إعداد: مروة صبحي
برزت منذ انطلاق الثورات العربية عام 2011، تحليلات عديدة تُفسر تأثير الانتفاضات العربية وتحولاتها على قوة الدولة العربية؛ إذ لم تعد الدولة العربية قادرة على أداء وظائفها الدستورية المنوطة بها (القدرة على الحكم، وفرض الضرائب، وحماية المواطنين), ما شكل تحدياً للنظام العربي في منطقة الشرق الأوسط.
ويأتي ضعف الدولة العربية نتيجة لعوامل عدة؛ منها (سقوط الأنظمة السابقة, والنضالات المتتالية لإنشاء نظم دستورية جديدة أكثر استقراراً, وتصاعد الطائفية السياسية, وانتشار الجماعات الجهادية المتطرفة في سوريا والعراق وليبيا وشبه جزيرة سيناء).
وقد تشكلت العوامل السابقة في بيئة تتميز بمشاكل اقتصادية واجتماعية عديدة، مثل مستويات مرتفعة من البطالة، وأزمة اللاجئين, ومشاكل بيئية خطيرة تشمل نقص المياه وزحف التصحر ونقص الموارد الطبيعية المحلية.
ويظل مستقبل المنطقة غامضاً, إذ اهتزت دول كانت قوية مثل (سوريا والعراق), وأخرى مثل السودان قد جنحت إلى اثنتين من الحروب الأهلية: واحدة بين الشمال والجنوب, والأخرى داخل الجنوب ذاته. أما ليبيا فقد أصبحت على حافة الانهيار. فيما نجت دول مجلس التعاون الخليجي ومعها الملكيات الحاكمة في المغرب والأردن، من الانهيار نتيجة أخذها في الاعتبار المدخلات الشعبية في عملية اتخاذ القرار.
وتعتبر كل من تونس والجزائر استثناءان؛ إذ نجحت تونس في عملية انتقال ناجحة نسبياً نحو الديمقراطية التعددية، كما أن الجزائر شهدت خبرة حرب أهلية طويلة حصَّنت شعبها من أحداث اضطرابات في بلادهم.
انطلاقاً مما سبق، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، دراسة مُوسعة بعنوان: "موانئ صخرية: حالة الشرق الأوسط عام 2015". وتتضمن عدة فصول، سوف يتم بإيجاز عرض للفصل الثاني المُعنون: (مستقبل قوة الدولة العربية)، والذي أعده "روجر أوين" Roger Owen أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة هارفارد, حيث يعرض خلالها الأسس والجذور التاريخية والسياسية للمشاكل الحالية ومسارات المستقبل المحتملة، من خلال تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات تتمثل في: منطقة شمال أفريقيا بما في ذلك مصر، ومنطقة المشرق العربي وتضم سوريا والعراق, ومنطقة الخليج العربي.
منطقة شمال أفريقيا
يؤكد الكاتب على أن مؤسسات الدولة في منطقة شمال أفريقيا قد تأسست بشكل جيد, ولكنها تباينت في قدراتها؛ ففي مصر وتونس ساعد حجم البيروقراطية وضراوة الجهاز الأمني على إخفاء واقع أن النظام يملك القليل من القوة لإدارة حياة المواطنين, بالإضافة إلى اعتماد الاقتصاد بشكل كبير على السياحة والمساعدات الخارجية. أما في ليبيا, على النقيض, فقد اعتمدت الدولة بشكل كلي على وهم أن كل الأذرع الرئيسة لقوة الدولة هي في قبضة قائدها.
وبالتالي, فإن الشرارة الأولى التي أنتجت الانتفاضات الشعبية قد بدأت فى تونس وانتقلت سريعاً إلى مصر, ومن بعدها إلى ليبيا التي اشتعلت الحرب الأهلية بها بعد سقوط القذافي.
ويرى الكاتب أنه في هذه الحالات, أثبت الجيش أنه غير قادر وغير راغب في احتواء تلك الحركات الشعبية, بينما تم تنحية جهاز الشرطة بكل سهولة جانباً. كذلك, أوجد سقوط الديكتاتوريات الفاسدة شعوراً من الحماس لدى المتظاهرين بأن الواقع السابق لن يعود مجدداً.
وقد تركزت محاولات خلق نظام سياسي جديد على تأسيس أو تعديل الدساتير، وعقدت عدة دول بعد الانتفاضات العربية انتخابات رئاسية وبرلمانية أنتجت حكومات جديدة لإدارة العمليات الانتقالية.
