عرض: رشا رفعت
منذ انطلاق الثورة الصناعية، أطلقت الدول تريليوناً ونصف التريليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. وتمثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين وروسيا أكبر نسبة من الانبعاثات التراكمية. وحالياً تعمل سياسات هذه الدول جاهدة للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن. لكن مستقبلياً تمثل بعض دول العالم النامي مثل البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، المصدر الرئيسي للانبعاثات، في ظل انشغالها بمحاربة الفقر والنهوض بشعوبها والركود العالمي الناجم عن جائحة كوفيد -19.
في هذا السياق، ناقشت الكاتبة كيلي سيمز في مقال بعنوان "الكربون.. تسونامي القادم"، نُشر مؤخراً بمجلة Foreign Affairs، أهمية تعاون الدول الصناعية الكبرى لتوفير التمويل المالي والدعم الفني للدول النامية لاتباع استراتيجية تنمية منخفضة الكربون، من أجل الحفاظ على البيئة. وأوضحت أن هناك ما يقرب من عشرين اقتصاداً ناشئاً في جميع أنحاء العالم تستعد لتوسيع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكلٍ كبير في المستقبل القريب إذا لم تتلق هذا الدعم. وقد حذرت الكاتبة من التباطؤ في عملية إزالة الكربون، والذي سيؤدي إلى تعثر نمو الدول نتيجة تزايد الأعاصير المتكررة والانهيارات الطينية والفيضانات والجفاف.
مسؤولية الدول الكبرى:
أوضحت الكاتبة أن تخلي القادة الأمريكيون سابقاً عن دورهم في ملف المناخ، مهَّد الطريق لارتفاع هائل في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بالدول النامية. ففي عام 1997، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع على قرار بيرد هاجل، الذي أعلن فيه أن الولايات المتحدة لن توقِّع على اتفاقية دولية تقضي بخفض الانبعاثات إذا لم تقرر خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في البلدان النامية. واستمر هذا الوضع على مدار 17 عاماً إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما والرئيس الصيني شي جين بينغ – في عام 2014 - بشكلٍ مشترك أنهما سيلزمان بلديهما بأهداف لخفض الانبعاثات. وقد مهدت هذه الانطلاقة الطريق لاعتماد اتفاقية باريس العالمية بشأن تغير المناخ في عام 2015، حيث تعهدت كل الدول بالتزام محدد وطنياً للحد من الانبعاثات.
من ناحية أخرى، تعتبر الصين أكثر الدول المسؤولة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، خاصة بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، وأوضحت الكاتبة أن العوامل التي أدت إلى تزايد الانبعاثات في الصين تتمثل في الحجم السكاني الهائل، ومعدل النمو الاقتصادي المرتفع، والاعتماد الكبير على الفحم للحصول على الطاقة. وينسحب هذا الأمر على 15 دولة من الأسواق الناشئة الرئيسية أو البلدان النامية التي تمتلك اثنين أو ثلاثة من تلك العوامل (بنجلاديش، الصين، الكونغو، مصر، إثيوبيا، الهند، إندونيسيا، باكستان، الفلبين، جنوب إفريقيا، تنزانيا، تايلاند، تركيا، أوغندا، وفيتنام). علاوة على ذلك، فهناك ثماني دول أخرى تعتمد بقوة على استهلاك البترول، وتأتي في المرتبة الثانية من حيث استهلاك الوقود (الجزائر، البرازيل، إيران، كازاخستان، المكسيك، نيجيريا، روسيا، والسعودية).
وما يدعو للتفاؤل، إعلان العديد من البلدان النامية عن نواياها لتحسين سجلاتها المناخية، حيث تعهدت جنوب أفريقيا بالوصول إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050، أما إندونيسيا والسعودية فحددت عام 2060، ووعدت الهند بتحقيق صفر انبعاثات بحلول 2070. أما ما يدعو للقلق، فهو عدم وضع هذه البلدان خطة تفصيلية لكيفية الوصول إلى ذلك. وفي الوقت نفسه، لم تعلن إيران بعد عن جدول زمني للوصول إلى صفر انبعاثات، كما أن البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الفحم، مثل الهند وفيتنام، ستجد صعوبة كبيرة في الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. وعلى الرغم من هذه التحديات، فقد التزمت فيتنام في مؤتمر تغير المناخ COP26 بالتخلص التدريجي من استخدام الفحم المحلي بحلول عام 2040.
