مع دخول الصراع الروسي – الأوكراني الأسبوع الثالث، تستمر العمليات العسكرية الروسية في الاستيلاء على مزيد من الأراضي الأوكرانية، بالتوازي مع وجود مفاوضات بين موسكو وكييف، ولا يبدو أن فرص نجاحها كبيرة، مع اتجاه الدول الغربية إلى تصعيد لغة التهديدات والعقوبات الاقتصادية في محاولة لوقف الحرب من دون جدوى.
إشكاليات تفسير الحرب
يبدو في ظل التطورات المتلاحقة والصخب الإعلامي المصاحب لها أن هناك صعوبة في فهم الوضع الراهن للحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عاملين رئيسيين: أولهما، الحرب الإعلامية التي يمارسها الغرب بقوة دعماً لأوكرانيا، فمع بدء العمليات العسكرية الروسية، قدرت الاستخبارات البريطانية أن روسيا تخطط لاكتساح كامل أوكرانيا في أربعة أيام، وذلك على الرغم من أن الجيش الروسي لم يضع مدى زمنياً لعملياته العسكرية، وذلك لتخرج بعدها الوسائل الإعلامية الغربية لتؤكد أن إطالة أمد الصراع يعكس إخفاق الحسابات الروسية، والتي ظنت أنها سوف تكتسح كامل الأراضي الأوكرانية في خلال أربعة أيام، وذلك على الرغم من أن المدى الزمني للعملية العسكرية هو الذي حددته لندن، وليس موسكو. كما أن احتلال العراق في عام 2003 قد استغرق من واشنطن حوالي 21 يوماً، مع الفارق الكبير في القدرات العسكرية والمساحة بين العراق وأوكرانيا، وكذلك حجم الدعم الذي تلقته الأخيرة من الدول الغربية كافة.
وارتباطاً بما سبق، سعى الإعلام الغربي لتصوير أي تباطؤ في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، خاصة حول كييف، باعتباره إخفاقاً عسكرياً روسياً، ومقاومة بطولية أوكرانية، وذلك على الرغم من أن القوات الروسية كانت تعيد انتشارها حول العاصمة الأوكرانية، من دون اتخاذ قرار باقتحامها، وذلك إما انتظاراً لتقديم كييف تنازلات في المفاوضات الجارية بين الجانبين، أو لإفراغ العاصمة من المدنيين، قبل اقتحامها. ولا شك أن هذه الحرب الإعلامية الغربية سعت لإرباك التحليل حول مسار العمليات العسكرية وحجم الإنجاز العسكري الحقيقي الذي حققته القوات الروسية في محاولة لرفع معنويات أوكرانيا، والتي دخلت حرباً يبدو من الحسابات المنطقية أن فرص النجاح فيها معدومة.
أما العامل الثاني، والذي يجعل من الصعب التنبؤ بمسار الحرب الأوكرانية، فتتصل بصعوبة تقييم تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وهو ما يرجع، في جانب منه، إلى الحرب الإعلامية الغربية مجدداً التي سعت للمبالغة في تأثير تداعياتها، كما لو أنها أحادية الاتجاه، أي أنها ستضر بالاقتصاد الروسي وحده، من دون أن تترك تداعيات سلبية على الاقتصادات الغربية، ناهيك عن الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي يجافي الواقع، فقد حذر صندوق النقد الدولي من تعرض الاتحاد الأوروبي لركود اقتصادي عميق نتيجة التوتر حول أوكرانيا والعقوبات ضد روسيا، كما أشار إلى أن الاقتصاد العالمي بأكمله سوف يتأثر بهذا الصراع، بينما أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الناتو، ينس ستولتنبرج، في 11 مارس، أن العقوبات ضد روسيا ستكون لها عواقب على العالم أجمع.
ومن جانب ثانٍ، فإن العديد من العقوبات الاقتصادية الغربية سعت روسيا لمواجهتها عبر إيجاد بدائل لها عبر التعاون مع دول أخرى، وهو ما يجعل من الصعب الوقوف على تقييم حقيقي وموضوعي لتداعيات هذه العقوبات.
