أعلن رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد، محمد إدريس ديبي (كاكا)، في 4 يونيو 2022، إطلاق عملية لنزع السلاح في شمال البلاد، وذلك بعد تصاعد حدة الاشتباكات المسلحة في منطقة كوري بوغودي بإقليم تيبيستي، والتي أفرزت أكثر من 100 قتيل وإصابة العشرات.
سياقات معقدة:
شهدت منطقة شمال تشاد تصاعداً حاداً في وتيرة المواجهات العنيفة، بالتوازي مع تعثر جلسات الحوار الوطني التشادي بين الحكومة وجماعات المعارضة المسلحة التي تستضيفها قطر منذ منتصف مارس 2022، فضلاً عن تزايد الاحتقان الداخلي من الوجود العسكري الفرنسي في البلاد. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أبرز التطورات التي شهدها شمال تشاد خلال الأيام الأخيرة على النحو التالي:
1- اشتباكات دامية على الذهب: شهدت منطقة كوري بوغودي اشتباكات عنيفة، منذ 23 مايو الماضي، وتعد هذه المنطقة، الواقعة في إقليم تيبيستي بأقصى شمال تشاد، غنية بالذهب، حيث أعلنت الحكومة التشادية بأن هذه المواجهات قد اندلعت بين عمال المناجم غير القانونيين في هذه المنطقة.
وأعلن وزير الدفاع التشادي، داوود يحيى إبراهيم، أن ثمة مشادات محدودة وقعت بين منقبين من موريتانيا وليبيا، ثم تطور الأمر إلى مواجهات عنيفة واسعة. وأرسلت الحكومة التشادية فرقة عسكرية كبيرة إلى هذه المنطقة، والتي تبعد نحو ألف كيلومتر عن العاصمة نجامينا. وعلى الرغم من إعلان السلطات التشادية وقوع نحو 100 قتيل جراء هذه المواجهات ونحو 40 جريحاً آخرين، فإن ثمة مصادر داخل تشاد ألمحت إلى أن أعداد القتلى أكبر بكثير مما أعلنت عنه السلطات في نجامينا، ووصلت وفقاً لبعض التقديرات نحو 400 قتيل.
وعمد ديبي إلى القيام بزيارة إلى هذه المنطقة، حيث أعلن من هناك إطلاق عملية لنزع السلاح من المدنيين، مطالباً التشاديين والأجانب كافة الذين ينقبون على الذهب في هذه المنطقة مغادرتها بشكل عاجل، حيث تعتزم السلطات التشادية إنشاء معسكرين لفرض الأمن ومنع أي تسللات عبر الحدود.
2- تنسيق تشادي – ليبي: تبعد منطقة كوري بوغودي نحو 30 كيلومتراً فقط عن الحدود الليبية، وكان رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، قد اتفق مع ديبي، على ضرورة تنسيق التعاون الأمني المشترك ومراقبة الحدود. كما أطلق الجيش الوطني الليبي عملية عسكرية في الجنوب الليبي لتطهير المنطقة من المجموعات الإرهابية المنتشرة هناك، وارتكزت هذه العملية على مدينة "القطرون"، الواقعة على الحدود التشادية.
كذلك، فقد أعلن الجيش الوطني الليبي، في 7 يونيو الجاري، إرسال تعزيزات عسكرية ودعماً لوجستياً للقوات الليبية المتمركزة في منطقة الجنوب، وذلك في ظل تنامي حالة القلق إزاء الاضطرابات المستمرة في شمال تشاد.
3- منطقة خارج السيطرة: تتسم منطقة "كوري بوغودي" بالطبيعة الجبلية الوعرة، التي يصعب الوصول إليها، وهو ما يجعلها خارجة عن سيطرة السلطات في نجامينا، فلطالما اعتبرت هذه المنطقة بؤرة تمرد رئيسية، انطلقت منها العديد من حركات التمرد منذ استقلال البلاد في 1960.
كما أنها تزخر بمناجم الذهب التي تم اكتشافها منذ عام 2012، وهو ما جعلها بؤرة للتنافس الحاد بين الباحثين عن الذهب، سواء من داخل تشاد، أو من قبل البلدان المجاورة، على غرار ليبيا والسودان والنيجر.
