استطاع إيمانويل ماكرون حسم الانتخابات الرئاسية الفرنسية لصالحه عبر الفوز في الجولة الثانية منها والتي جرت في 24 أبريل 2022، بنسبة أصوات بلغت 58.54%، مقارنة بمنافسته مارين لوبان التي حصلت على 41.46%. واحتوى "خطاب النصر" لماكرون على رسالة تطمين للشعب الفرنسي بأنه من لحظة إعلان فوزه لم يعد يتصرف كمرشح لحزب بل كرئيس لجميع الفرنسيين، سواء كانوا من الذين صوتوا له عن اقتناع أو الذين صوتوا له لمنع وصول لوبان أو أولئك الذين تغيبوا عن التصويت أو حتى صوتوا لمنافسته. فيما اعتبرت لوبان أنه على الرغم من عدم تمكنها من الوصول إلى الرئاسة، فإنها تمكنت من تحقيق انتصار سيشجعها على استكمال مسيرتها السياسية، حسب رؤيتها. كما أن جان لوك ميلينشون، مرشح حزب "فرنسا غير الخاضعة"، اعتبر، في تعقيب له على نتائج الانتخابات، أن فرنسا هي التي انتصرت بعدم وصول لوبان إلى الرئاسة، وبنجاح ماكرون بـ "أسوأ نتيجة ممكنة"، على حد وصفه.
مؤشرات التصويت:
يمكن استقراء أبرز المؤشرات التي أسفرت عنها نتائج الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، في الآتي:
1- تسجيل فوز صريح للرئيس ماكرون: يؤشر وصول الفارق بين ماكرون (58.54%) ولوبان (41.46%) لنحو 17 نقطة مئوية، إلى نجاح ماكرون في تحقيق فوز صريح لا غبار عليه من حيث الشرعية. وهذه النتيجة جاءت متجانسة مع معظم استطلاعات الرأي التي دأبت على إجرائها أهم 4 شركات للاستطلاعات في فرنسا (ipsos, ifop, elab, harris interactive) منذ أبريل 2021 والتي كانت ترجح فوز ماكرون بنتيجة تتراوح بين 54% و58%.
كما أن أداء ماكرون خلال الأسبوعين الفاصلين بين الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات، مكّنه من توسيع الفارق مع لوبان، خصوصاً مع تبنيه خطاباً جاذباً للشباب عبر وعود بتبني وضم أفكار أيكولوجية وبيئية إلى مشروعه. وهذا الفارق ظهر واضحاً بعد المناظرة المُتلفزة التي جمعت ماكرون ولوبان في 20 أبريل 2022 والتي أظهرت استطلاعات الرأي التي جرت بعدها مباشرة تقدم ماكرون بـ 1.5 نقطة مئوية.
2- ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت: بلغت نسبة الامتناع عن التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية حوالي 28%، متجاوزة ذات النسبة خلال الجولة الأولى من هذه الانتخابات والتي بلغت 26.3%، وكذلك نسبة الامتناع (25.4%) في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2017. وتعتبر نسبة الامتناع المُسجلة هذه المرة هي الأكثر ارتفاعاً منذ 53 عاماً، أي منذ تلك التي سُجلت في انتخابات 1969 والتي بلغت حينها 31.2%. وتعاني معظم الديمقراطيات الغربية في الـ 30 عاماً الأخيرة هذه المشكلة، فيما عدا الدول التي جعلت التصويت إجبارياً مثل إيطاليا وبلجيكا.
وهناك تفسيرات متعددة لارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت في انتخابات فرنسا، منها استياء شريحة اجتماعية وعدم وجود من يُعبر عن مشاكلها من ضمن المرشحين المطروحين. فمثلاً، أدى وصول ماكرون ولوبان للجولة النهائية إلى تصاعد غضب مجموعات شبابية ناخبة. علاوة على تفسير آخر يُرجع ارتفاع نسبة الامتناع إلى زيادة نسبة المُهمشين اجتماعياً وذوي الدخول المنخفضة في البلاد.