ويساهم ما سبق في فهم أسباب وجود رؤيتين متناقضتين حول ما يجري في أوكرانيا، بين رؤية ترى أن موسكو نجحت في تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا، وتمضي قدماً لتحقيقها كاملة، وبين رؤية ترى أن موسكو على الرغم من كل التحركات الميدانية تنهزم على الجبهات كافة، حتى وإن أخفقت في تقديم أسباب موضوعية لتلك الرؤية، فالحرب الإعلامية الغربية تسعى للتهوين من أي انتصار روسي، وتضخيم أي سياسات غربية مناهضة لروسيا، اقتصادية كانت أو عسكرية.
الإدارة الروسية للصراع الأوكراني:
شن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حربه ضد أوكرانيا انطلاقاً من عقديته التي تقول إنه "إذا كان القتال حتمياً، فيجب أن تضرب أولاً". ووفقاً لوجهة نظر الكرملين، فإن الحرب الأوكرانية هي حرب ضرورة، بل هي حرب دفاعية، تستهدف في المقام الأول، إيقاف تمدد حلف شمال الأطلسي، وهو حلف عسكري، لتطويق روسيا عبر ضم الدول المجاورة لها مباشرة على غرار أوكرانيا وجورجيا. ومن ثم نشر قواعد عسكرية على طول الحدود الروسية من الجهات كافة، بصورة تخل بالردع النووي القائم بين الولايات المتحدة وروسيا لغير صالح الأخيرة.
وسعت روسيا في البداية إلى التفاوض مع الولايات المتحدة باستخدام المنطق للتوصل لصيغة تقتضي بضمان حياد أوكرانيا، وأخذ تعهدات مكتوبة من الغرب بعدم انضمام كييف إلى حلف الناتو، وهو ما فضل الغرب تجاهله. واعترف جوزيب بوريل، مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، ذاته بأن الغرب قد ارتكب عدداً من الأخطاء، مثل الوعد بأن تنضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو يعلم أنه لا يمكنه الوفاء بهذه الوعود.
ونشرت وسائل إعلام روسية معلومات، بالاستناد إلى وثائق حصل عليها إقليم دونيتسك الانفصالي، تفيد بأن القوات الأوكرانية كانت تخطط لهجوم على القرم ومنطقة دونباس، في 8 مارس، وذلك بدعم غربي، وبمشاركة من المجموعات القومية النازية الأوكرانية، أي أن الحرب كان مبيتاً لها، وفقاً للسردية الروسية، أي أن موسكو استبقت المخطط الغربي عبر المبادرة بالهجوم.
وتتمتع موسكو بخبرة عسكرية واسعة في إدارة حرب المدن، خاصة ضد الغرب، فمن خلال مراجعة التاريخ القريب للعمليات العسكرية الروسية، يستخلص المرء أن بوتين لم يخض حرباً، إلا وانتصر فيها على غرار حرب الشيشان الثانية، أو الحرب السورية، بل إن الحرب الأخيرة هذه تكتسب أهمية كبيرة، بالنظر إلى أنها كانت حرباً روسية ضد جماعات المعارضة المسلحة السورية، المدعومة من الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولذلك، فإنها الأقرب للقياس على الحالة الأوكرانية، مع مراعاة الفوارق الدقيقة بين الحالتين، والتي تتمثل في إمداد الغرب بأوكرانيا بالصواريخ المضادة للطائرات، وهي التي كانت غائبة عن الميدان السوري.
والمتابع لسير العمليات العسكرية في أوكرانيا يكتشف أن هذه الصواريخ لم تلعب دوراً مؤثراً في مجريات الحرب، حتى الآن، وهو ما قد يرجع إما لأنه لم يتم توظيفها من قبل الجيش الأوكراني على نطاق واسع، أو إلى فاعلية المنظومات المضادة لها، والتي طورها الروس منذ عام 2015، وتستخدم الآن في المروحيات والمقاتلات الروسية، وهو ما جعل من الصعب توظيف هذه الصواريخ في تحييد الهيمنة الروسية على الأجواء الأوكرانية.
