أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

اعتبارات الأمن القومي:

لماذا تقاوم روسيا "أمركة" الإنترنت؟

10 مارس، 2015


إعداد: أحمد عبد العليم

تزايدت أهمية ونفوذ الفضاء الإلكتروني مؤخراً، وباتت العديد من دول العالم تحاول أن تخلق لنفسها مساحة آمنة فيه كي تحافظ على أمنها القومي من ناحية، ودعم نفوذها السياسي عالمياً وكذلك سياساتها الخارجية من ناحية أخرى.

ومع الهيمنة الأمريكية في هذا المجال لسنوات مضت، تسعى روسيا والصين ودول أخرى إلى سحب البساط من الولايات المتحدة وإنهاء هيمنتها الممتدة. وفي هذا الصدد، تأتي هذه الدراسة الصادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس)، حول: "روسيا وحوكمة الإنترنت عالمياً"، حيث يحاول "جوليان نوكيتي Julien Nocetti" – الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) - من خلالها استكشاف سياسة "حوكمة الإنترنت" Internet governance في موسكو، مع توضيح مدى تأثير الوضع الداخلي المحلي الروسي على عقلية النخبة الروسية إزاء الإنترنت، محاولاً توصيف وتوقع شكل العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة في هذا الشأن.

الاتجاهات الرئيسية لحوكمة الإنترنت في العالم

بدايةً يشير الباحث إلى أنه لا يمكن إنكار أن الفضاء الإلكتروني أصبح ساحة هامة للتنافس بين الدول، ومثال على ذلك أنه عقب اكتشاف وحدات صينية "سيبرانية" للتجسس على الولايات المتحدة، فإن الدولتين قامتا بمحادثات رفيعة المستوى بينهما بشأن "الأمن السيبراني". وفي ظل التسييس العالمي المتزايد لكل الأشياء الرقمية، فإن ثمة ثلاثة اتجاهات رئيسية يمكن ملاحظتها في هذا الإطار، وهي كالتالي:

- الاتجاه الأول: مرتبط بمحاولة العديد من الدول ممارسة السيادة في الفضاء الإلكتروني، خاصةً مع هيمنة الشركات الخاصة على هذا النظام التقني المعقد، وهو أمر مُقلق لكثير من صانعي القرار حول العالم.

- الاتجاه الثاني: مرتبط بقيام الحكومات بجهود كبيرة من أجل مسايرة التطور التكنولوجي الآخذ في التغيُّر بوتيرة أسرع، خاصةً أن لتلك التطورات تأثير على علاقات الدول ببعضها البعض، بل وعلى طبيعة الدولة القومية نفسها.

- الاتجاه الثالث: مرتبط بوجود شعور متنامٍ متعلق بالعوامل الديموغرافية، بأن يصبح مستقبل الإنترنت للشرق وللجنوب وليس للغرب، حيث يعيش (66%) من مستخدمي الإنترنت في الجانب غير الغربي من العالم، كذلك فإن عدد مستخدمي الإنترنت حول العالم من المتوقع أن يرتفع من (1.9) مليار شخص إلى (3) مليار شخص بحلول عام 2016.

ويرى الكاتب أن ذلك يأتي في إطار عدم شعور العديد من الحكومات في العالم بالارتياح مع النظام الحالي لـ"حوكمة الإنترنت"، ويسعون إلى تحدِّي الهيمنة الأمريكية في المجال "السيبراني"، والتي امتدت لسنوات طويلة. ومما لاشك فيه أن ورسيا تأتي في مقدمة الدول المعارضة للهيمنة "السيبرانية" الأمريكية، حيث تحرص موسكو على تغيير نظام "حوكمة الإنترنت" العالمي الحالي، خاصةً أن الفضاء الإلكتروني بات أداة هامة من ضمن أدوات السياسة الخارجية للدول.

وتتمسك موسكو بالفهم التقليدي للسيادة، وتصر على مبدأ عدم التدخل في سياساتها تجاه الإنترنت العالمي، حيث تنظر إلى الفضاء الإلكتروني باعتباره أراضِ افتراضية تتبع سيادتها. وينظر القادة الروس بنوع من التوجُّس إزاء الإنترنت خاصةً أنه كان سبباً مهماً في تحريك انتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط، وبالتالي فإنهم يسعون لفرض نظام صارم على البنية التحتية للإنترنت، وكذلك على شبكات التواصل الاجتماعي.

العوامل المحلية والموقف الروسي إزاء الإنترنت

يشير الكاتب إلى أن الانتفاضات في العالم العربي كان لها تأثيرُ عميقُ على عقول النخب السياسية الروسية إزاء الإنترنت، خاصةً أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" كان لها دور كبير في الحراك الثوري في مصر وتونس وليبيا، وهو ما حدا بالكرملين إلى مراقبة الاستخدام السياسي لمثل تلك المواقع لدراسة مدى تأثيرها على التعبئة الاجتماعية والتحول الديمقراطي، أي أن التوجُّس الروسي إزاء الفضاء الإلكتروني نابع من الأساس من احتمالية تأثيره على أي حراك اجتماعي مُحتمل.