3- تباين مؤشرات التصويت حسب الشرائح العمرية: صوت لصالح ماكرون 61% من الناخبين بين 18 و24 عاماً، وكذلك 51% بين 25 و34 عاماً، و53% بين 35 و49 عاماً، و59% بين 60 و69 عاماً، و71% لمن هم فوق الـ 70 عاماً. فيما أعطت أغلبية الشريحة العمرية بين 50 و59 عاماً بنسبة ضئيلة (51%) أصواتها إلى لوبان. وبالنسبة للشرائح الأخرى، فقد نالت لوبان نسبة 49% من أصوات المُقترعين بين 25 و34 عاماً، و47% بين 35 و49 عاماً، و29% من أصوات من هم فوق الـ 70 عاماً.
4- تأثير الفئات الاجتماعية في نتائج الانتخابات: صوت 65% من ذوي الدخل الذي يرتفع فوق 3 آلاف يورو شهرياً لصالح ماكرون، كما صوت له 44% ممن يقل دخلهم عن 1250 يورو، و79% ممن يصنفون نفسهم كطبقة وسطى، و58% من أصحاب المهن الحرة، و74% ممن وصلوا إلى 3 سنوات جامعية وما فوق.
فيما صوت 56% ممن يُصنفون أنفسهم من الطبقات الشعبية لصالح لوبان، و64% ممن يبحثون عن عمل، و52% ممن لم يحصلوا على شهادات جامعية. كما حظيت لوبان بتصويت 67% من العمال، و57% من الموظفين، و56% ممن يحصلون على دخل شهري أقل من 1250 يورو، و35% ممن يحصلون على دخل شهري يتجاوز 3 آلاف يورو.
5- اختلاف اتجاهات التصويت حسب الانتماءات الحزبية: نال ماكرون 65% من أصوات مؤيدي يانيك جادو (حزب الخُضر)، و53% من مؤيدي فاليري بيكريس (اليمين المحافظ)، و42% من مؤيدي جان لوك ميلينشون (حزب فرنسا غير الخاضعة)، و91% من مؤيدي الحزب الاشتراكي. فيما نالت لوبان 93% من أصوات مؤيدي إريك زمور، و18% من أصوات مؤيدي بيكريس، و17% من مؤيدي ميلينشون.
دلالات عديدة:
تتمثل أبرز الدلالات التي أفصحت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية في فرنسا، في الآتي:
1- نجاح ماكرون لولايتين رئاسيتين من دون "فترة مساكنة": يُسجل لإيمانويل ماكرون أنه أول رئيس فرنسي يُنتخب لولايتين رئاسيتين من دون أن يمر بـ "فترة مساكنة" Cohabitation (أي الترشح لولاية ثانية في ظل وجود حكومة ناتجة عن أغلبية معارضة لحزب الرئيس). فالانتصار الرئاسي الثاني لفرنسوا ميتران في عام 1988، وجاك شيراك في عام 2002، جاءا في ظل وجود جاك شيراك (1988)، وليونيل جوسبان (2002)، على رأس "حكومتي مساكنة". وتسمح "المساكنة" للرئيس الذي يطلب تجديد ولايته، بالاستفادة من عدم الرضا عن أداء الحكومات الموجودة لحسم النتائج لمصلحته.
2- القدرة على تفادي "التصويت العقابي": هناك شبه قاعدة انتخابية في فرنسا تدفع شريحة من الناخبين إلى عدم التصويت لرئيس سابق، لأنه مهما كان أداؤه جيداً أو مقبولاً في ولايته الأولى، فإنه لابد أن تُصاب شريحة معينة بخيبة أمل أو تعتبر نفسها قد تأذت من بعض سياسات هذا الرئيس. ويفسر هذا التصويت العقابي سبب خسارة الرؤساء فاليري جيسكار ديستان في انتخابات 1984، ونيكولا ساركوزي في عام 2012، وسبب عدم ترشح فرنسوا هولاند لولاية ثانية في عام 2017.