وبالعودة إلى الحرب الأوكرانية، نجد أن العمليات العسكرية الروسية شهدت ارتباكاً واضحاً في الأيام الأولى من الحرب، إذ عجز الجيش الروسي عن دخول المدن الأوكرانية باستخدام المدرعات الخفيفة، نظراً لوجود مقاومة دفعت موسكو لتعديل خططها العسكرية، فقد استندت أوكرانيا على نقل القوات إلى داخل المدن، وتوظيف الصواريخ المضادة للدروع والقناصة لإعاقة تقدم الجيش الروسي. ويعرف ذلك في الأدبيات العسكرية باسم "ضباب الحرب" (Fog of War)، والتي تعني أنه مهما كانت كفاءة ودقة التخطيط العسكري قبل الحرب، فلابد أن تكون هناك مفاجآت، وهو ما يقتضي الإعداد له، عبر تعديل الخطط العسكرية.
وقامت موسكو بالفعل بذلك، إذ اتجهت إلى فرض حصار على المدن الرئيسية، وقطع خطوط الإمداد عنها، وقصف المواقع العسكرية بها، ثم فتح ممرات إنسانية لإجلاء المدنيين منها، وذلك لتقليص الخسائر في صفوف المدنيين عند اقتحام المدن لمواجهة المقاتلين المتمركزين داخلها، وهو النموذج الذي طبقته روسيا على مدينتي فولنوفاغا وخيرسون، كما أنه مرشح للتكرار على خاركيف وكييف وغيرها من المدن الأوكرانية.
وإذا كانت الآلية الإعلامية الغربية تراهن على استنزاف روسيا عسكرياً إلى ما لا نهاية في أوكرانيا، فإن الخبراء العسكريين الأمريكيين كان لهم رأي مغاير، فقد أكد الجنرال سكوت دي بيرير، مدير وكالة استخبارات الدفاع أمام الكونجرس الأمريكي أنه "مع انقطاع الإمدادات، ستسقط كييف في غضون 10 أيام إلى أسبوعين".
سياسات أمريكية مقابلة:
سعت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى قيادة المعسكر الغربي لرفع تكلفة الكرملين بشن الحرب ضد أوكرانيا، وذلك عبر توظيف مختلف الأساليب، غير ذات الطبيعة العسكرية المباشرة، فأعلنت الدول الغربية فرض عقوبات غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي، سواء عبر تجميد أرصدة البنك المركزي الروسي في الخارج، أو تقييد الصادرات الروسية إلى الدول الغربية، سواء بشكل جزئي، أو شامل، هذا إلى جانب إعلان خطط للتخلي التدريجي عن الغاز الروسي.
وأخفقت هذه العقوبات في إجبار روسيا على وقف عملياتها العسكرية. وبالرجوع إلى الخبرات التاريخية، نكتشف أن العقوبات الاقتصادية لم تمنع الدول عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وذلك على غرار كوريا الشمالية، كما أن دولة بحجم روسيا، ومركزية دورها في الاقتصاد العالمي، كمصدر للطاقة والسلع الغذائية والمعادن وغيرها، يجعل للعقوبات عليها ارتدادات عكسية على الدول الغربية، بل وعلى دول العالم كافة. فقد ارتفعت أسعار الطاقة، ومن ثم التضخم في الدولة الغربية، وهو ما دفع الصحف الغربية الرصينة للتحذير من إمكانية أن يشهد الاقتصاد الأوروبي "كساداً تضخمياً".
كما كان للعقوبات الاقتصادية الغربية هدف آخر، وهو محاولة إثارة السخط الداخلي في روسيا، بصورة تحفز على الانقلاب ضد بوتين، أو تحرك الشارع الروسي ضده، على نحو ما ألمحت إليه بعض المواقع البريطانية، مثل البي بي سي، وكذلك وزير الخارجية الأوكراني، ديميتري كوليبا.
وتتعلق الآمال الغربية في هذا الصدد على سردية غربية خاطئة قوامها أن رصيد بوتين الشعبي قد بناه على أساس وحيد، وهو نجاحه في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، بعد حالة من الانهيار شهدتها الدولة الروسية في عقد التسعينيات من القرن العشرين، ومن ثم، فإن العقوبات الغربية القاسية سوف تهدد بتبديد الإنجاز الوحيد الذي تمكن بوتين من تحقيقه، وهو ما سينعكس على شعبية بوتين سلباً، غير أن هذا التصور الغربي قد يكون بالغاً في تقديراته، خاصة أن شعبية بوتين لم تتأسس فقط على الإنجازات الاقتصادية، بل ساهم نجاحه في إدارة حرب الشيشان الثانية بنجاح في تعزيز شعبيته أيضاً، وبالتالي فإن الحفاظ على وحدة وأمن الاتحاد الروسي مثل أحد مصادر شرعيته، ومن المستبعد أن تفضي الحرب الحالية إلى ثورة على بوتين من شأنها إسقاطه من الداخل، على الرغم من بعض الاحتجاجات التي ظهرت بوسائل الإعلام بسبب الصعوبات الاقتصادية.
