تابع المراقبون تطور موقف الولايات المتحدة تجاه الاعتداءات الإرهابية الحوثية على أهداف مدنية في دولة الإمارات في يناير 2022، والذي تمثل في الإدانة السياسية لهذه الهجمات الإرهابية والتعهد بمحاسبة منفذيها، وتأكيد الالتزام بأمن الإمارات و"العمل مع شركائنا الإماراتيين في مواجهة كل ما يهدد أراضيهم"، وذلك حسب تصريح "جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي الأمريكي. وتكرر هذا الموقف في تصريحات صادرة عن وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين.
ولم تكتف واشنطن بذلك، بل أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، في مطلع فبراير 2022، نشر مقاتلات من الجيل الخامس لحماية المجال الجوي للإمارات، وإرسال المدمرة "يو إس إس كول" USS Cole، فضلاً عن التعاون الاستخباراتي بين البلدين بشأن تلك التهديدات. ثم أعلنت واشنطن بعد أيام عن صفقة لبيع مُعدات عسكرية لدعم نظام دفاع الجوي للإمارات بقيمة 65 مليون دولار، كما تم الإعلان عن صفقة مماثلة مع السعودية.
وترافق ذلك مع قيام القوات الخاصة الأمريكية بعملية عسكرية نوعية أدت إلى مصرع زعيم تنظيم داعش في إحدى قرى محافظة إدلب شمال غرب سوريا. واحتفل الرئيس جو بايدن بإنجاز هذه العملية، معتبراً أن هدفها "حماية الشعب الأمريكي وحلفائنا ولجعل العالم مكاناً أكثر أمناً".
وأثارت كل هذه التطورات تساؤلاً لدى بعض الباحثين مفاده؛ هل تُعيد الولايات المتحدة التفكير في تغيير استراتيجيتها تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ أي بتعبير آخر، هل تقود تلك التطورات إلى وجود عسكري أكبر للولايات المتحدة في شكل معدات وأفراد لحماية أمن حلفائها؟ وإذا تحقق ذلك، فإنه سيكون بمنزلة إعادة نظر في استراتيجية واشنطن التي اتبعتها في المنطقة لسنوات بهدف تخفيض هذا الوجود في ظل ما سُمي بـ "التوجه شرقاً".
تطور السياسة الأمريكية:
بالتأكيد فإن هذا السؤال سابق لأوانه، فالدول الكبرى لا تغير استراتيجياتها السياسية والعسكرية بسرعة أو نتيجة لحادث هنا أو هناك، خاصة أن الاستراتيجية الأمريكية المُتبعة تتضمن إمكانية اتخاذ مثل هذه الإجراءات في إطارها من دون الحاجة إلى تغيير الأسس التي أُقيمت عليها. وتستند هذه الإجابة إلى دراسة تطور الالتزامات الأمريكية تجاه الدول الصديقة والحليفة في منطقة الخليج والشرق الأوسط عموماً، وإلى تحديد الولايات المتحدة لأمنها القومي والمصالح الحيوية المُرتبطة به.
فقد كانت المصالح التقليدية الأمريكية على مدى عقود تتمثل – وبدون ترتيب - في حماية أمن إسرائيل، وإمدادات النفط، وضمان الاستقرار الإقليمي، وحماية الحلفاء والشركاء من الاعتداءات الخارجية. وكان العدو في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، هو تغلغل النفوذ السوفييتي وما أسمته الدبلوماسية الأمريكية بـ "قوى الشيوعية الدولية"، وسياسات "الدعوة إلى استقلال المُستعمرات وعدم الانحياز" التي اتبعها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وعدد من الدول العربية؛ والتي اعتبرتها واشنطن مُعادية لها. وفي مرحلة لاحقة، أصبح الخصم لواشنطن هو التنظيمات السياسية المتطرفة وأنشطتها الإرهابية، ثم أصبح الهدف هو منع إيران من أن تصبح قوة نووية وعسكرية في الإقليم. وبالطبع، فإن إضافة أهداف ومصالح جديدة لا تعني إلغاء ما سبق، وإنما إعادة ترتيب الأولويات.
