أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

تقييم الأزمة الأوكرانية من منظور "نظرية المُباريات"

28 فبراير، 2022


تعتبر "نظرية المُباريات أو الألعاب" Game Theory من الأدوات المُهمة في مجال بحوث العمليات واتخاذ القرارات. وانتشر استخدامها في علوم الاقتصاد والتسويق والسياسة والحرب، ويتم تطبيقها من خلال نماذج رياضية مُعقدة باستخدام الحاسب الآلي، وتقوم الجيوش ومراكز البحوث الاستراتيجية بتنظيم مُباريات عسكرية وسياسية في القضايا المُتعلقة بالأمن القومي لدولة ما. وكانت هذه النظرية الأساس العلمي لكثير من الألعاب الإلكترونية ذائعة الانتشار في كل أنحاء العالم الآن. 

وتسعى "نظرية المُباريات" إلى دراسة تسلسل القرارات والأفعال من جانب أحد الأطراف، وردود الأفعال عليها المُتوقعة من الأطراف الأخرى في مواقف الصراعات وتناقُض المصالح؛ أي دراسة الطريقة التي يدير بها كل طرف خطواته لتحقيق أهدافه. ويمكن اعتبار لعبة "الشطرنج" أحد أشكال المُباريات، ففيها يتصرف اللاعب بالطريقة التي تحقق له الفوز، آخذاً في الاعتبار تصرفات أو تحركات اللاعب الآخر. 

ووفقاً للنظرية، فإن المُباراة هي حالة تنافس أو صراع بين طرفين أو أكثر يستخدم فيها كل طرف استراتيجية أو مجموعة من الاستراتيجيات لتحقيق أهدافه. وتفترض أن اللاعبين يتصرفون بطريقة عقلانية، مما يزيد مكاسبهم ويقلل من خسائرهم. ويميز الباحثون بين عديد من أشكال المُباريات وتصنيفاتها، مما يخرج عن نطاق هذا المقال الذي يركز على تحليل الأزمة الأوكرانية من منظور هذه النظرية.

مُباراة مختلطة:

وفقاً لتصنيفات المُباريات، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية هي "مُباراة مختلطة" تجمع بين الثنائية والجماعية من حيث أطرافها. فعلى المستوى السياسي، دارت المُباراة بين روسيا – وإلى درجة محدودة بيلاروسيا- من ناحية، وأوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" من ناحية أخرى في نهاية عام 2021. وتبارت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إعلان الدعم السياسي والعسكري وإرسال الأسلحة والمُدربين لدعم الجيش الأوكراني. وخلال هذه الفترة، بدا صوت أوكرانيا والدول الداعمة لها عالياً بحكم تعددهم وسيطرتهم على أدوات الإعلام في العالم.

ولكن عندما أصبحت المُباراة عسكرية، تحولت إلى ثنائية بين روسيا وأوكرانيا وغدت مُباراة غير متكافئة بحكم تفاوت القدرات العسكرية بين الطرفين، وعدم استطاعة أو رغبة دول حلف "الناتو" الدخول في حرب مع روسيا. وهكذا، فإن هذه المُباراة مختلطة على مستويين: الجمع بين الثنائية والجماعية من حيث أطرافها، والجمع بين الدبلوماسية والحرب من حيث طبيعتها. ويترتب على ذلك، أنها تدخل ضمن نمط المُباريات الديناميكية أو المُباريات الهجين التي تتغير قواعدها وأطرافها من مرحلة إلى أخرى.