واستتبع ذلك أول انتخابات فازت بها حركات دينية مثل الإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس, لكن كليهما عانى من مشاكل ضخمة تتعلق بالتحول من تنظيم مغلق إلى نظام حاكم مع وجود برامج متنوعة أيدولوجياً من الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
ومن ثم، تستنتج الدراسة أن الأوضاع لم تتغير كثيراً في مصر وتونس, فيما يتعلق بمدى قبضة الدولة أو التشابكات الخاصة بين الدولة ورجال الاقتصاد. ويوضح الكاتب أن أفراد الطبقة السياسية التقليدية الذين شاركوا في النظام الرأسمالي أواخر سنوات مبارك قد استطاعوا خلق وسائل جديدة للحفاظ على نفوذهم وثرواتهم. ومن المرجح أيضاً أن يواجه المستقبل السياسي لمصر تحديات عديدة؛ حيث يتوقع الكاتب أن يؤدي الضغط الدولي المتزايد على نظام الرئيس السيسي لتنفيذ الإصلاحات إلى حدوث تضخم وصعوبات اقتصادية على المدى القصير.
بينما كان انتقال تونس إلى الديمقراطية التعددية أسهل لعدة أسباب، وهي حجمها الأصغر, وجيشها الأقل عدداً, والقيادات المعتدلة لحركاتها الدينية (النهضة), فضلاً عن وجود نظام انتخابي قائم على تشجيع الائتلافات والتسويات السياسية.
وحتى الآن, ليس هناك صيغة واضحة لعلاج "تقلص الدولة" shrinkage state في تونس, كما هو الحال في مصر, نتيجة استمرار الأنماط الحالية من المحسوبية التي جددت التوافق بين الدولة وأصحاب الأعمال من النخبة الاقتصادية.
المشرق العربي
بينما تكونت منطقة شمال أفريقيا من مجموعة من الدول التي لديها هياكل مؤسسية جيدة, شهدت دول المشرق العربي (سوريا, ولبنان, والعراق) تاريخاً متقلباً عقب فترة الاستعمار. وتدخل في تشكيل ذلك التاريخ عدة عوامل، أولها يتعلق بالفترة القصيرة من التاريخ الاستعماري, والذي أعطى فترة قصيرة من الوقت لتشكيل المؤسسات الوطنية الضرورية للحكم على النظام (وكأن الكاتب يرى أن الاستعمار هو الذي ساهم في بناء أبنية ومؤسسات الدولة القوية). وثانيها تواجد الأقليات الدينية والعرقية في المشرق العربي مثل الأكراد, والذين تركزوا في مناطق يصعب الوصول إليها نسبياً ولا يمكن السيطرة عليها, وقد شكَّل أعضاؤها مكوناً هاماً من الجهاز الأمني مثل "العلويين" في سوريا.
وسبَّبت هذه العوامل مجتمعةً الشعور العام بالفشل في تدمير الدولة الوليدة لإسرائيل عام 1948, وكان نتيجة ذلك حدوث سلسلة من الانقلابات العسكرية التي دمرت الطبقة الحاكمة القديمة فى تلك المنطقة.
ومن وجهة نظر الكاتب، فقد أنشأ قادة الانقلابات مؤسسات أقوى وأوسع للدولة من أجل السيطرة على شعوبها المضطربة. وفي المقابل, أنتجت تلك الصيغة من الحكم في سوريا والعراق حُكماً سُلطوياً طويل المدى تحت عائلة الأسد في سوريا, وصدام حسين في العراق. وقد جمع كل من النظامين بين "عصا القمع" و"جزرة الرفاهية الاجتماعية" للحفاظ على حكمهما. ولكن لم يستطع كلاهما تحمل التكاليف المتزايدة لحكمهما، واضطرا للبحث عن أشكال بديلة للدخل, مثلما حاول العراق الاستيلاء على الكويت الغنية بالنفط عام 1990.
وقد أكمل الغزو الأمريكي واحتلاله للعراق عام 2003 مسيرة انهيار الدولة هناك, والذي فكك كُليَّاً مؤسسات الدولة القديمة مثل الرئاسة وحزب البعث الحاكم وجهاز الأمن الداخلي والجيش. وقد حل محله نظام دمية عينته الولايات المتحدة؛ إذ عمد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى استخدام صلاحياته في خلق شبكة محسوبية بما في ذلك الجيش الذي انهارت قيادته العليا مع أول هجمة منسقة من قِبل المقاتلين المتطرفين لتنظيم "داعش" عام 2014.