دلالات مهمة:
تعكس التطورات الأخيرة التي شهدها إقليم تيبيستي عن جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- أبعاد سياسية محركة: لا يمكن استبعاد وجود علاقة بين الأحداث التي شهدتها منطقة كوري بوغودي وتصاعد وتيرة الغضب الداخلي من الوجود الفرنسي المتنامي، حيث شهدت البلاد احتجاجات واسعة للمطالبة بخروج باريس من تشاد، بل أن ائتلاف "وكت تاما" المعارض أكد على أن أحد أبرز أهداف الاحتجاجات الأخيرة التي نظمتها قوى المعارضة كانت معارضة التواجد الفرنسي في مواقع الذهب داخل تشاد، وبالتالي لا يمكن استبعاد وجود تطلعات فرنسية لتوسيع نطاق انتشارها في المناجم الواقعة في شمال تشاد.
كما أن التنسيق الراهن بين تشاد وليبيا بشأن ضبط الحدود الهشة بينهما يشير إلى وجود دور فرنسي نشط، من أجل تعزيز سلطة الحكومة التشادية الراهنة، والتي تعول عليها باريس وحلفائها الغربيين كثيراً بعد التوترات المتصاعدة مع مالي، مع إمكانية استغلال هذه الأحداث في شمال البلاد كمدخل يمكن من خلاله تبرير أي عنف محتمل، أو منع الاحتجاجات المتزايدة في نجامينا. وربما يدعم ذلك إعلان وزارة الأمن العام التشادية حظر التظاهرات التي كانت تستعد لها قوى المعارضة في 28 مايو الماضي.
2- أهداف حكومية اقتصادية: تعاني تشاد أزمة اقتصادية حادة، والتي بدأت ملامحها تتضح من خلال إعلانها حالة الطوارئ الغذائية في البلاد. ويبدو أن الحكومة التشادية تسعى للسيطرة على المناطق الشمالية التي تزخر بالذهب وغيره من المعادن لإيجاد مصادر مالية لها، ولذلك أسندت عمليات التنقيب هناك إلى وزارتي المناجم والمالية.
ووفقاً لبعض التقديرات، تخسر نجامينا نحو 57 مليار فرنك أفريقي أسبوعياً (حوالي 60 مليون دولار) بسبب عمليات التنقيب عن الذهب بالطرق غير القانونية، غير أن نجاح السلطات الحكومية في فرض سيطرتها على هذه المناطق الشمالية لايزال محل شك كبير، حتى وإن لاقت هذه الخطوة دعماً فرنسياً.
3- توترات قبلية قائمة: تعد منطقة كوري بوغودي بؤرة توتر قبلي، حيث يسكنها قبيلة "التيدا" (التبو)، التي تتشكل من حوالي 40 قبيلة فرعية، وهي ذات امتداد واسع في كل من النيجر وجنوب ليبيا. وتفاقمت التوترات القبلية بعد عام 2012 عندما تم اكتشاف الذهب، وانخرطت العديد من الأطراف المحلية والإقليمية في التنقيب عنه، بما في ذلك مجموعات عرقية من قبيلة الزغاوة، التي ينحدر منها الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي، فضلاً عن مجموعات من ليبيا والسودان والنيجر، مما أدى إلى اندلاع مواجهات متكررة بين التيدا والمنقبين.
وفي هذا الإطار، ترى نجامينا أن الصراعات الأخيرة التي شهدتها شمال البلاد بأنها لا تعدو كونها أحد التوترات المعتادة بين القبائل المختلفة المنتشرة في شمال تشاد، غير أنه لا يمكن استبعاد احتمالية وجود مساعٍ تشادية وفرنسية لتوظيفها للسيطرة على المنطقة، ومنع أي تهديدات مستقبلية.
4- قلق السلطات التشادية: أشارت بعض التقديرات إلى أن ثمة تخوفات متنامية لدى السلطات التشادية من تنامي قوة المجموعات المسلحة في هذه المنطقة، خاصةً في ظل ارتباطات بعضها بمجموعة فاجنر الروسية، وهو ما يثير قلق نجامينا من احتمالية استعانة هذه المجموعات بدعم فاجنر لإعادة شن هجمات عسكرية ضد الحكومة التشادية مرة أخرى.
فقد أعلن "التحالف العسكري من أجل التغيير في تشاد"، بقيادة الجنرال اللجي علي (معروف بكوكولا)، في 28 مايو الماضي، عن تدخله في منطقة كوري بغودي بدعوى محاولة تهدئة التوترات الأخيرة وإنهاء الحرب المشتعلة في هذه المنطقة، متهماً المجلس العسكري الحاكم بتأجيج هذه الحرب لأهداف سياسية. كما أوضح البيان أن قوات التحالف تمكنت من السيطرة على المنطقة، مما دفع إلى انسحاب القوات الحكومية، وهو ما يتعارض مع رواية السلطات التشادية.