سلوك الأطراف:

يكشف تطور الأزمة الأوكرانية عن جانب آخر يتعلق بتنبؤ كل طرف بسلوك الأطراف الأخرى، فلم تتمكن أوكرانيا من التنبؤ بسلوك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، واستمر رئيسها، فولوديمير زيلينسكي، على مدى شهور في التسويف والمماطلة بشأن تنفيذ اتفاقية مينسك المُوقعة في عام 2014 والخاصة بالمناطق التي تسكنها أغلبية روسية، وكرر رغبة بلاده في الانضمام إلى حلف "الناتو" بالرغم من التحذيرات الشديدة من جانب موسكو، واستمر في تلقي أسلحة متقدمة من عديد من الدول الغربية وزيادة تحصينات بلاده العسكرية، بل وحديثه في مؤتمر ميونيخ للأمن في 20 فبراير 2022 عن إمكانية عودة أوكرانيا لامتلاك أسلحة نووية.

ومن منظور تحليل المُباريات، قامت أوكرانيا بعدد من الخطوات والقرارات من دون إدراك صحيح لرد الفعل الروسي واحتمال لجوء بوتين إلى الحرب أو أنها كانت مُدركة لهذا الاحتمال ولكنها قللت من تأثيره تحت نشوة الدعم الغربي لها. وانتهى الأمر بأنه عندما شنت روسيا هجومها، وقفت أوكرانيا وحيدة في ميدان القتال. 

واتصالاً بذلك، فقد أدى سلوك الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف "الناتو" إلى الضغط على روسيا و"حشرها في الزاوية"، فقاموا بإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، ورفض إعطاء روسيا الضمانات الأمنية التي طلبتها بشأن عدم توسع "الناتو" شرقاً من دون الاستعداد عملياً لرد الفعل الروسي.

ومع أن واشنطن أعلنت بشكل مستمر عن ثقتها بأن الحرب قادمة لا محالة، وأن بوتين يستعد لتدخل عسكري في أوكرانيا، بل وفي إحدى المرات حددت موعد هذا العمل العسكري، بيد أنها لم تتخذ الإجراءات العملية مع الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" لمواجهة ذلك. وبدا وكأن الهجوم العسكري الروسي جاء مُفاجئاً لهم. والدليل على ذلك، المدة التي استغرقتها واشنطن وحلفاؤها في اتخاذ قرارات العقوبات الاقتصادية. فلو كان هناك تخطيط مسبق، لكان رد الفعل الغربي أكثر سرعة وحسماً.

أما روسيا، فيبدو أنها قد أدارت المُباراة بشكل أفضل. ففي البداية، ركز الرئيس بوتين على طلب ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وحلفائها، واستمر في البحث عن حل دبلوماسي وتواصل مع الرئيس الفرنسي، ماكرون، والمستشار الألماني، شولتز. وجاء ذلك في الوقت نفسه الذي حرك فيه بوتين قواته المسلحة على الحدود الأوكرانية، ونفذ مناورات عسكرية مع بيلاروسيا على حدودها مع أوكرانيا، ومناورات بحرية مع الصين وإيران في بحر العرب، وأخرى في البحر الأبيض المتوسط انطلاقاً من ميناء طرطوس السوري.

وعندما بدأ العد التنازلي للحرب، ألقى بوتين خطابه المُطول، يوم الثلاثاء 22 فبراير 2022، الذي شرح فيه أبعاد الأزمة الأوكرانية من وجهة النظر الروسية، ولم يترك فيه مجالاً للبث حول المكانة المُهمة لأوكرانيا في تحقيق الأمن الروسي، وأعلن في نهايته الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ثم بدأ الهجوم العسكري الشامل على أوكرانيا بعده بيومين. 

استعداد بوتين:

يشير ما تقدم إلى أن الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، شارك في "لعبة" تتجاوز حدود بلاده ولا يمتلك التأثير على مقدراتها، واستهان برد الفعل الروسي. وعلى العكس، فقد أدار بوتين المُباراة بشكل مرتب ومنظم وقضى وقتاً طويلاً ليشرح التهديد الذي يتعرض له الأمن الروسي من خلال تحركات الولايات المتحدة وحلف "الناتو" على حدود روسيا، وأن ما يرغب فيه هو ضمانات قانونية تحمي أمنها، وتطبيق اتفاقية مينسك. وكان بوتين صائباً في توقعه برد الفعل الأمريكي والأطلنطي على الهجوم العسكري ضد أوكرانيا، وأنهم لن يخاطروا بالتدخل لأنها سوف تتحول إلى حرب عالمية ثالثة مُدمرة للجميع.