وارتبط تطور السياسة الخارجية الأمريكية بتوجهات رؤسائها، حيث كان لكل منهم مذهبه. فكان هناك "مذهب ترومان" في عام 1947، و"مذهب أيزنهاور" في عام 1957؛ اللذان هدفا إلى محاصرة الاتحاد السوفييتي من خلال مجموعة من الأحلاف، أبرزها حلف شمال الأطلسي "الناتو" في عام 1949. وتجلى ذلك في المنطقة من خلال مشروعات الدفاع عن الشرق الأوسط (1950-1951)، وحلف بغداد في عام 1955، و"مبدأ أيزنهاور" في عام 1957، ومنظمة الحلف المركزي "سينتو" CENTO وهو الاسم الذي اتخذه حلف بغداد بعد خروج العراق منه في عام 1958 ثم تم حله بعد قيام الثورة الإيرانية في عام 1979.
وركز "مذهب نيكسون" على سياسة "العمودين" أو "الركيزتين"، وجوهرها الدعم السياسي والعسكري لكل من السعودية وإيران. وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بدور القطب الواحد وظهور تهديدات جديدة، ظهر "مذهب بوش" الذي ركز على محاربة الإرهاب، ونشر النظم الديمقراطية. ولم تتردد واشنطن في استخدام القوة المسلحة والضربات الاستباقية لتحقيق الهدفين، فكان غزو أفغانستان في عام 2001، والعراق في عام 2003، وتكوين التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق.
وترتب على الإخفاقات التي واجهتها هذه السياسة الأمريكية، انتخاب الرئيس الأسبق، باراك أوباما، في عام 2009 واتباعه مذهباً جديداً يقوم على عدم التدخل العسكري الانفرادي، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية، وإقامة التحالفات والشراكات الدولية، وذلك بمنظور عملي واقعي. وركزت الاستراتيجية الأمنية الوطنية لعام 2010 على الأخطار الجديدة للمصالح الأمريكية في آسيا، ولم يعد الشرق الأوسط يحظى بالأولوية نفسها التي كانت لديه، وظهرت الدعوة إلى التحلل من الالتزامات العسكرية فيه، وأدى هذا التوجه إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015.
واستمرت هذه التوجهات الأمريكية في عهد إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، فباستثناء الموقف تجاه إيران، واصل التخفيف من التعهدات العسكرية الأمريكية، ووصف الشرق الأوسط مرة بأنه "رمال ودماء" و"حروب لا نهاية لها". ثم جاء الرئيس الحالي، جو بايدن، الذي يمثل استمراراً لسياسات أوباما ويسعى لإعادة العمل بالاتفاق النووي مع إيران.
حماية مصالح واشنطن:
كان المبدأ الذي حكم السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط طول الوقت هو حماية المصالح الأمريكية، وعملت الولايات المتحدة - خصوصاً بعد نشوب الثورة الإيرانية - على تنمية قدراتها العسكرية في دول المنطقة والتي تُوفر لها فرصة التدخُل إذا تعرضت هذه المصالح للخطر. وظلت واشنطن طرفاً رئيسياً في أغلب التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي شهدتها المنطقة، وكان دورها حاسماً في حرب تحرير الكويت في عام 1991، وحرب احتلال العراق في عام 2003. وحافظت الولايات المتحدة على وجودها العسكري في عدد من القواعد والمراكز اللوجستية في قطر والكويت والعراق وسوريا والبحرين وسلطنة عُمان والإمارات والأردن وجيبوتي، والتسهيلات العسكرية في دول أُخرى. علاوة على أن تكون المصدر الرئيسي للسلاح لعديد من البلاد العربية، والذي يُصاحبه عادة مُستشارون ومُدربون أمريكيون. فضلاً عن قاعدة "أنجيرليك" الضخمة في تركيا، وعلاقاتها العسكرية الوثيقة مع إسرائيل التي تُعتبر حليفها الأول في المنطقة.
وفي البحر، توجد السفن الحربية الأمريكية والتي تتمثل في الأسطول الخامس ومقر قيادته المنامة في البحرين، ويتولى مسؤولية تأمين الخليج العربي ومضيق هرمز وبحر العرب والبحر الأحمر وأجزاء من المحيط الهندي؛ والأسطول السادس ومقره مدينة نابولي الإيطالية وتتولى سفنه مسؤولية الأمن في البحر الأبيض المتوسط وأوروبا وإفريقيا، ويعد أقوى التشكيلات العسكرية البحرية في حلف "الناتو". ويضمُ كل منهما السفن الحربية المُقاتلة، والغواصات الهجومية، والمُدمرات، وحاملات الطائرات، وقاذفات القنابل، وطائرات التزويد بالوقود.