وبالتالي فإن القادة الروس يتحدثون بشكل مستمر عن قدر أعظم من تنظيم الإنترنت مع درجة أكبر من تنظيم الهياكل الشرطية، ويعكس تشريع صدر عام 2012 ذلك التوجه، إذ تضمن حديثاً عن أن السيطرة على الفضاء الإلكتروني تُشكل تحدياً كبيراً للشرعية السياسية القائمة في البلاد. ويأتي الكشف عن بعض القضايا المرتبطة بالفضاء الإلكتروني والتي لها تأثير بالغ على الأمن القومي، لتثري المخيلة السياسية الروسية بشأن ضرورة اتخاذ كل الإجراءات اللازمة.

ولعل فضيحة كشف رجل الاستخبارات الأمريكي "إدوارد سنودن"، والخاصة بتسريب معلومات حسّاسة تضر بالأمن القومي الأمريكي، تعد مثالاً واضحاً ضمن أمثلة كثيرة تزيد قناعات القادة الروس بضرورة التحكم في الفضاء الإلكتروني لحماية أمنهم القومي.

وطبقاً لما ذكرته الدراسة، فإن روسيا لديها مخاوف عميقة حول مبدأ التبادل المعلوماتي غير المنضبط في الفضاء الإلكتروني، وكذلك فإن ثمة مخاوف من استخدام التكنولوجيا الرقمية كأدوات ضد روسيا. ويعتبر الصراع الروسي الدائر مع الغرب بشأن أوكرانيا مثال مهم حول رغبة موسكو في حماية معلوماتها، وهو ما يبرر مشاريع "السيادة المعلوماتية".

ويعكس تلك التخوفات حديث الرئيس الروسي بوتين في أبريل 2014 عن أن الإنترنت ليس إلا مشروع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). وتزامناً مع ذلك التصريح كان هناك سيل من قوانين الإنترنت في موسكو تفرض قواعداً أكثر صرامة على المدونين وعلى مستخدمي الإنترنت من أجل تشديد الخناق حول الإنترنت لحماية الأمن القومي الروسي، وكذلك من أجل حماية المجتمع الروسي.

"حوكمة الإنترنت" وسيادة الدولة الروسية

يرى الباحث أن النظام الحالي لحوكمة الإنترنت يتصادم مع التفضيلات الروسية في أمرين مختلفين، أولهما هو "تراث الليبرالية" باعتباره لايزال القوة الأكبر القادرة على تشكيل الإنترنت ووضع المعايير الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة باستخدامه، وذلك بدلاً من المؤسسات التقليدية الحكومية، حيث يتحكم في الإنترنت وخصوصياته شركات عبر وطنية، في حين أن روسيا تؤكد على سيادة الدولة القومية وتؤيد زيادة سيطرة الدولة على الفضاء الإلكتروني، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى فرض قيود على استخدامه.

أما الأمر الثاني، فهو مرتبط بوجود دور متميز للولايات المتحدة في إدارة نظام الإنترنت الحالي، حيث تتوجس موسكو من أن تستخدم واشنطن أدواتها المتميزة في الإنترنت من أجل تخريب أو اختراق الأمن القومي الروسي.

من جانب آخر، تشير الدراسة إلى أنه لا يوجد تجانس داخل النخبة السياسية الروسية فيما يتعلق بالإنترنت والمسائل الأمنية "السيبرانية"، فبينما تميل وزارة الاتصالات الروسية للتركيز أكثر على القضايا التقنية المحيطة بعمليات "حوكمة الإنترنت"، وتنظيم مبادرات حولها والمشاركة في جميع المبادرات بالعالم، فإن وزارة الخارجية لديها أجندة مختلفة فيما يتعلق بحوكمة الإنترنت، وهي أجندة مرتبطة بالأساس بالبٌعد الأمني وليس التقني في الحوكمة.

ويشير الكاتب إلى مجلس الأمن الروسي (SC) وهو الهيئة الأهم في روسيا من حيث صياغة السياسات وصناعة القرارات المتعلقة بقضايا سياسات الإنترنت في روسيا على مدى السنوات القليلة الماضية، يركز على الأمن والدفاع "السيبراني" باعتباره من القضايا الأكثر إلحاحاً فيما يتعلق بحوكمة الإنترنت. ومن أجل توحيد الجهود والمواقف الروسية في هذا الإطار، تم تعيين "أندريه كروتسكيخ  Krutskikh Andrei" مبعوثاً خاصاً للرئيس الروسي لأمن المعلومات لقيادة جهود موحدة لإدارة الإنترنت والأمن "السيبراني" في البلاد على الصعيد الدولي.

أما فيما يتعلق بنشاط منظمات المجتمع المدني الروسية ذات الصلة بحوكمة الإنترنت، فإنها قليلة العدد، ولكن ثمة زيادة ملحوظة في عدد الأكاديميين وشباب الباحثين المنخرطين في مثل هذه المسائل. وتمَّ عقد خمسة اجتماعات سنوية في موسكو لمنتدى الأمم المتحدة لحوكمة الإنترنت، وهي اجتماعات ناجحة جمعت بين عدد كبير من الخبراء الروس والأجانب مع الحكومة الروسية وممثلي قطاع الأعمال بمشاركة متميزة من المجتمع المدني.