أما إذا نظرنا لبعض الأرقام ودلائلها، فوفقاً لتقرير للأمم المتحدة تشير التقديرات إلى أن تكلفة التكيف مع تغير المناخ في البلدان النامية سترتفع من 70 مليار دولار في الوقت الحالي إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2050، بالإضافة إلى صعوبة تحول بعض البلدان التي تعتمد في الأساس على إنتاج الوقود الأحفوري، كما هي الحال بالنسبة لإيران وروسيا والسعودية، وإن نجحت في الحد من الانبعاثات في اقتصاداتها المحلية، ستظل تصدر الفحم والنفط والغاز لدعم نموها الاقتصادي، وبالتالي تحفيز نمو الانبعاثات في البلدان الأخرى، وبهذا فإن تعهداتها بصافي انبعاثات صفرية تصبح سراباً.
أسباب الفشل الدولي:
تعجبت الكاتبة من تزايد انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من جميع المصادر بنسبة 58% بين عامي 1990 و2020، وتزايد تركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي بنسبة 18% خلال الفترة نفسها (حيث إن بعض الانبعاثات تمتصها المحيطات والغابات)، وذلك على الرغم من تنفيذ أربع اتفاقيات مناخية رئيسية وتصاعد تحذيرات العلماء من خطورة هذا الوضع. وذكرت الكاتبة ثلاثة أسباب رئيسية وراء فشل المساعي الدولية في قضية المناخ، وتتمثل هذه الأسباب فيما يلي:
أولاً، تغاضى اتفاقية باريس - كما هي الحال مع معظم الاتفاقات البيئية العالمية – عن وضع آليات تنفيذ محددة لإلزام الدول بالوفاء بوعودها للوصول لصفر انبعاثات، ومعاقبة المتقاعسين عن ذلك.
ثانياً، فشل الاقتصادات الناشئة - بالإضافة إلى العديد من الاقتصادات الصناعية- في تطوير نموذج للنمو الاقتصادي لا يعتمد على الوقود الأحفوري والتصنيع كثيف الطاقة. فقد تبنت اليابان وكوريا الجنوبية والصين ما يُعرف بنموذج التنمية في شرق آسيا - وهو نهج يعتمد على التصنيع كثيف الطاقة والقائم على التصدير- وهؤلاء من بين العشرة الأوائل الباعثين اليوم.
ثالثاً، عدم توفير تدفقات رأس المال العام والخاص إلى الاقتصادات النامية لتأمين التمويل الكافي لمشاريع الطاقة الخضراء. وهنا أوضحت الكاتبة أن وكالة الطاقة الدولية قدرت الاستثمارات السنوية في الطاقة النظيفة المطلوبة لإزالة الكربون من نظام الطاقة العالمي بـ 4 تريليونات دولار، في حين تعهد المفاوضون في اتفاقية باريس بتقديم دعم 100 مليار دولار فقط سنوياً من أجل البلدان النامية بحلول عام 2020، وحتى هذا التعهد لم يتم الوفاء به.
على الجانب الآخر، رحبت الكاتبة بإعلان COP26 التزام دول فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتقديم 8.5 مليار دولار لمساعدة جنوب أفريقيا على تحقيق انتقال عادل بعيداً عن الفحم وتنفيذ سياسات لإزالة الكربون من اقتصادها. وأكدت الباحثة أن مثل هذه الخطوات يمكن أن تسرع عملية التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة في الأسواق الناشئة، بما يضمن عدم إعاقة تنميتها الاقتصادية للجهود الرامية إلى تخفيف آثار تغير المناخ.
إجراءات مطلوبة:
ترى الكاتبة أن عملية مفاوضات المناخ العالمية ضرورية ولكنها ليست كافية لحل أزمة المناخ. ويجب أن يقترن هذا العمل بجهود لضمان وصول البلدان النامية إلى موارد كافية لمتابعة استراتيجيات التنمية منخفضة الكربون، وذلك من خلال اتخاذ بعض الإجراءات:
• يجب أن تتدخل الحكومات وتعلن عن الاستثمارات المرتبطة بالمناخ، وتمنع الشركات من القيام باستثمارات جديدة في الفحم أو الصناعات الأخرى ذات الكربون العالي، وتعزيز التعاون بين البنوك المركزية للحد من المخاطر المرتبطة بالمناخ في النظام المالي، خاصة مع سيطرة الشركات الخاصة على الغالبية العظمى من التدفقات المالية الداخلية الخاصة بالمناخ.
• يتعين على حكومات الاقتصادات الناشئة الكبرى، مثل البرازيل والصين والهند والمكسيك وروسيا، أن تغير استراتيجية الدولة لكي تكون محايدة للكربون وتبدأ في الابتعاد عن فرض الضرائب على الوقود كمصدر رئيسي للدخل، وفرض الضرائب على الكربون، وهو ما قد يعزز استخدام مصادر الطاقة المنخفضة الكربون في حين يسمح للحكومات بالحفاظ على قواعدها الضريبية. ودعت الكاتبة الدول الصناعية التي نفذت بالفعل ضريبة على الكربون أن تقدم المساعدة التقنية للبلدان النامية، على سبيل المثال، اقترحت النرويج زيادة الضرائب المفروضة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030، وتخفيض الضرائب الأخرى لتجنب انخفاض القدرة التنافسية.