وسعى الغرب إلى استخدام أدوات أخرى في هجومه على روسيا، وأبرزها توظيف ورقة حقوق الإنسان عبر تأكيد الدول الغربية أنها ستراقب سير العمليات العسكرية لموسكو، ورصد أي جرائم حرب ترتكبها القوات الروسية، مع غض الطرف، بطبيعة الحال، عن أي انتهاكات مماثلة للقوات الأوكرانية، فضلاً عن محاولة تضخيم، أو حتى اختلاق أي جرائم حرب ضد المدنيين، كما في اختلاق رواية بأن القوات الروسية قصفت مسجداً في ماريوبول لجأ إليه 80 مدنيين، وهي الرواية التي فندها إمام المسجد وتركيا. وفي المقابل، تم تجاهل قيام الحكومة الأوكرانية باستخدام صاروخ "توشكا" في قصف مناطق مدنية في دونتيسك، وهو ما تسبب في سقوط قتلى من المدنيين، وليؤكد كل ذلك في النهاية على استمرار "المعايير الأخلاقية المزدوجة".
وبالإضافة إلى ما سبق، عمدت الدول الغربية إلى إغلاق قنوات روسيا اليوم، وسبوتنبيك في دول الاتحاد الأوروبي، وذلك لمنع أي رواية تخالف الرواية الغربية، أو رؤية تصطدم مع نظيرتها الأمريكية، وهو ما كشف عن كذب الادعاءات الغربية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، وأن الدول الغربية، وقت الصراعات، لا تختلف عن النظم التي طالما اتهمها الغرب بأنها استبدادية وتنتهك حرية التعبير.
وبالتوازي مع السياسات السابقة، سعت الدول الغربية لدعم أوكرانيا بالسلاح في مواجهة روسيا، خاصة الصواريخ المضادة للمدرعات، فضلاً عن الصواريخ المضادة للطائرات، وذلك في محاولة لإطالة أمد الصراع، وتكبيد روسيا خسائر فادحة تدفعها في النهاية إلى التراجع عن تحقيق أهدافها كاملة في الصراع الأوكراني.
صراع يمتد إلى العالم:
روجت الدول الغربية في بداية الصراع إلى أن العقوبات الاقتصادية وحرمان روسيا من التكنولوجيا الغربية سوف يكون له تأثير موجع على الاقتصاد الروسي على المدى الطويل. وتتجاهل التقييمات الغربية التطورات التي شهدها العالم على مدار السنوات الأخيرة الماضية، والتي كان أبرزها أن الغرب لم يعد مهد التكنولوجيا الحديثة المتطورة، المدنية والعسكرية، فقد تمكنت الصين وروسيا من تطوير صواريخ فرط صوتية، وهو ما عجزت عنه واشنطن، حتى الآن، وذلك على الرغم من إنفاقها العسكري الذي يقارب ثلث الإنفاق العسكري العالمي، كما أن الدول الآسيوية، خاصة الصين وكوريا الجنوبية، قد تفوقت على نظيرتها الغربية في تطوير واستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس من الشبكات.
وبدأت واشنطن تتنبه إلى هذا الواقع الجديد، فبعد أن كانت تظن أن عقوباتها الاقتصادية كفيلة بالتسبب في انهيار الاقتصاد الروسي، وإجباره على وقف عملياته العسكرية في أوكرانيا، وحاولت الضغط على دول العالم المختلفة، باستخدام مختلف الأساليب لقطع علاقاتها الاقتصادية بروسيا، ومارست ضغوطاً على العديد من دول العالم، مثل الصين وتركيا وإسرائيل والهند وغيرها الكثير، ولكن أغلب هذه الدول فضل تبني موقف الحياد عن التماهي أو الالتزام بالعقوبات الأمريكية ضد روسيا.