إمكانية اندلاع "حرب باردة" في الفضاء الإلكتروني

يشير الباحث إلى أن "حوكمة الإنترنت" باتت قضية استراتيجية حقيقية في ضوء مخاطر الإنترنت السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما سيُلقي بظلاله على الحكم العالمي بشكل متزايد. لذلك، وفي ظل التوجس الروسي من النفوذ المتزايد للولايات المتحدة في الفضاء الإلكتروني وإمكانية تأثير ذلك على الأمن القومي الروسي، فإن موسكو - وعدداً من الدول والمؤسسات الدولية ومنها الأمم المتحدة - تطالب واشنطن طوال العقد الماضي بالتخلي عن سيطرتها الكاملة على إدارة الإنترنت من خلال هيئة "آيكان ICANN "، وهي منظمة غير ربحية مقرها كاليفورنيا, وهي مختصة بتوزيع وإدارة عناوين "الأي بي" وتخصيص أسماء المواقع في جميع أنحاء العالم، وهو ما يعني تحكم الولايات المتحدة في الإنترنت عبر ما يُعرف بالخوادم الجذرية(Root Servers)  التي يمر عبرها كل مستخدم للإنترنت ليصل إلى أي موقع في العالم. وينتشر حول العالم 13 خادماً جذرياً، منها 10 خوادم في الولايات المتحدة، و3 فقط خارجها.

وبالتالي يطرح الباحث تساؤلاً حول مستقبل العلاقات بين الدول فيما يتعلق بالفضاء الإلكتروني وهل سيكون هناك تعايش سلمي؟ أما أن الولايات المتحدة وروسيا سيدخلان مرحلة حرب باردة جديدة يكون مسرحها الفضاء الإلكتروني؟.

يرى الباحث أن الصراع لن يكون بين الدولة غير الديمقراطية الاستبدادية وبين الدول المحبة للحرية والليبرالية، ولكنه سيكون بين دول عالمية عريقة آمنة في سيادتها، ودول أخرى لا تشعر بالاطمئنان على سيادتها. وتعتبر روسيا مثال للفئة الأخيرة في ظل ضعف الشعور بالأمن وضعف الثقة في الفضاء الإلكتروني. ويتوقع الباحث أن يظل السياق المحلي الداخلي في موسكو ذا تأثير كبير على صياغة الدولة الروسية لموقفها نحو "حوكمة الإنترنت" وإزاء الفضاء الإلكتروني بشكل عام في المستقبل.

ختاماً، يؤكد الباحث على أن "حوكمة الإنترنت" أصبحت ترتبط بشكل متزايد بالسياسة الخارجية للدول. وفي ظل اختلاف الرؤى الدولية، فإنها من الممكن أن تصبح مؤشراً على تزايد التوتر العالمي بشأن الفضاء الإلكتروني، وهو ما لُوحظ منذ قمة دبي للاتصالات في عام 2012، الأمر الذي يفتح النقاش لتعزيز دور الدولة في حوكمة الإنترنت وتمكين الأمم المتحدة من أجل لعب دور أكبر. وعلى جانب آخر، فإن التوجس الروسي من إمكانية تهديد الفضاء الإلكتروني لسيادة روسيا سوف يستمر، وكذلك إمكانية تأثير الإنترنت على الاستقرار الاجتماعي سيظل في المخيلة النخبوية الروسية لوقت طويل.

أما عن العلاقات الروسية – الأمريكية، فثمة توقعات بأن تكون المباحثات بينهما في هذا الشأن ليست بالسهلة، خاصةً في ظل النهج المتباين للدولتين في التعامل مع الفضاء الإلكتروني، سواء فيما يتعلق بالطريقة التي ينبعي أن يُحكم بها الإنترنت أو ما يتعلق بقضية الأمن "السيبراني" بشكل عام، وهو ما يعني استمرار الشد والجذب بين الدولتين، ومحاولة الولايات المتحدة تأكيد نفوذها المتزايد من جانب، وتأكيد روسيا على رفض "أمركة الإنترنت"، وغضبها من إحكام قبضة واشنطن على الإنترنت، سواء من حيث البنية التحتية (الشبكات، ومسميات الإنترنت، والعناوين) أو هيمنة الشركات الأمريكية من جانبِ آخر، مع استمرار روسيا في فرض قيود صارمة على ما يمكن أن يعتبر تهديد قائم أو متوقع للأمن القومي الروسي.

* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "منافسة وغزو.. روسيا وحوكمة الإنترنت عالمياً"، المنشورة في دورية "الشؤون الدولية"، الصادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس)، يناير 2015.

المصدر:

Julien Nocetti, Contest and conquest: Russia and global internet governance, International Affairs, Volume 91 Number 1  (London: The Royal Institute of International Affairs, January 2015)