3- تراجع أصوات ماكرون مقارنة بانتخابات عام 2017: من اللافت أن ماكرون تراجع 8 نقاط مئوية مقارنة بالنتائج التي حققها في الدورة الثانية من انتخابات عام 2017، أي بما يقارب 2 مليون صوت، وهي أكبر نسبة تراجع تُسجل لرئيس سابق يخوض الانتخابات، حيث تفوقت نسبة تراجع ماكرن في الانتخابات الحالية على نسبة تراجع ديستان (3%) في عام 1984، وساركوزي (5%) في عام 2012. وتدل نسبة التراجع هذه عن تدهور منطق "الجبهة الجمهورية" front républicain التي يتم استعمالها عادة لمنع وصول مرشح من أقصى اليمين للرئاسة، حيث تتكتل جميع القوى المُعتدلة معاً من يمين أو يسار. كما يكشف ذلك التراجع عن أن التصويت لمارين لوبان أو لمرشح من أقصى اليمين، لم يعد بمنزلة "الخطيئة الكبرى" بالنسبة لجمهور واسع من الناخبين الفرنسيين.
4- سلوك تصويتي غير مُوحد من ناخبي اليسار: أظهرت النتائج أن أصوات ناخبي اليسار لم تأتٍ بشكل متجانس، حيث حصل انقسام في توزيع الأصوات، مما أدى إلى إعطاء شريحة من ناخبي اليسار صوتها لمرشحة أقصى اليمين، لوبان، خصوصاً في المناطق الريفية وما وراء البحار. فمثلاً، حصلت لوبان في جزر غوادالوب على 70% من الأصوات، فيما أعطت هذه المنطقة 56% لصالح ميلينشون في الجولة الأولى من الانتخابات. ويظهر استطلاع للرأي تم إجراؤه بعد الجولة الثانية أن حوالي 42% من ناخبي ميلينشون صوتوا لماكرون، و17% صوتوا لصالح لوبان، فيما فضّل الجزء المتبقي الامتناع عن التصويت.
5- رقم غير مسبوق من الأصوات لأقصى اليمين: مع حصول مارين لوبان على 41.46% من أصوات الجولة الثانية، حقق أقصى اليمين أعلى مستوى من الأصوات في تاريخه، خاصة أن لوبان استطاعت التقدم بنسبة تجاوزت 8% عن رقمها المُسجل في الجولة الثانية من انتخابات عام 2017، والذي بلغ حينها 33%. كما يظهر الفرق واسعاً جداً بالمقارنة مع رقم والدها جان ماري لوبان المُسجل في عام 2002، والتي كانت المرة الأولى التي يصل فيها أقصى اليمين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ونال فيها والد مارين 17.8% فقط.
وبالمقارنة أيضاً مع أرقام انتخابات 2017 والتي تخطت مارين لوبان فيها نسبة 50% في مقاطعتين فقط، تظهر أرقام جولة 24 أبريل 2022 حصولها على الأغلبية في أكثر من 27 مقاطعة موزعة في شمال، وشرق، وجنوب شرق فرنسا.
ظواهر رئيسية:
يمكن تلخيص أهم ظواهر الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة الفرنسية، في النقاط التالية:
1- توظيف العلاقة مع بوتين في سباق الانتخابات: استطاع ماكرون أن يحشر لوبان في موضوع قربها مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال المناظرة المُتلفزة بينهما في 20 أبريل 2022، ولم تتمكن لوبان من الدفاع عن نفسها عبر الرد عليه بأنه هو أيضاً كان قريباً من بوتين واستقبله مرتين في فرنسا خلال ولايته الرئاسية الأولى. ومن جانبه، قال ماكرون لمنافسته أمام ملايين الفرنسيين إنه حينما يتحدث هو إلى بوتين، فإنه يكون حديثاً من رئيس إلى آخر، أما حديثها هي إلى بوتين فلن يكون إلا "حديث من قِبل عميل مع مدير المصرف الذي يطلب منه قرضاً"؛ وذلك في استحضار للقرض التي حصلت عليه لوبان من بنك روسي في عام 2015.