ارتدادات محتملة:
تعكس المتغيرات التي تشهدها منطقة شمال تشاد عن عدد من الارتدادات الداخلية والإقليمية المحتملة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تضرر الحوار الوطني: تؤثر التطورات في شمال تشاد على مسار الحوار التمهيدي الجاري، فقد حملت بعض قوى المعارضة التشادية السلطات الحكومية مسؤولية تفاقم الوضع في منطقة كوري بوغودي، حيث أعلن الأمين العام للوفاق التشادي للدفاع عن حقوق الإنسان، محمد نور عبيدو، أن القوات التي أرسلتها الحكومة التشادية أطلقت النار على المدنيين. كذلك، أعلنت جبهة التغيير والوفاق أن منطقة شمال تشاد أضحت تمثل بؤرة للاغتيالات خلف الأبواب المغلقة، متهمةً المجلس العسكري الحاكم بتدبير هذه الأحداث لخدمة أهدافه السياسية.
وتزامن ذلك مع تنامي سخط قوى المعارضة التشادية من السلطات الحاكمة بعدما قضت محكمة في نجامينا، في 7 يونيو الجاري، بسجن 6 من زعماء المعارضة مع وقف التنفيذ، والذين تم اعتقالهم منتصف مايو الماضي على خلفية الاحتجاجات المناهضة للوجود الفرنسي في البلاد، حيث أعلن عدد من المجموعات المسلحة المشاركة في الحوار التمهيدي بالدوحة أن هذا التصعيد من قبل السلطات التشادية يعرض الحوار الوطني للخطر، بل وهدد بعضها بالانسحاب من الحوار، فيما قرر اتحاد نقابات العمال التشادي الدخول في إضراب عام والانسحاب من الهدنة الاجتماعية التي كان قد تم توقيعها في أكتوبر الماضي بين الحكومة التشادية والنقابات.
2- تصاعد التوترات الأمنية: تتهم السلطات التشادية باستخدام العنف في شمال البلاد، والاستعانة بدعم خارجي من بعض المجموعات من دارفور، وهو الأمر الذي انعكس على تنامي العنف هناك بصورة غير مسبوقة، فضلاً عن دفع نجامينا بقوات ضخمة لمحاولة السيطرة على المنطقة، في مشهد ربما يعيد مرة أخرى تكرار سيناريو المواجهات المسلحة بين السلطات الحكومية في تشاد ومجموعات المعارضة المسلحة، والتي كانت قد أسفرت قبل نحو عام عن مقتل الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي.
وربما يعزز من ذلك السيناريو التدخل السريع من قبل "التحالف العسكري من أجل التغيير في تشاد" في منطقة الصراع. كذلك، ربما تزداد التوترات الداخلية في تشاد بصفة عامة بسبب حالة الاحتقان الشعبية من الوجود الفرنسي، فضلاً عن تصاعد حدة الأزمة الغذائية التي تعاني منها البلاد.
3- تنامي التنافس الروسي – الفرنسي: تعزز روسيا حضورها بشكل واضح في الساحل الأفريقي، وهو ما يضغط على النفوذ الفرنسي في تشاد، سواء من الجنوب عبر انتشار عناصر فاجنر الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، أو من الشرق عبر إقليم دارفور السوداني.
لذا، يبدو أن الحراك الراهن في الداخل التشادي يعكس أحد ملامح التنافس الدولي في نجامينا، خاصةً بين موسكو وباريس، حيث يسعى كل طرف لاستغلال المشهد المتأزم في تدعيم موقفه في مواجهة الآخر. وفي ظل المعطيات الراهنة تبدو الأمور مرجحة لمزيد من التفاقم، خاصةً حال استمرار تعثر الحوار التمهيدي الذي تستضيفه الدوحة.
وفي الختام، يبدو أن تشاد مقبلة على مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والتصعيد بعد فترة من الهدوء الهش خلال الأشهر الماضية، والتي تزامنت مع انشغال فرنسا بالانتخابات الرئاسية لديها، فضلاً عن الزخم الداخلي المرتبط بانطلاق جلسات الحوار التمهيدي في الدوحة، بيد أن تعثر مساعي الوصول إلى تفاهمات حقيقية، فضلاً عن تحركات باريس لتعزيز نفوذها في تشاد بعد انحسار نفوذها في مالي يدفع نحو تصاعد حدة التوترات الداخلية في نجامينا خلال الفترة المقبلة.