تسببت استقالة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، من زعامة حزب المحافظين، والتي أتت بعد سلسلة من الاستقالات لعدد كبير من وزراء حكومته، في تعميق حالة عدم اليقين التي تحيط بالاقتصاد البريطاني، إذ تزامنت مع ارتفاع التضخم، واحتمالية دخول الاقتصاد في حالة من الركود على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية.
ومع التحديات الناشئة أمام الاقتصاد البريطاني، من المتوقع أن تمنح الحكومة الجديدة الأولوية لتطبيق إجراء التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق العام، بهدف إنعاش الاقتصاد، ومن ثم تعزيز ثقة المواطنين في حزب المحافظين.
ظروف غير مواتية:
تواجه بريطانيا ظروفاً اقتصادياً معاكسة عقب الخروج من الاتحاد الأوروبي، جنباً إلى جنب مع تبعات الحرب الأوكرانية على النشاط الاقتصادي، ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- أعباء البريكست: أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى عدد من التداعيات السلبية على الاقتصاد، بما في ذلك زيادة تكاليف الشركات، ونقص العمالة، وصعوبات في التجارة مع العالم الخارجي، ما أسفر عن ضعف مسار النمو الاقتصادي.
ووفقاً لدراسة أجراها مركز الإصلاح الأوروبي (Centre for European Reform)، كان الناتج المحلي الإجمالي البريطاني خلال الربع الأخير من عام 2021 أقل بنسبة 5.2%، والاستثمار أقل بنسبة 13.7%، وتجارة السلع أقل بنسبة 13.6%، مما لو ظلت بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.
وقد أشارت نتائج دراسة استقصائية أجرتها شركة "كي بي إم جي" (KPMG) عام 2021، وتضمنت عدداً من الشركات البريطانية والألمانية، إلى أن ثلثي الشركات واجهت تأثيرات أكثر سلبية مما كان متوقعاً عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وواجه 77% من الشركات التي شملها الاستطلاع صعوبات في الاستيراد من بريطانيا، و72% منها تواجه صعوبات في التصدير إلى بريطانيا.
2- تراجع مستويات الإنتاجية: خلال الفترة (1997 – 2007)، كان معدل نمو الإنتاجية في بريطانيا هو ثاني أعلى معدل بين مجموعة السبع بعد الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أصبح ثاني أقل معدل نمو في المجموعة خلال الفترة (2009 – 2019).
3- تناقض الأهداف المالية: كان وزير المالية البريطاني المستقيل، ريشي سوناك، بحكومة جونسون، يستهدف تحقيق الضبط المالي، وتخفيف عبء ديون بريطانيا، وذلك بخلاف ما تطالب به الأوساط الاقتصادية بخفض الأعباء الضريبية وسط تبعات الحرب الأوكرانية على الاقتصاد المحلي.
4- الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية: شهدت الأشهر الماضية احتجاجات في عدد من المدن البريطانية، تنديداً بغلاء الأسعار، فضلاً عن تزايد دعوات الإضراب؛ للمطالبة بزيادة الأجور للعاملين في عدد من القطاعات الاقتصادية.
5- أزمات قطاع الإسكان: تربط بعض التقديرات بين قطاع الإسكان وملكية المنازل في بريطانيا، وبين شعبية حزب المحافظين بالشارع البريطاني، خاصة من الشباب في الفئة العمرية (18 – 24) عاماً. وتراجع تصويت فئة الشباب للحزب من حوالي 35% في انتخابات عام 1992 إلى 21% في انتخابات عام 2019.
وفي حين بلغت نسبة تصويت من تزيد أعمارهم عن 65 عاماً نحو 64%، حيث تمتلك المنازل والعقارات التي ارتفعت أسعارها. وقد وعد جونسون خلال العام الماضي بتمكين المزيد من الشباب من امتلاك المنازل، غير أنه لم يتم بذل جهود مكثفة في هذا الصدد.
مؤشرات خطر:
في ضوء الظروف السابقة، واجه الاقتصاد البريطاني العديد من التحديات الاقتصادية الطارئة عقب الحرب، والتي لم تتمكن السياسات الاقتصادية من التعامل معها، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:
1- تباطؤ النمو الاقتصادي: حقق الاقتصاد البريطاني معدل نمو شهري بنسبة 0.5% في مايو 2022، بعد انكماش بنسبة 0.2% في أبريل 2022. وخلال الربع الأول من العام الجاري، نما الاقتصاد البريطاني بحوالي 0.8%، مقارنة بحوالي 1.3% خلال الربع الرابع من عام 2021.
2- ارتفاع معدلات التضخم: بلغ معدل التضخم السنوي في بريطانيا 9.1% في مايو 2022، وهو أعلى ذروة له في البلاد منذ 40 عاماً، كما أنه يعد من أعلى المعدلات بين دول مجموعة السبع.
3- انخفاض قيمة العملة الوطنية: يعاني سعر صرف الجنيه الإسترليني التراجع أمام الدولار الأمريكي القوي، حيث يتم تداوله مؤخراً عند مستوى 1.20 للدولار الأمريكي الواحد، وهو أقل مستوى له في عامين. وقد أوضح أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، في وقت سابق أنه لم يتفاجأ من انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني؛ وعزا ذلك إلى ضعف التوقعات الاقتصادية لبريطانيا.