2- الخلاف حول الموقف من الاتحاد الأوروبي: بدا من دخول الرئيس ماكرون إلى ساحة الاحتفال بانتصاره عشية 24 أبريل الجاري، على وقع نشيد الاتحاد الأوروبي بين مناصريه الذين يحملون إلى جانب العلم الفرنسي علم الاتحاد الأوروبي؛ مدى ارتباط الرئاسة الفرنسية بالاتحاد الأوروبي.
وهذا الحضور دفع لوبان إلى تخفيف تشددها في حملتها الانتخابية الأخيرة عما كانت عليه في حملة 2017؛ حيث انتقلت من ضفة "الرهاب الأوروبي" europhobie، إلى التشكيك في ضخامة حجم الفوائد التي يمكن تجنيها باريس من البقاء في الاتحاد الأوروبي. وهذا التخفيف من المغالاة ظهر واضحاً من خلال تخلي لوبان عن التسويق لفكرة سحب فرنسا من الاتحاد الأوروبي frexit، وعن العودة إلى الفرنك الفرنسي كعملة وطنية والتخلي عن اليورو، خصوصاً بعد أن تبين لها أن التخلي عن اليورو يثير حفيظة شريحة واسعة من المودعين في البنوك والخائفين على ودائعهم من فقدان جزء من قيمتها إذا تم الرجوع عن اليورو العملة القوية.
ولكن هذا التغير لم يساعد لوبان في تحسين وضعها من الناحية الشعبية، حيث ظل أنصار الاتحاد الأوروبي يفضلون التصويت لماكرون، خاصة أنه استطاع إحراجها خلال مناظرة 20 أبريل الجاري، معتبراً أن إصرارها على أخذ ما يناسبها من الاتحاد الأوروبي ورفض ما لا يناسبها هو أمر موازٍ ومساوٍ لإخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي؛ لأن الشركاء الأوروبيين لن يقبلوا باستثناء باريس من بعض القواعد.
3- التصويت للاقتناع بمرشح أو لعدم وجود بديل: انتشرت ظاهرة فرز الأصوات التي نالها كل مرشح في الجولة الثانية، للمقارنة بين النسبة التي صوتت اقتناعاً بمشروع هذ المرشح وبين النسبة التي صوتت لعدم وجود بديل. إذ صرح جان لوك ميلينشون، عقب صدور النتائج الأولية، بأن أرقام ماكرون تدل على أنه هو الرئيس الأكثر انتخاباً بشكل سيئ من قِبل الفرنسين، مستدلاً على ذلك بالنسبة المرتفعة من المتغيبين والتي تعد الأعلى منذ عام 1969، علاوة على ارتفاع نسبة التصويت بورقة بيضاء والتي بلغت 6%، بالإضافة إلى الشريحة الكبيرة من الناخبين التي صوتت لماكرون فقط لقطع الطريق على أقصى اليمين وليس اقتناعاً بمشروع ماكرون.
ورداً على هذه الانتقادات، تسلح أنصار ماكرون باستطلاع رأي صادر عن ipsos، عشية إعلان النتائج، واستهدف الناخبين الذين صرحوا بأنهم صوتوا لماكرون في الجولة الثانية، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن 58% من هؤلاء لناخبين صوتوا لماكرون لأنه يمثل في نظهرهم رئيساً جيداً، فيما اعتبر 42% منهم أن تصويتهم له جاء من أجل منع وصول مرشحة أقصى اليمين.