وهذه الترتيبات مستمرة ولم يطرأ عليها تغيرات جوهرية بعد إعلان واشنطن استراتيجية "التوجه شرقاً"، ما عدا بعض الأمور، مثل انتهاء عمل القواعد الأمريكية في السعودية وسحب منظومة صواريخ " باترويت" منها، والإعلان عن انسحاب القوات المقاتلة من العراق مع استمرار المستشارين والمدربين في أداء عملهم، ونقل بعض المعسكرات من قطر إلى الأردن، وكل هذا في إطار الاستراتيجية العسكرية الأمريكية القائمة.
التزام دفاعي لدعم الحلفاء:
في هذا السياق، ينبغي فهم ما يتردد عن الانسحاب العسكري الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، فليس المقصود على الإطلاق تخلي واشنطن عن وجودها العسكري في المنطقة ولم تُشر إلى ذلك أي من الوثائق الرسمية الأمريكية أو تصريحات قياداتها السياسية والعسكرية. والمقصود أساساً هو عدم انخراط القوات الأمريكية في حروب المنطقة بأعداد كبيرة على النحو الذي شهده العراق بعد عام 2003. ولا ترغب واشنطن في المشاركة في حروب طويلة أو صراعات مُمتدة، أو تكرار تدخلها العسكري الفاشل في فيتنام وأفغانستان.
ولكن ذلك لا يعني عدم استخدام الولايات المتحدة للأداة العسكرية دفاعاً عن أمن الدول الحليفة والصديقة لها إذا تعرضت لعدوان خارجي. ومن ثم، فإن الدعم العسكري الأمريكي للإمارات يدخل في صميم هذا الالتزام، خصوصاً عندما تتوافر الشروط اللازمة والمُبررة لهذا الدعم، فهو دعم لمواجهة هجوم قادم من خارج حدود الدولة، ومن جانب طرف لا توجد حالة حرب مُعلنة بينه ودولة الإمارات، وأنه استهدف منشآت مدنية. ومع ذلك، ينبغي تذكر أن الولايات المتحدة لم تشن هجوماً على الطرف المُعتدي، وإنما دعمت قدرة الإمارات على الدفاع عن نفسها. ومازالت الإدارة الأمريكية الحالية تبحث في إمكانية إعادة تصنيف ميليشيا الحوثيين كتنظيم إرهابي.
حدود تغير الاستراتيجية الأمريكية:
الخلاصة، أنني لا أعتقد أنه من المفيد تصور أن الدعم الأمريكي للإمارات ضد الهجمات الإرهابية الحوثية مؤخراً، هو بالضرورة بداية لتغيير في استراتيجيتها بالمنطقة. فالاستراتيجية العسكرية والأمنية للدول الكبرى تقوم على تقدير دقيق لخريطة المخاطر والتهديدات العالمية، وعلى معرفة توازن القوى مع الخصوم والأعداء ليس فقط حالياً أو في الأجل المتوسط، ولكن في الأجل الطويل أيضاً، وعلى استشراف للسيناريوهات المُحتملة في تطور العلاقات مع الحلفاء والأصدقاء من ناحية، ومع الخصوم والأعداء من ناحية أخرى.
وكل وثائق الأمن القومي الأمريكي، ودراسات مراكز الفكر والبحوث الأمريكية؛ تشير إلى أن الصين تمثل التحدي الرئيسي لدور الولايات المتحدة القيادي في العالم ولمكانتها الدولية، وطالما ظل هذا الاعتقاد سائداً في أجهزة التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، فإن الأولوية ستظل مواجهة الصين وروسيا ومحاولة احتوائهما.
ويترتب على ذلك أن ندرك أن الشرق الأوسط لم يعُد ضمن أولويات السياسة الأمريكية في قضايا الحرب والسلام باستثناء السلاح النووي الإيراني، وأن واشنطن لن تُقدم على إرسال أعداد كبيرة من قواتها المسلحة للمُشاركة في صراعات المنطقة. ولكن ذلك لا يمنعها بالتأكيد من تقديم المدد العسكري واللوجيستي وأعداد من المستشارين والمدربين لدعم شركائها في المنطقة، خاصة عندما يربطها بإحدى الدول العربية اتفاقية دفاع أو تعاون عسكري مشترك مثل حالة الإمارات التي يربطها بالولايات المتحدة اتفاقية للتعاون الدفاعي والأمني بدأ سريانها في مايو 2019، والتي تتضمن عقد حوار عسكري بين البلدين سنوياً؛ كان أحدث حلقاته في ديسمبر 2021.