ويبدو أن هذا التحرك الروسي كان له صداه، فعندما ناقش مجلس الأمن الدولي مشروع القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة لإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واستخدمت موسكو حق النقض لمنع صدوره؛ امتنعت 3 دول من أعضاء مجلس الأمن عن التصويت، وهي الصين والهند ودولة الإمارات.

ويدل على ذلك أيضاً أنه عندما أعلنت المندوبة الدائمة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، السفيرة ليندا جرينفيلد، عن بيان إدانة في 25 فبراير 2022، وقّع عليه 50 دولة فقط؛ وهذا يعني أن واشنطن لم تتمكن إلا من حشد ربُع عدد أعضاء الأمم المتحدة لدعم وجهة نظرها في هذه الأزمة. وإذا تذكرنا أن حلف "الناتو" يضم 30 عضواً يُضاف إليهم اليابان وأستراليا ونيوزيلندا، فإن ذلك يعني أن واشنطن لم تقنع سوى 17 عضواً لتأييدها. وهو ما يشير إلى أن أغلبية دول العالم تنظر إلى الأزمة الحالية على أنها مظهر من مظاهر الصراع بين الدول الكبرى وليس مجرد هجوم عسكري من قوة كبرى على دولة صغيرة.

مُباراة خطرة:

نحن إذاً أمام مُباراة سياسية وعسكرية خطرة يمكن أن تتحول إلى مُباراة كارثية إذا لم تتمكن القوات الروسية من تحقيق أهدافها في أسرع وقت، وتنسحب إلى حدود الجمهوريتين الانفصاليتين ثم تبدأ في مفاوضات جادة. لقد تمكنت موسكو من تغيير قواعد إدارة المُباراة، وأثبتت قُدرتها على تحويل الموقف إلى "مُباراة صفرية". ولكن استمرار القتال وعدم تمكُن القوات الروسية من إحراز نصر سريع، سوف يؤدي إلى تغيير آخر في عناصر المُباراة.

 فمع استمرار القتال، تزداد التغطية الإعلامية للأوضاع الإنسانية السيئة التي أصابت المدنيين في أوكرانيا، وإبراز عزم تصميم الشعب الاوكراني على المُقاومة وعدم الاستسلام، واحتمال أن يواجه الروس "حرب مُدن". ويؤدي ذلك إلى تغير المواقف لبعض أطراف المُباراة، ومن أبرزها إعلان ألمانيا وفرنسا في 26 فبراير 2022 استعدادهما لإرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وزيادة عدد الدول الأوروبية التي أغلقت مجالها الجوي أمام الطيران الروسي، وسوف يعطي كُل ما تقدم للحكومة الأوكرانية الحالية الفرصة لبدء شوط جديد من المُباراة؛ جوهره أن ما يحدث هو احتلال دولة كبرى لأراضي دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة. كما سوف يعطي الفرصة للدول الغربية لتهريب الذخائر والأسلحة إلى الداخل الاوكراني. وكل ذلك يُزيد من خطر المواجهة النووية. 

ختاماً، يشير تاريخ العلاقات الدولية من منظور "نظرية المُباريات"، إلى أن المُباريات التي انتهت بفرض سيطرة أحد الأطراف وتحقيقه كامل أهدافه على حساب الأطراف الأخرى، كانت نهاية مؤقتة وعاد الصراع مرة أخرى مع تغير الظروف. ويشير هذا التاريخ أيضاً إلى أن النهايات المُستقرة للمُباريات تحققت عندما سعى أطرافها إلى البحث عن "نقطة توازن" بين أهدافهم. 

وكل مُباراة لها بداية ونهاية، والمُهم ليس كيف تبدأ المُباراة؛ ولكن كيف تنتهي.