تداعيات الانتخابات:
ثمة تداعيات ناتجة عن الانتخابات الرئاسية في فرنسا، ولعل يتضح أبرزها فيما يلي:
1- وجود ثلاثة تكتلات سياسية كبرى: تكشف نتائج الانتخابات عن تبلور مشهد سياسي جديد في فرنسا مؤلف من ثلاثة تكتلات سياسية كبرى أو تنافس بين ثلاثة أقطاب؛ هي تكتل وسط الممثل في الرئيس ماكرون، وتكتل أقصى اليمين تحت قيادة مارين لوبان، وتكتل اليسار الذي يسعى ميلينشون عبر استغلال النتيجة التي حققها في الجولة الأولى إلى تزعمه. وتقريباً، فإن هذه التكتلات الثلاثة متقاربة من حيث الحجم، مع أفضلية لصالح تكتل الوسط. وتدور تساؤلات عميقة عن مدى ملاءمة النظام السياسي الفرنسي الحالي والنظام الانتخابي المبني تاريخياً على أساس وجود قطبين متنافسين، للمشهد السياسي والانتخابي الجديد، والذي ساهمت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في اكتماله، والقائم على الثلاثية القطبية.
2- الانقسام الانتخابي بين المركز والأطراف: وفقاً للنتائج المسجلة في هذه الانتخابات، بدا واضحاً أن ماكرون حل أولاً في المدن والتكتلات السكنية الكبيرة، فيما أتت لوبان في المرتبة الأولى في الأرياف والمناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة؛ مما دفع البعض إلى اعتبار أن المواجهة الانتخابية الأخيرة كانت بين مرشح المدن ومرشحة الأرياف. وبمعنى أخرى، ظهر جلياً أن الفارق بين المرشحين ينخفض كلما ابتعدنا عن مركز المدن الكبرى (التي يتعدى عدد سكانها 200 ألف نسمة) باتجاه الأطراف وذلك لصالح لوبان.
وبالتالي، فإنه من المُحتمل أن يشكل إعلان لوبان، عشية هزيمتها، الاستمرار في الدفاع عن التزاماتها تجاه ناخبيها "والتصدي لجشع السلطة لدى ماكرون"، على حد وصفها؛ مضاعفة لهذا الانقسام، خاصة مع تصور العديد من الفرنسيين أن مشروع ماكرون لا يمكن إيقافه إلا عبر ظروف قاهرة مثل جائحة كورونا، أو أحداث احتجاجية عنيفة على غرار "حركة السترات الصفراء". كما أن ثمة انطباعاً لدى الطبقات الشعبية الفقيرة أن ولاية ماكرون الثانية ستكون على حسابهم مع تبنيه رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، وإجبار بعض المستفيدين من المساعدات الاجتماعية على ضرورة العمل لمدة 20 ساعة مجانية أسبوعياً، مما يتناسب أكثر مع مصالح الأغنياء وأصحاب الشركات.
3- التأثير في مسار الانتخابات التشريعية المقبلة: كثيراً ما يتم استحضار الانتخابات التشريعية الفرنسية القادمة والمقررة في يونيو 2022، كجولة ثالثة من الرئاسيات الحالية؛ نظراً لأن اليسار لم يكن مُمثلاً في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. كما أن بعض الأطراف السياسية تعتبر أن فوز ماكرون بولاية ثانية لم يكن ليتحقق إلا في حالة تنافسه في الجولة الثانية مع مرشحة من أقصى اليمين. وبالتالي فإن الفرصة سانحة أمام الممتنعين عن التصويت أو أولئك الذين صوتوا لماكرون عن غير اقتناع في الجولة الثانية، لمنعه من الحصول على أغلبية نيابية تساعده في تطبيق مشروعه الذي يعارضه هؤلاء.