فقد أكدت الصين معارضتها أي شكل من أشكال العقوبات الأمريكية أحادية الجانب ضدها بسبب عدم تماهيها مع العقوبات الأمريكية ضد روسيا، كما أكدت أنها ستحمي بقوة الحقوق والمصالح المشروعة للشركات والأفراد الصينيين، وهو ما يؤشر على أن بكين ستتجه إلى فرض عقوبات ضد واشنطن في حالة قررت الأخيرة فرض عقوبات، ولا يتوقع أن تقدم أمريكا على هذه الخطوة بالنظر إلى حقيقة أن تداعيات مثل هذه الخطوة سوف تكون كارثية على الاقتصاد الأمريكي. واتجهت الهند أيضا إلى تحد واشنطن بشكل صريح، وذلك عبر إعلانها تفاوضها مع موسكو على إقامة نظام ثنائي للتجارة وتبادل المدفوعات بالعملات الوطنية.
وساقت واشنطن أسباباً مختلفة لمطالبتها لدول العالم بالالتزام بالعقوبات الغربية ضد روسيا، منها إقدام موسكو على احتلال دولة ذات سيادة، وهي الحجة التي لم تقنع دول العالم المختلفة، خاصة مع السجل الأمريكي الحافل باحتلال الدول، وانتهاك سيادتها، وارتكاب كافة أشكال الجرائم الحرب ضد مواطنيها، على غرار الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، أو التعاون الأمريكي – الأوروبي على تدمير الدولة الليبية في عام 2011، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ولذلك لم تجد واشنطن مفراً سوى اللجوء إلى لغة المصالح، والتلويح بالعقوبات على الدول الصديقة التي لا تلتزم بالعقوبات الأمريكية على روسيا، ووجدت واشنطن مقاومة من أقرب حلفائها، خارج مجموعة الدول الغربية، ويرجع ذلك إلى احتفاظ العديد من الدول بعلاقات قوية مع روسيا، سواء كانت اقتصادية، أو عسكرية أو استراتيجية.
ومن جانب ثانٍ، كان عجز الدول الأوروبية عن التخلي عن الطاقة الروسية، واستثناء واشنطن لذلك القطاع الحيوي من العقوبات، سبباً كافياً لدول العالم المختلفة لعدم قطع علاقاتها بروسيا، خاصة وأنها تعتمد عليها في شراء سلع استراتيجية، مثل القمح، كما هو الحال بالنسبة لأغلب الدول العربية.
وعلى الجانب الآخر، اتجهت واشنطن في تغيير أولوياتها حول العالم، وبدأت تضع نصب عينيها صراعات القوى الكبرى، وتعيد انتشار قواتها حول العالم، وهو ما دفع الأقاليم المتضررة من هذا الانسحاب إلى التحوط من الانعكاسات المترتبة على ذلك عبر تنويع علاقاتها بالقوى الكبرى، خاصة روسيا والصين.
وسوف يكون مدى نجاح واشنطن في إقناع الدول غير الغربية على الالتزام بالعقوبات الأمريكية ضد روسيا مؤشراً، في حد ذاته، على مدى سطوة القوة الاقتصادية الأمريكية على الاقتصاد العالمي، وعما إذا كانت هيمنتها الاقتصادية العالمية عبر المؤسسات الدولية ونظمه وآلياته سوف تستمر، أو تتراجع، وتتجه الدول إلى تطوير أطر بديلة.
وفي الختام، يمكن القول إن الصراع الروسي – الأوكراني يجسد وبحق صراعاً بين القوى الصاعدة والهابطة في النظام الدولي، وسوف يكون محدد هذا الصراع اقتصادياً وعسكرياً، فإذا نجحت موسكو في حسم معركة كييف، فإن وزن واشنطن العسكري سوف يتراجع، كما أن إخفاق واشنطن في إقناع دول العالم المختلفة بالتماهي مع العقوبات الأمريكية ضد موسكو سوف يكون مؤشراً على تراجع وزن واشنطن الاقتصادي، ويؤكد في النهاية على تحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب، تخسر فيه واشنطن وضعها المتفرد، الذي استمر على مدار ثلاثة عقود.