• إنشاء بنك عالمي جديد للتنمية الخضراء، على غرار البنك الدولي أو البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، على أن يكون مخصصاً فقط لتمويل مسارات التنمية الاقتصادية الرشيدة المنخفضة الكربون، مع تقديم منح وقروض وضمانات قروض وأنواع أخرى من الاستثمارات إلى البلدان النامية من دون اتباع نهج المشروع الواحد المرهق الذي يستخدمه صندوق المناخ الأخضر.
• وأخيراً، التركيز على التصنيع الأخضر في نموذج التنمية المنخفض الكربون؛ أي خلق فرص عمل وتنمية الصناعات غير الملوثة للبيئة. ومستقبلياً، والتوسع في صناعات الخدمات المدعمة لذلك، وخلق استراتيجيات للزراعة المستدامة، والاستثمار في صناعات الطاقة والنقل والبناء الجديدة ذات التكنولوجيا العالية.
التحركات الفعلية:
أكدت الكاتبة إمكانية وقف الموجة التالية من انبعاثات الكربون، شريطة أن تبادر البلدان المتقدمة والنامية، على حد سواء، لاتخاذ خطوات جادة للحد من الانبعاثات. فقد أبدت العديد من الاقتصادات الناشئة استعدادها لاعتماد سياسات جديدة للتخفيف من تغير المناخ. على سبيل المثال، إندونيسيا على وشك فرض ضريبة كربون على محطات الفحم، كما بدأت المكسيك وجنوب أفريقيا تطبيق ضرائب بالفعل على الكربون. وفي السياق ذاته، أصدرت إثيوبيا استراتيجية اقتصادية تعطي الأولوية للتنمية الخضراء، وتضم خططاً لتوسيع إمدادات الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة وإعادة تشجير البلاد.
من ناحية أخرى، تحتاج هذه البلدان إلى التمويل والدعم الفني لتغيير استراتيجيتها. ولسوء الحظ، فشل أكبر اقتصادان في العالم في تقديم الريادة في مجال المناخ، حيث لم تقم الولايات المتحدة بوضع نموذج لسياسة جيدة للنمو الاقتصادي منخفض الكربون، فمازالت التشريعات المناخية الهادفة معطلة في الكونجرس. ولهذا يجب أن تقود الولايات المتحدة الدفعة من أجل إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف وإنشاء بنك أخضر عالمي، وتنظيم بنوكها الخاصة، وتوفر التمويل للصناعات والوقود منخفض الكربون.
أما الصين فقد ركزت على السياسة الصناعية للصناعات منخفضة الكربون، حيث غزت شركاتها بالفعل أسواق الطاقة الشمسية العالمية وهي في طريقها لتوسيع سيطرتها على سوق السيارات الكهربائية والبطاريات. كما أنشأت بكين أسواقاً مستقرة لنشر الطاقة المتجددة، مما أدى إلى امتلاك الصين أكبر قدرة طاقة متجددة في العالم. وعلى الرغم من ذلك، فالصين بعيدة كل البعد عن أن تكون نموذجاً يحتذى به؛ فهي لم تنجح بعد في وقف بناء محطات الفحم أو إصلاح مؤسساتها المملوكة للدولة القائمة على الوقود الأحفوري.
ودعت الكاتبة كلاً من الولايات المتحدة والصين إلى الكشف عن استثماراتهما العامة والخاصة في الأسواق الخارجية حتى يمكن مساءلتهما عن تأثيرها على المناخ.
ختاماً، تؤكد الكاتبة أن تخلي الدول الصناعية الكبرى عن القيادة يترك الكرة في ملعب الدول النامية الكبرى، مثل الهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، لتشكيل نهج جديد. لقد أثبتت البلدان النامية قدرتها على الابتكار ولكنها تحتاج إلى موارد ومساعدة سياسية من نظيراتها المتقدمة للانتقال إلى نموذج تنمية منخفض الكربون. هذا الدعم من الاقتصادات الغنية - التي أصبحت غنية من خلال ضخ نصيب الأسد من الكربون في الغلاف الجوي - هو السبيل الوحيد للعالم للتخفيف من آثار تغير المناخ.
المصدر:
The Council on Foreign Relations, Foreign Affairs, REVIEWS & RESPONSES, Kelly Sims Gallagher, The Coming Carbon Tsunami: Developing Countries Need a New Growth Model—Before It’s Too Late, January/February 2022, Volume 101, Number 1, p – p: 151 – 164