وفي هذا السياق، جاء طلب ميلينشون من الفرنسيين التصويت لحزبه في الانتخابات التشريعية القادمة؛ كي يصبح رئيساً للحكومة الفرنسية. وتحاول أحزاب اليسار فرض "المساكنة" على الرئيس ماكرون في بداية ولايته الثانية، خاصة مع ظهور استطلاع للرأي يبين أن 57% من الفرنسيين لا يؤيدون حزب ماكرون في الانتخابات التشريعية المقبلة. بيد أن بعض المراقبين لا يرجحون حدوث مثل هذا السيناريو، لكنهم لا يستبعدون أيضاً أن يضاعف حزب ميلينشون عدد مقاعده في البرلمان الفرنسي الجديد بالمقارنة مع برلمان 2017. لكن الوصول إلى أغلبية يسارية يواجه العديد من العراقيل، وهي تتعلق أولاً وأخيراً بأحزاب اليسار نفسها التي تختلف على الكثير من الموضوعات والقضايا الأساسية، ومن أهمها معارضة الحزبين الاشتراكي والخُضر لموقف ميلينشون الساعي إلى إخراج فرنسا من حلف "الناتو" ووقف تزويد المقاومة الأوكرانية بالأسلحة الفرنسية.
4- شكوك حول استيعاب ناخبي أقصى اليمين: يطرح البعض تساؤلات عن مدى قدرة مارين لوبان على التوسع أكثر واحتمال فوزها في الانتخابات الرئاسية القادمة، طالما أنها قادرة على تحسين نتائجها في كل انتخابات، بالإضافة إلى نجاحها في نزع صورة "الشيطنة" عن مشروعها. ولكن بعض الآراء هنا تعتبر أن لوبان طالما أنها تعتمد على الفكرة الرئيسية نفسها في مشروعها وخطابها السياسي القائم منذ بداية الثمانينيات حول "الأفضلية الوطنية"، فإنه لا يمكن لها إحداث خرق كبير يسمح لها بالوصول إلى كرسي الرئاسة، خاصة أن تحليل مؤشرات التصويت لدى شرائح المجتمع الفرنسي تُظهر أن لوبان تُحدث تقدماً فقط ضمن الشريحة التي تمتلك فيها الأغلبية سابقاً مثل العمال والموظفين والطبقات الشعبية، وأن هذا التقدم لا يحصل ضمن شرائح اجتماعية جديدة. وهذا ما حاول المرشح زمور أن يفعله بأفكاره المتطرفة؛ أي توسيع جمهور أقصى اليمين إلى فئات اجتماعية جديدة من ذوي الدخل المتوسط أو الأغنياء.
وستُظهر نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة مدى استعداد هذه الشرائح الجديدة للتصويت لحزب لوبان، خصوصاً مع صعوبة ترجمة هذه الشعبية للفوز بمقاعد كثيرة في الانتخابات التشريعية، حيث إن النظام الفرنسي للانتخابات التشريعية لا يعتمد على النسبية. فعلى سبيل المثال، في انتخابات عام 2017، وعلى الرغم من حصول لوبان في الجولة الرئاسية الثانية على 33% من الأصوات، فإنها لم تستطع أن تفوز إلا بكتلة نيابية صغيرة جداً من 8 نواب في الانتخابات التشريعية عام 2017. وبالتالي، يستبعد المراقبون حصول لوبان في انتخابات 12 و19 يونيو 2022 على كتلة نيابية تتخطى الـ 10 نواب. ويبقى السؤال المطروح هنا حول كيفية استيعاب ما يناهز 12 مليون ناخب اختاروا التصويت لأقصى اليمين، وكيفية إدماجهم وتمثيلهم وإيصال أصواتهم عبر القنوات الرسمية في ظل نظام انتخابي برلماني لا يعتمد على النسبية.
ختاماً، لا يمكن قراءة نتائج الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في عام 2022، فقط من زاوية فوز إيمانويل ماكرون بولاية ثانية وهزيمة مارين لوبان؛ لأن هذه الانتخابات أفرزت ظواهر سياسية جديرة بالمتابعة والمراقبة مثل حصول أقصى اليمين على أعلى مستوى له من الأصوات، وتبلور ثلاثية قطبية هي الوسط وأقصى اليمين واليسار؛ مما يطرح تساؤلات حول قدرة المؤسسات السياسية الفرنسية على استيعاب هذا التحول مع ما يفرزه من ديناميات تنافسية جديدة والتي ستكون أول ترجمة عملية لها خلال الانتخابات التشريعية القادمة في يونيو 2022.