وفي سوريا, لم تنحل مؤسسات الدولة بتلك الطريقة, ولكن تآكلت المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها الدولة السورية تدريجياً؛ حيث استطاعت القوى المتمردة المحلية والجهاديون الأجانب تقليص سيطرة نظام الأسد على مساحات واسعة من الريف ما وراء مدينة دمشق وحلب.
منطقة الخليج العربي
قد يختلف مفهوم الدولة عند تطبيقه على دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يرى الكاتب أن دول الخليج قد اعتمدت في نشأتها تاريخياً على قوى خارجية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لحمايتها من الاعتداءات الخارجية خاصةً في فترة اكتشافات النفط بها.
كما أن اعتماد دول الخليج على العمالة الأجنبية - سواء من الدول العربية أو دول جنوب شرق آسيا - يُشكل تهديداً أمنياً وديموغرافيا عليها. فقد كان النفط بمثابة سلاح ذو حدين؛ إذ أنه وفَّر ثروات طائلة لاقتصاداتها, بيد أن دولة الرفاه قد أدت إلى زيادة العمالة الأجنبية بها. وقد سبَّبت تلك العمالة مشاكل عديدة تتعلق بضمان عدم بقائهم بطريقة غير شرعية في البلاد بعد انتهاء عقودهم. وشرعت بالفعل دول مثل المملكة العربية السعودية والكويت في حملات ترحيل إجبارية للمقيمين بطريقة غير شرعية.
إلى أين تتجه الدولة العربية؟
فيما يخص مستقبل الدولة العربية, يطرح الكاتب عدة سيناريوهات يمكن أخذها في الاعتبار، وهي:
1- من غير المحتمل توقع أي انكماش في دور الدولة, أو في ضراوة جهاز الأمن التابع لها, أو في الدور المركزي الذي تلعبه في إدارة حياة معظم الشعوب العربية. ويمكن اعتبار تونس من الاستثناءات في هذا الصدد، بالإضافة إلى الدول التي تم تقويض قدراتها من قِبل الغزو الخارجي أو الحرب الأهلية.
2- ستبحث الدول العربية عن طرق جديدة لإدارة شعوبها. على سبيل المثال في الحالة المصرية, سعت الدولة إلى المزيد من إدماج مواطنيها في إقامة شراكات مُربحة لمبادرات تنموية من أجل منحهم شعوراً بأن لهم مصلحة مشتركة في مستقبل بلادهم. ومثال ذلك مشروع قناة السويس الجديد، فوفقاً لمركز بصيرة، فقد اشترى حوالي 2.2 مليون أسرة شهادات استثمار قناة السويس الجديدة.
3- من المرجح أن تستفيد الحكومات العربية من التطورات الحديثة في مجال التكنولوجيا، خاصةً تكنولوجيا المراقبة من أجل تعزيز قوتها. وقد يشمل ذلك التنصت على الهواتف، ومراقبة شبكات التواصل الاجتماعي.
4- قد تستخدم الحكومات سلطة الدولة لتوفير البنية التحتية التي من شأنها تدعيم المجتمع المدني. ومن شأن ذلك، التحرك نحو تعزيز الهياكل القانونية التي تسمح للجمعيات الأهلية أن تكون جزءاً هاماً من المشهد الاجتماعي مثل الحالة التونسية؛ فقد شاركت بعض منظمات المجتمع المدني في الرقابة على نشاط الحكومة والبرلمان, فضلاً عن تشكيل جماعات ضغط لتحقيق الإصلاح الاجتماعي.
وسواء كانت مثل تلك الإجراءات قابلة للتطبيق بشكل أقل أو أكثر, فلاتزال السيطرة على حدود الدولة العربية مسألة تدعو للقلق في ظل الصراعات والحروب الأهلية التي تشهدها عدد من الدول العربية؛ إذ يهدد انتشار الجماعات الجهادية وسهولة تنقلهم بين الحدود كلاً من سلطة الدولة وتماسكها الاجتماعي.
وقد تُبشر التهديدات الأمنية التي تعاني منها أغلب الدول العربية في اللحظة الراهنة، إلى دفع الدول العربية إلى إقامة هيئات أمنية مشتركة عابرة للقوميات تحافظ على الأمن العربي، ولكي تسد الفجوة الأمنية التي عجزت الحكومات العربية عن فعلها منفردة.
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "مستقبل قوة الدولة العربية"، والصادرة في مارس 2015 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS).
المصدر:
Roger Owen, The Future of Arab State Power, in, John B.Alterman (editor), Rocky Harbors: Taking Stock of the Middle East in 2015 (Washington, Center for Strategic and International Studies, March 2015).