4- زيادة الضغوط الخارجية: بلغ إجمالي الدين العام للحكومة البريطانية نحو 2.4 تريليون جنيه إسترليني في نهاية عام 2021، أي ما يعادل 102.8% من الناتج المحلي الإجمالي. ويتفاقم أداء القطاع الخارجي مع ارتفاع عجز الحساب الجاري الذي بلغ 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من عام 2022.
5- تدهور مستويات المعيشة: تسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في أسوأ أزمة معيشية تعانيها الأسر البريطانية منذ عقود، لاسيما ذات الدخل المنخفض.
وقد نجم عن ذلك انخفاض ثقة المواطنين في الحكومة السابقة، علماً بأن حكومة جونسون المستقيلة قد وعدت في السابق بتقديم منح تبلغ قيمتها 400 جنيه إسترليني لكل أسرة؛ لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة.
آفاق عام 2023:
تكشف التقديرات أن الاقتصاد البريطاني بات على وشك دخول مرحلة الركود في العام المقبل، مما يزيد من الضغوط التي تثقل كاهل الحكومة البريطانية الجديدة، وذلك بالنظر إلى التالي:
1- مرحلة الانكماش الاقتصادي: تقدر "ستاندرد آند بورز" أن الاقتصاد البريطاني سينمو بنسبة 1% فقط خلال عام 2023، وهو أدنى معدل بين دول مجموعة السبع، في حين تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعثر الاقتصاد البريطاني ليصبح بين الأسوأ أداء في مجموعة العشرين، مع تراجع نموه إلى صفر عام 2023. ومن جهة ثالثة، تبنت مؤسسة "نومورا" توقعات أكثر تشاؤماً، إذ ترى أن اقتصاد بريطانيا سيشهد ركوداً خلال الـ 12 شهراً القادمة.
2- استمرار الضغوط التضخمية: يتوقع بنك إنجلترا أن التضخم سيتجاوز 11% في وقت لاحق من العام الجاري. ومن غير المرجح أن تتم السيطرة على التضخم المفرط قبل منتصف عام 2024، وسيكون ذلك تدريجياً على الأرجح، طبقاً لوكالة ستاندرد آند بورز.
3- تراجع مستويات المعيشة: توقع مكتب مسؤولية الميزانية انخفاض الدخل الحقيقي المتاح للتصرف بنسبة 2.2% خلال السنة المالية 2022 / 2023، نتيجة ارتفاع التضخم. ويعد ذلك هو أكبر انخفاض على الإطلاق، مما يشير إلى استمرار الضغط على القدرة الشرائية للأسر، وينذر بمزيد من الاضطرابات الاجتماعية.
سياسات مرتقبة:
أياً كان من سيخلف جونسون في رئاسة الحكومة البريطانية، سيكون عليه اتخاذ بعض السياسات لاحتواء المشاكل الاقتصادية الطارئة، وذلك على النحو التالي:
1- خفض الضرائب وزيادة الإنفاق: من المحتمل أن تبدي الحكومة البريطانية الجديدة استعداداً أكبر لخفض الضرائب حسب "كابيتال إيكونوميكس"؛ وذلك من أجل إنعاش الاقتصاد وتشجيع الاستثمار. وقد يحفز خفض الضرائب الطلب المحلي، إلا أنها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى زيادة العجز المالي وارتفاع مستويات الديون.
وجدير بالذكر أن مكتب مسؤولية الميزانية في بريطانيا توقع أن تصل مستويات الدين إلى ما يقرب من 320% من الناتج المحلي الإجمالي في غضون 50 عاماً، في حال عدم قيام الحكومات المستقبلية بتشديد السياسة المالية وخفض الإنفاق، في حين يمكن خفض الدين إلى 75% من الناتج حال تم رفع الضرائب، أو خفض الإنفاق، أو كليهما معاً.
2- استمرار تشديد السياسة النقدية: من المتوقع أن يواصل بنك إنجلترا رفع أسعار الفائدة في اجتماعه المقبل في أغسطس 2022؛ لمواجهة التضخم، على الرغم من أن رفع الفائدة قد يؤدي إلى مزيد من التباطؤ الاقتصادي، وسيؤثر على أعباء الدين.
3- تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي: تشير الترجيحات إلى أن الحكومة الجديدة ستكون أكثر حرصاً على تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي؛ لتعزيز معدلات الاستثمار، وأيضاً لتحسين فرص الصادرات البريطانية في الأسواق الأوروبية. وكانت بريطانيا شهدت بعض الخلافات مع الاتحاد الأوروبي بسبب "بروتكول التجارة مع إيرلندا الشمالية" ومسائل الصيد وغيرها.
وختاماً، يمكن القول إن الحكومة البريطانية الجديدة ستتجه لتأسيس حقبة اقتصادية جديدة تتلاءم مع معطيات الساحة الدولية والإقليمية، وستسعى خلالها للتعامل مع المشكلات الملحة مثل التضخم وارتفاع الأسعار، جنباً إلى جنب مع اتخاذ إجراءات لتحفيز الاقتصاد، مثل خفض الضرائب، في مسعى قد يعمل على إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين البريطانيين.