد السفير الألماني في ليبيا، ميخائيل أونماخت، لقاءات مع عدد من المسؤولين الليبيين، في محاولة لإحياء مباحثات المسار الدستوري، والبناء على مباحثات القاهرة وجنيف.
كذلك الحال بالنسبة للسفير الإيطالي، جوزيبي بوتشينو، والذي عقد عدداً من اللقاءات أبرزها اجتماعه الأخير بالدبيبة، والتي يرجح أن تكون قد ارتبطت بالأساس بملف الطاقة. كما عقد السفير التشيكي لدى ليبيا لقاءً مع رئيس المفوضية العليا للانتخابات الليبية، عماد السايح، حيث تم بحث سبل الدعم التي يمكن أن تقدمها بعثة الاتحاد الأوروبي لها.
2- مقاربة أمريكية جديدة: وجه نوريلاند، خلال مشاركته في اجتماع إسطنبول، الشكر لزميلته على سنوات عملها كمستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، داعياً إلى ضرورة الإسراع في تعيين مبعوث أممي جديد، وهو ما قد يعني دعم المقترح الخاص بتعيين مبعوث أممي أفريقي إلى ليبيا، لضمان دعم بعض القوى الإقليمية.
ومن ناحية أخرى، قام نوريلاند، خلال الأيام الأخيرة بالاتصال بكل من الدبيبة وباشاغا، وألمح التزام الرجلين بتجنب العنف وتهدئة الأوضاع، وتتسق هذه التحركات مع التصريحات السابقة له بأن بلاده لم تعد ترى إشكالية في استمرار الحكومتين المتنافستين لحين إجراء الانتخابات.
3- غموض ولاءات الميليشيات: ارتبطت اشتباكات طرابلس الأخيرة بالاتهامات المتبادلة بين هذه المجموعات باعتقال عناصر تابعة لكل منهما، بيد أن بعض التقديرات لم تستبعد احتمالات ارتباط هذه التحركات بالصراع القائم على السلطة بين الدبيبة وباشاغا، فضلاً عن وجود انزعاج لدى بعض الميليشيات من التفاهمات بين الدبيبة وحفتر.
كما اتسع نطاق الصراع ليشمل مصراته، في تطور جديد، خاصةً أنها كانت تلتزم الحياد خلال الفترة الماضية، إذ لطالما اعتادت مصراته تجنب أي صراع داخلي بين أطراف منتمية لها، على عكس بقية مدن غرب ليبيا.
وفيما يتعلق بالوضع الميداني في طرابلس، أشارت بعض التقديرات إلى أن اشتباكات طرابلس أدت إلى تعزيز سيطرة قوة الردع على وسط طرابلس، بعدما تمكنت من إبعاد الحرس الرئاسي منها، وبالتالي أصبحت منطقة وسط طرابلس خاضعة لسيطرة مجموعتين رئيسيتين، هما قوة الردع بقيادة عبدالرؤوف كارة، وجهاز الدعم والاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي (غنيوة)، وذلك بعدما تمكن الأخير من تحجيم نفوذ كتيبة النواصي بقيادة مصطفي قدور في مايو الماضي.
وبينما حسم الككلي موقفه بدعم الدبيبة، لا يزال موقف كارة غير واضح حتى الآن، في ظل حديث بعض التقديرات عن إمكانية تحالف الأخير مع باشاغا، وهو ما قد يعزز من نفوذ الأخير، خاصة أن قوات كارة تعد أقرب لمركز طرابلس وتسيطر على عدد من المقار الحيوية للدولة.
ومن ناحية أخرى، رصدت بعض التقديرات وجود حشد عسكري يقوم به رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق، أسامة الجويلي، والمقرب من باشاغا، حيث تتمركز قوات الزنتان التي يقودها أسامة الجويلي في منطقة ورشفانة بجنوب غرب طرابلس، مما يعكس استمرار حالة الاستنفار التي تنذر باحتمالات التصعيد العسكري في أي وقت، خاصةً حال توصل باشاغا إلى تفاهمات جديدة مع بعض الكتائب الموجودة في طرابلس، الأمر الذي قد يسفر عن تصعيد عسكري غير محسوب في غرب ليبيا، رغم التحذيرات الغربية، وتأكيدات السفير الأمريكي بالتزام باشاغا بالتهدئة.
وفي الختام، يمكن القول إن الانخراط الدولي في الوقت الراهن يسعى للحيلولة دون تفاقم الأوضاع الأمنية في ليبيا، غير أن الأمور تبقى مرشحة لمزيد من التصعيد في غرب ليبيا، بالتوازي مع التحركات الراهنة لتحقيق بعض التقدم في المسار العسكري بين الشرق والغرب، بعد الصفقة التي تم التوصل لها بين حفتر والدبيبة، وبما ينذر بإعادة هيكلة المشهد الداخلي بكامله.